الاثنين، 5 ديسمبر 2022

ج3.وج4.الفرج بعد الشدة القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي

 

ج3.الفرج بعد الشدة القاضي أبو علي

 المحسن بن علي التنوخي

ووقع إلي هذا الخبر، من طريق آخر، فحدثني طلحة بن محمد بن جعفر الشاهد، وقرأته بالإجازة عن طلحة، قال: حدثني أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، قال: حدثني أبو علي أحمد بن إسماعيل نطاحة، قال: حدثني أبو سهل الرازي القاضي، قال: حدثنا أبو حسان الزيادي القاضي، قال: أضقت إضاقة بلغت بها إلى الغاية، حتى ألح علي الخباز، والقصاب، والبقال، وسائر المعاملين، ولم تبق لي حيلة.
فإني يوماً من الأيام على تلك الحال، مفكراً في أمري، كيف أعمل، وكيف أحتال، إذ دخل علي غلامي، فقال: بالباب حاج يستأذن عليك.
فقلت: أدخله.
فدخل علي رجل خراساني، فسلم، وقال: أنت أبو حسان ؟ قلت: نعم، فما حاجتك ؟ قال: أنا رجل غريب، أريد الحج، ومعي جملة مالي، وهو عشرة آلاف درهم، وقد أحضرته في بدرة معي أسألك أن تقبضها وتدعها قبلك، إلى أن قضي حجي، وأرجع، فإني غريب، وما أعرف أحداً في هذا البلد.
فقلت: هات البدرة.
فسلمها إلي، وخرج بعد أن وزن ما فيها.
فلما خرج، فتحتها على الفور، وأحضرت المعاملين، فقضيت جميع ديوني، واتسعت بالباقي، وقلت: أضمنها في مالي إلى أن يعود من الحج، وإلى أن يجيء، يأتي الله بفرج من عنده.
فكنت في يومي ذاك، في سعة، وأنا فرح، لست أشك في خروج الخراساني.
فلما أصبحت من الغد، دخل علي الغلام، فقال: الخراساني الذي أودعك البدرة، بالباب.
فقلت: أدخله.
فدخل، وقال: اعلم أني كنت عازماً على الحج، ثم ورد علي خبر وفاة أبي، وقد عزمت على الرجوع إلى بلدي فتفضل علي بإعادة البدرة التي أعطيتك أمس.
فورد علي أمر عظيم، لم يرد علي مثله قط، وتحيرت، ولم أدر بما أجيبه، ثم فكرت، فقلت: ماذا أقول له ؟ إن جحدته، قدمني إلى القاضي، واستحلفني فكانت الفضيحة في الدنيا والآخرة والهتك، وإن دافعته، صاح وهتكني.
فقلت له: نعم، عافاك الله، إن منزلي هذا ليس بالحريز، ولما أخذت منك البدرة، أنفذتها إلى موضع أحرز منه، فتعود إلي غداً، لأسلمها إليك.
فانصرف، وبقيت متحيراً، لا أدري ما أعمل، وعظم علي الأمر جداً، فأدركني الليل، وفكرت في بكور الخراساني، فلم يأخذني النوم، ولا قدرت على الغمض.
فقمت إلى الغلام، فقلت: أسرج البغلة.
فقال: يا مولاي، هذا أول الليل، إلى أين تمضي ؟ فرجعت إلى فراشي، فإذا النوم ممتنع علي، فلم أزل أقوم إلى الغلام، وهو يردني، حتى فعلت ذلك مرات، وأنا لا يأخذني القرار.
وطلع الفجر، فأسرج الغلام البغلة، فركبت، وأنا لا أدري إلى أين أتوجه، فطرحت عنان البغلة، وأقبلت أفكر وهي تسير، حتى بلغت الجسر فعدلت بي إليه، فتركتها، فعبرت.
ثم قلت: إلى أين أعبر، إلى أين أتوجه ؟ ولكن إن رجعت، رأيت الخراساني على بابي، ولكن أدعا تمضي حيث شاءت، فمضت البغلة.
فلما عبرت البغلة الجسر، أخذت بي يمنة، ناحية دار المأمون، وتركتها، ومرت، فلم أزل كذلك إلى أن قربت من دار المأمون، والدنيا بعد مظلمة.
فإذا فارس قد تلقاني، فنظر في وجهي، ثم سار وتركني، ثم رجع، وقال: ألست أبا حسان الزيادي ؟ فقلت: بلى.
قال: إليك بعثت.
فقلت: ما تريد، رحمك الله، ومن بعث بك ؟ فقال: الأمير الحسن بن سهل.
فقلت: وما يريد مني الحسن بن سهل ؟، ثم قلت: امض بنا، فمضى حتى استأذن على الحسن بن سهل، فدخلت إليه.
فقال: يا أبا حسان، ما خبرك، وكيف حالك، ولم انقطعت عنا ؟ فقلت: لأسباب، وذهبت لأعتذر عن التخلف.
فقال: دع هذا عنك، أنت في لوثة، وفي أمر ما هو، فإني رأيتك في النوم، في تخليط كثير.
فشرحت له قصتي، من أولها إلى أن لقيني صاحبه، ودخلت عليه.
فقال: لا يغمك الله يا أبا حسان، هذه بدرة للخراساني، مكان بدرته، وهذه بدرة أخرى تتسع بها، فإذا نفدت، أعلمنا.
فرجعت من ساعتي، فدفعت للخراساني بدرته، واتسعت بالباقي، وفرج الله عني، فله الحمد.
وحدثني بهذا الحديث أيضاً، أبو الفرج محمد بن جعفر، من ولد صالح صاحب المصلى قال: حدثنا أبو القاسم علي بن محمد بن أبي حسان الزيادي، وكان محدثاً ببغداد، ثقة، مشهوراً، قال: حدثني أبي، عن أبيه، قال:

كنت وليت القضاء من قبل أبي يوسف القاضي رحمه الله، ثم صرفت، وتعطلت، وأضقت إضاقة شديدة، وركبني دين فادح، لخباز، وبقال، وقصاب، وعطار، وبزاز، وغيرهم، حتى قطعوا معاملتي لكثرة مالهم علي، وإياسهم من أن أقضيهم، فتضاعفت إضاقتي، واشتدت حيرتي.
فإني يوماً بمسجدي، قد صليت بأهله الغداة، ثم انفتلت أدرس أصحابي الفقه إذ جاءني رجل خراساني، وذكر الحديث على نحو ما ذكره طلحة، إلا أنه لم يقل فيه حملة: فإلى....
وقال أبو الفرج في حديثه: فلما بلغت مربعة الخرسي، استقبلني موكب فيه شموع ونفاطات، قد أضاء منه الطريق، فصار كالنهار، فطلبت زقاقاً أستخفي فيه، حتى يجوز الموكب، فلم أجد، فإذا برجل من الموكب، يقول: أبو حسان والله، فتأملته، فإذا هو دينار بن عبد الله، فسلمت عليه.
فقال: إليك جئت، أرسل إلي أمير المؤمنين الساعة، وأمرني أن أركب إليك بنفسي، وأحضره إياك.
فمضيت معه، حتى أدخلني على المأمون.
فقال لي المأمون: ما قصتك ؟ فإني رأيتك في النوم البارحة، والنبي صلى الله عليه وسلم، يأمرني بإغاثتك.
فحدثته بحديثي.
فقال المأمون: أعطوا أبا حسان ثلاث بدر، وولاني الري، وأمرني بالخروج إليها.
قال: فعدت إلى بيتي وما طلع الفجر، فلما كان وقت صلاتي في مسجدي، خرجت، وإذا بالخراساني، فلما قضيت الصلاة، أدخلته إلى البيت، فأخرجت إليه البدر.
فلما رآها، قال: ما هذا ؟ فقصصت عليه القصة، وأعطيته بدرة منها، فأخذها وانصرف.
وذكر محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، في أخبار دينار بن عبد الله: أن رسوله لقي أبا حسان في الطريق، فقال له: قسمت شيئاً على عيالنا، فذكرت عيالك، فأنفذت إليك عشرة آلاف درهم، فأخذها، ورجع من الطريق، وباكره الخراساني، فأعطاه إياها كلها، لأنه كان قد أنفق جميع مال الخراساني، ثم عاد من غد إلى دينار، فعرفه، وشكره، وعرفه الحديث.
فقال: فكأنما قضينا الخراساني في ماله، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم أخرى، ولم يذكر ابن عبدوس في خبره ذكر المنام.
وحدثني أبي هذا الحديث في المذاكرة، قال: حدثني شيخ - ذكره أبي وأنسيته أنا، عن أبي حسان الزيادي، بنحو ما ذكره محمد بن جعفر في حديثه، إلا أنه قال فيه: إن الخراساني قال في حديثه لأبي حسان: إن رجع الحجاج ولم ترني قد رجعت إليك، فاعلم أني هلكت، والبدرة هبة مني إليك، وإن رجعت فهي لي، ثم يتقارب لفظ الحديثين، إلى أن لقيه في الجانب الشرقي قوم فلما رآهم تنحى عن طريقهم، فلما رأوه بطيلسان، بادروا إليه، وقالوا له: أتعرف منزل رجل يقال له أبو حسان الزيادي ؟ فقال: أنا هو.
فقالوا له: أجب أمير المؤمنين، وحمل فأدخل إلى المأمون.
فقال له: من أنت ؟ فقال: رجل من أصحاب أبي يوسف القاضي من الفقهاء وأصحاب الحديث.
قال: بأي شيء تكنى ؟ فقال: بأبي حسان.
فقال: بماذا تعرف ؟ فقال: بالزيادي، ولست منهم، وإنما نزلت فيهم، فنسبت إليهم.
فقال: قصتك، فشرحت له قصتي.
فبكى بكاء شديداً، وقال: ويحك، ما تركني رسول الله أن أنام بسببك، أتاني في أول الليل فقال: أغث أبا حسان الزيادي، فانتبهت ولم أعرفك، واعتمدت السؤال عنك، وأثبت اسمك ونسبك ونمت، فأتاني، فقال كمقالته، فانتبهت منزعجاً، ثم نمت، فأتاني، وقال: ويحك، أغث أبا حسان، فما تجاسرت على النوم، وأنا ساهر، وقد بثثت في طلبك، ثم أعطاني عشرة آلاف درهم، وقال: هذه للخراساني، ثم أعطاني عشرة آلاف درهم أخرى، وقال: اتسع بهذه، وأصلح أمرك، وعمر دارك، واشتر مركوباً سرياً، وثياباً حسنة، وعبداً يمشي بين يدي دابتك، ثم أعطاني ثلاثين ألف درهم، وقال: جهز بها بناتك، وزوجهن، فإذا كان يوم الموكب، فصر إلي، حتى أقلدك عملاً جليلاً، وأحسن إليك.
فخرجت والمال بين يدي محمول، حتى أتيت مسجدي، فصليت الغداة، والتفت فإذا الخراساني بالباب، فأدخلته إلى البيت، وأخرجت بدرة فدفعتها إليه.
فقال: ليس هذه بدرتي، أريد مالي بعينه.
فقصصت عليه قصتي، فبكى، وقال: والله لو صدقتني في أول الأمر عن خبرك لما طالبتك، وأما الآن، فوالله لا دخل مالي شيء من مال هؤلاء، وأنت في حل، وانصرف.
فأصلحت أمري، وبكرت يوم الموكب إلى باب المأمون، فدخلت، وهو جالس جلوساً عاماً.

فلما مثلت بين يديه استدناني، ثم أخرج عهداً من تحت مصلاه، وقال: هذا عهدك على قضاء المدينة الشرقية من الجانب الغربي من مدينة السلام، وقد أجريت عليك في كل شهر كذا وكذا، فاتق الله تدم عليك عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعجب الناس من كلام المأمون وسألوني عن معناه، فأخبرتهم الخبر، فانتشر.
فما زال أبو حسان قاضي الشرقية، إلى آخر أيام المأمون.

حبسه المهدي وأطلقه الرشيد

أخبرني محمد بن الحسن بن المظفر، قال: حدثني أبو عمر محمد ابن عبد الواحد، قال: حدثني بشر بن موسى الأسدي، قال: أخبرني بعض الهاشميين، قال: حبس المهدي يعقوب بن داود وزيره، فطال حبسه، فرأى في منامه، كأن قائلاً يقول له: قل: يا رفيق، يا شفيق، أنت ربي الحقيق، ادفع عني الضيق، إنك على كل شيء قدير.
قال: فقلتها، فما شعرت إلا بالأبواب تفتح، ثم أدخلت على الرشيد، فقال: أتاني الذي أتاك، فاحمد الله عز وجل.
وخلى سبيلي.
وقد روي هذا الخبر، على خلاف هذا، فحدثنا علي بن أبي الطيب، قال: حدثنا ابن الجراح، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثني خالد بن يزيد الأزدي.
وأخبرني محمد بن الحسن بن المظفر، قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن محمد السرخسي، قال: حدثنا أبو عبد الله المقدمي القاضي، قال: حدثنا أبو محمد المعي، قال: حدثنا خالد بن يزيد، قال: حدثنا عبد الله بن يعقوب بن داود، قال: قال لي أبي: حبسني المهدي في بئر بنيت عليها قبة، فكنت فيها خمس عشرة سنة، حتى مضى صدر من خلافة الرشيد، وكان يدلى لي في كل يوم رغيف وكوز ماء، وأؤذن بأوقات الصلاة، فلما كان رأس ثلاث عشرة سنة، أتاني آت في منامي، فقال:
حنا على يوسفٍ ربٌّ فأخرجه ... من قعر جبّ وبئر حولها غمم
فحمدت الله تعالى، وقلت: أتاني الفرج، ثم مكثت حولاً لا أرى شيئاً، فلما كان رأس الحول، أتاني ذلك الآتي، فقال:
عسى فرجٌ يأتي به اللّه إنّه ... له كلّ يوم في خليقته أمر
ثم أقمت حولا لا أرى شيئاً، ثم أتاني ذلك الآتي، بعد الحول، فقال:
عسى الكرب الّذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفكّ عانٍ ... ويأتي أهله النائي الغريب
فلما أصبحت، نوديت، فظننت أني أؤذن بالصلاة، فدلي إلي حبل وقيل لي: شد به وسطك، ففعلت، فأخرجوني، فلما تأملت الضوء، غشي بصري، فأخذ من شعري، وألبست ثياباً، وأدخلت إلى مجلس، فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين.
فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين المهدي، ورحمة الله وبركاته.
فقال: لست به.
فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الهادي، ورحمة الله وبركاته.
فقال: لست به.
فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الرشيد، ورحمة الله وبركاته.
فقال: وعليك السلام، يا يعقوب بن داود، والله ما شفع أحد فيك إلي، غير أني حملت الليلة صبية لي على عنقي، فذكرت حملك إياي على عنقك، فرثيت لك من المحل الذي كنت فيه، فأخرجتك، ثم أكرمني، وقرب مجلسي.
ثم إن يحيى بن خالد تنكر لي، كأنه خاف أن أغلب على الرشيد دونه، فخفته، فاستأذنت في الحج، فأذن لي.
فلم يزل مقيماً بمكة، حتى مات بها.
حدثني أبي في المذاكرة بإسناد له، وكان في الخبر: أن المهدي حبسه في بئر، ووكل أمره إلى خادم له، واستحلفه أن لا يخبر بخبره أحداً من الخلق كلهم، فكان الخادم الموكل به، يزل إليه في كل يوم رغيفين، ودورق ماء، منه شربه وطهوره، وفي البئر موضع يتطهر فيه، فكان كذلك خمس عشرة سنة.
فلما كان بعد خمس عشرة سنة سأل عنه الرشيد فقيل له: سلم إلى فلان الخادم، وذكر أنه مات.
فأحضر الخادم، وسأله عنه، فقال: إنه مات.
فاستثبته، فرأى كلاماً مختلفاً، فجد به، فقال: لا أعرف غير موته، فهدده، فأقام على الإنكار، إلى أن استحضر الرشيد المقارع.
فقال: أنا أصدق، استحلفني أمير المؤمنين المهدي، ألا أخبر بخبره أحداً من الخلق أبداً.
فأكرهه الرشيد، فدل على البئر التي هو فيها، ثم تتفق الروايات.
قال: فلما وقف بين يدي الرشيد، وسلم، قال له الرشيد - مخفياً كلامه - من أمير المؤمنين ؟ فقال: المهدي.
قال: قد مضى لحال سبيله، فسلم على أمير المؤمنين، فسلم.
فقال: قولوا له من أمير المؤمنين ؟ قال: الهادي

قال: قد مضى لحال سبيله، فسلم على أمير المؤمنين، فسلم.
فقال: قولوا له، من أمير المؤمنين ؟ فقال: هارون، ثم تتفق الروايتان.
وروي لي هذا الخبر على وجه آخر، وهو أضعف عندي، غير أني أجيء به كما بلغني، فحدثت بروايات مختلفة، قالوا حدث عبد الله بن أيوب، قال: رأيت يعقوب بن داود في الطواف، فقلت له: كيف كان سبب خروجك ؟ قال: كنت في المطبق حتى خفت على بصري، فأتاني آت في منامي، فقال لي: يا يعقوب كيف ترى مكانك ؟ فقلت: وما سؤالك ؟ أما ترى ما أنا فيه، أليس يكفيك هذا ؟ فقال: أسبغ الوضوء، وصل أربع ركعات، وقل: يا حسن، يا مجمل، يا منعم، يا مفضل، يا ذا الفضل والنعم، يا عظيم، يا ذا العرش العظيم، اجعل لي مما أنا فيه فرجاً ومخرجاً.
فانتبهت، وقلت في نفسي: هذا في النوم، ورجعت إلى نفسي، فحفظت الدعاء، وقمت، فتوضأت، وصليت، ودعوت به، فلما أسفر الصبح، جاؤوني، فأخرجوني.
فقلت: ما دعاني إلا ليقتلني.
فلما رآني، أومأ إليهم، اذهبوا به إلى الحمام، فنظفوه، وأتوني به، فطابت نفسي، وسجدت شكراً لله تعالى، فأطلت السجود.
فقالوا لي: قم.
فقال لهم الرشيد: دعوه ما دام ساجداً، ثم رفعت رأسي، ثم مضى بي إلى الحمام.
فلما خرجت خلع علي، ثم ضرب بيده على ظهري، وقال لي: يا يعقوب، لا يمنن عليك أحد بمنة، فما زلت منذ الليلة قلقاً بأمرك.
المهدي يطلق علوياً من حبسه لمنام رآه
وجدت في بعض الكتب: أن المهدي استحضر صاحب شرطته ليلاً، وقد انتبه من نومه فزعاً، فقال له: ضع يدك على رأسي، واحلف بما أستحلفك به.
قال: فقلت: يدي تقصر عن رأس أمير المؤمنين، ولكن علي وعلي، وحلفت بأيمان البيعة أني أمتثل ما تأمر به.
فقال: صر إلى المطبق، واطلب فلاناً العلوي الحسيني، فإذا وجدته فأخرجه وخيره بين الإقامة عندنا مطلقاً مكرماً محبوراً، وبين الخروج إلى أهله، فإن اختار الخروج قدت إليه كذا وكذا، وأعطيته كذا وكذا، وإن اختار المقام أعطيته كذا وكذا، وهذه توقيعات بذلك.
فأخذتها وصرت إلى من أزاح علتي في الجميع، وجئت إلى المطبق، فطلبت الفتى، فأخرج إلي وهو كالشن البالي، فعرفته أمر أمير المؤمنين، وعرضت عليه الحالين، فاختار الخروج إلى أهله بالمدينة، فسلمت إليه الصلة والحملان.
فلما جاء ليركب ويمضي، قلت: بالذي فرج عنك، هل تعلم ما دعا أمير المؤمنين إلى إطلاقك ؟ قال: إني والله، كنت الليلة نائماً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، في منامي، وقد أيقظني، وقال: يا بني ظلموك ؟ قلت: نعم، يا رسول الله.
قال: قم، فصل ركعتين، وقل بعد الفراغ: يا سابق الفوت، ويا سامع الصوت، ويا ناشز العظام بعد الموت، صل على محمد وعلى آل محمد، واجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، إنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علام الغيوب، يا أرحم الراحمين.
قال: فقمت، وصليت، وجعلت أكرر الكلمات، حتى دعوتني.
قال: فحمدت الله على توفيقي لمسألته، وعدت إلى المهدي، فحدثته بالحديث.
فقال: صدق والله، لقد أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فأمرني بإطلاقه.
وفي خبر آخر: لقد أتاني زنجي في فراشي، بعمود حديد، فال لي: أطلق فلاناً العلوي الحسيني وإلا قتلتك، فانتبهت فزعاً، فما جسرت على النوم، حتى جئتني، فأمرت بإطلاقه.

المعتمد يطلق بريئين من حبسه لمنام رآه

حدثني أبو بكر محمد بن يحيى الصولي، فيما أجاز لي روايته عنه، بعدما سمعته منه، قال: حدثني أحمد بن يزيد المهلبي، قال: كنا ليلة بين يدي المعتمد على الله، فحمل عليه النبيذ فجعل يخفق برأسه نعاساً.
فقال: لا يبرحن أحد، ثم نام مقدار نصف ساعة، وانتبه، وكأنه ما شرب شيئاً.
فقال: أحضروا لي من الحبس رجلاً يعرف بمنصور الجمال، فأحضر.
فقال له: منذ كم أنت محبوس ؟ فقال: منذ ثلاث سنين.
قال: فأصدقني عن خبرك ؟ قال: أنا رجل من أهل الموصل، كان لي جمل أعمل عليه وأعود بكرائه على عيلتي، فضاق الكسب علي بالموصل، فقلت: أخرج إلى سر من رأى فإن العمل ثم أكثر، فخرجت.

فلما قربت منها، إذا جماعة من الجند قد ظفروا بقوم يقطعون الطريق، وكتب صاحب البريد بعددهم، وكانوا عشرة، فأعطاهم واحد من العشرة مالاً على أن يطلقوه، فأطلقوه وأخذوني مكانه، وأخذوا جملي، فسألتهم بالله عز وجل، وعرفتهم خبري، فأبوا، ثم حبسوني، فمات بعض القوم، وأطلق بعضهم، وبقيت وحدي.
فقال المعتمد: أحضروني خمسمائة دينار، فجاؤوه بها.
فقال: ادفعوها إليه، وأجرى عليه ثلاثين ديناراً في كل شهر، وقال: اجعلوا أمر جمالنا إليه.
ثم أقبل علينا، فقال: رأيت الساعة النبي صلى الله عليه وسلم، في النوم، فقال: يا أحمد، وجه الساعة إلى الحبس، وأخرج منصوراً الجمال، فإنه مظلوم، وأحسن إليه، ففعلت ما رأيتم.
قال: ثم نام من وقته، وانصرفنا.
ووقع إلي هذا الخبر، بطريق آخر، بأتم من هذه الرواية، فحدثني أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي، الذي كان كاتب أبي بكر بن رائق، ثم كتب لسيف الدولة، ثم كان آخر تصرف تصرفه، أن كتب للمطيع لله، رحمه الله، على ضياع الخدمة، وخاص أمره، في وزارة أبي محمد المهلبي لمعز الدولة، قال: حدثني أبو علي الأوارجي الكاتب، قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون النديم، قال: كان المعتمد مع سماحة أخلاقه، وكثرة جوده وسخائه، شديد العربدة على ندمائه إذا سكر، لا يكاد يسلم له من العربدة مجلس إلا في الأقل، فاشتهى يوماً أن يصطبح على أترج، فاتخذ له منه شيء كثير، مفرط العدد، وعبي، وحزم بعضه، فاصطبح عليه، ولم يدع شيئاً من الخلع والصلات والحملان، إلا وعمله مع ندمائه في ذلك اليوم، وخصني منه بالكثير، وكان كثير الشرب، وكانت علامته إذا أراد أن ينهض جلساؤه، أن يلتفت إلى سرير لطيف، كان إذا جلس يستند إليه، ويشيل رجليه، كأنه يريد أن يصعد، فيقوم جلساؤه، فإذا كان يريد النوم صعده، فنام، وإن لم يرد النوم، رد رجله، إذا قمنا، وأتم شربه مع بعض خدمه، أو حرمه.
فلما كان ذلك اليوم، جلسنا بحضرته نهارنا أجمع، وقطعة من الليل، ثم رد رجله إلى السرير في أول الليل، فقمنا، وانصرف الجلساء إلى حجرة مرسومة بهم، وانصرفت إلى حجرة مرسومة بي من بينهم.
فلما انتصف الليل، إذا بالخدم يدقون باب حجرتي، فانتبهت مرعوباً، فقالوا: أجب أمير المؤمنين.
فقمت، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى يومنا وبعض ليلتنا، أحسن مضي، وقدرت أني أفلت من عربدته، فقد عن له أن يعربد علي، فاستدعاني في هذا الوقت.
فأتيته وأنا في نهاية الجزع، أفكر كيف أشاغله عن العربدة، إلى أن صرت بحضرته.
فلما رآني قائماً لم يستجلسني، وقال لخادمه: علي بصاحب الشرطة الساعة.
فمت جزعاً، وقلت في نفسي وأنا واقف بين يديه: لم تجر عادته في العربدة باستدعاء صاحب الشرطة، وما هذا إلا لبلية قد احتيل بها علي عنده.
فأقبلت أنظر إليه طمعاً في أن يفاتحني بكلمة، فأداريه في الجواب، وهو لا يرفع رأسه عن الأرض، إلى أن جاء صاحب الشرطة، فرفع رأسه إليه، وقال له: في حبسك رجل يعرف بفلان بن فلان الجمال ؟ وفي رواية: يعرف بمنصور الجمال ؟ قال: نعم.
قال: أحضرنيه الساعة.
فمضى ليحضره، فسهل علي الأمر قليلاً، ووقفت، وهو لا يخاطبني بشيء، إلى أن أحضر الرجل.
فقال له المعتمد: من أنت ؟ قال: أنا منصور بن فلان الجمال.
قال: وما قصتك ؟ قال: أنا مظلوم، حبست منذ كذا وكذا سنة، وأنا رجل من أهل الجبال، كان لي جمال أعيش من فضل أجرتها.
وكان يتقلد بلدنا فلان العامل، فاستدعي إلى الحضرة، فأخذ جمالي غصباً يستعين بها في جمل متاعه.
فتظلمت إليه وصحت، فلم ينفعني ذلك، وقال: إذا صرت بالحضرة رددتها عليك.
فخرجت معه لئلا تذهب الجمال أصلاً، فكنت مع جمالي أخدمها في الطريق.
فلما قربنا من حلوان سل الأكراد منها حملاً محملاً، فبلغه الخبر، فأحضرني، وقال: أنت سرقت الجمل بما عليه، فقلت: غلمانك يعلمون أن الأكراد سلوه.
فقال: الأكراد إنما جاءوا بمواطأة منك، ثم أمر بضربي، وتقييدي، وطرحي على بعض جمالي.
فلما وردنا الحضرة، أنفذت إلى الحبس، وأخذ الجمال، ولم يكن لي متظلم، ولا مذكر ولا متكلم، فطال حبسي، وطالت بي المحنة إلى الآن.

فقال لبعض الخدم: امض الساعة إلى فلان العامل، واقعد على دماغه، ولا تبرح، أو يرد عليه جماله أو قيمتها على ما يريد، فإذا قبض ذلك، فاحمله إلى الخزانة، واكسه كسوة حسنة، وادفع إليه كذا وكذا ديناراً، واصرفه مصاحباً.
ثم قال لصاحب الشرطة: في حبسك رجل يعرف بفلان بن فلان الحداد ؟ قال: نعم، قال: أحضرنيه الساعة، فأحضره.
فقال له: ما قصتك ؟ قال: أنا رجل حبست بظلم، أنا رجل من أهل الشام، وكانت لي نعمة فزالت، فهربت من بلدي واتصلت محنتي إلى أن وافيت الحضرة طلباً للتصرف، فتعذر علي حتى كدت أتلف جوعاً.
فسألت عن عمل أعمله ليلاً لأتوفر نهاراً على طلب التصرف، وأنفق في النهار ما أكسبه ليلاً، فأرشدت إلى حداد يعمل ليلاً، فقصدته، فاستأجرني بدرهم في كل ليلة، وكنت أعمل معه، وكان معه غلام آخر يضرب بالمطرقة، فأفسد ذلك الغلام على الحداد نعلاً كان يضربها، فاغتاظ عليه، ورماه بالنعل الحديد على قلته، فتلف للوقت، فهرب الحداد، وبقيت أنا في الموضع متحيراً لا أدري إلى أين أمضي، وأحس الحارس في الحال بما رابه في الدكان، فهجم علي فوجدني قائماً، والغلام ميتاً فلم يشك أني القاتل، فقبض علي ورفعني، فحبست إلى الآن، فقال لصاحب الشرطة: خل عنه.
وقال لخادم آخر: خذه فغير حاله، وادفع إليه خمسمائة دينار، ودعه ينصرف مصاحباً.
ثم رفع رأسه إلي، وقال: يا ابن حمدون، الحمد لله الذي وفقني لهذا الفعل.
ففرج عني، فقلت: كيف تكلف أمير المؤمنين النظر في هذا بنفسه، في مثل هذا الوقت ؟ فقل: ويحك إني رأيت في منامي رجلاً يقول لي: في حبسك رجلان مظلومان، يقال لأحدهما: منصور الجمال، والآخر: فلان بن فلان الحداد، فأطلقهما الساعة وأحسن إليهما وأنصفهما، فانتبهت مذعوراً، ثم نمت.
فما استثقلت حتى رأيت الشخص بعينه، يقول لي: ويلك آمرك أن تطلق رجلين مظلومين في حبسك، قد طال مكثهما، وأن تنصفهما وتحسن إليهما، فلا تفعل، وترجع تنام ؟ لقد هممت أن أوجعك، فكاد يمد يده إلي.
فقلت له: يا هذا من أنت ؟ فقال: أنا محمد رسول الله، فكأني قبلت يده، وقلت: يا رسول الله، ما عرفتك، ولو عرفتك ما تجاسرت على تأخير أمرك.
قال: قم، فاعمل في أمرهما الساعة، بما أمرتك به، فانتبهت مذعوراً، فاستدعيتك لتشاهد ما يجري.
فقلت: هذه عناية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمير المؤمنين، واهتمام بما يصلح دينه، ويثبت ملكه، ومنة عظيمة عليه، لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال: امض فقد أزعجناك، فعدت إلى حجرتي.
فلما كان من الغد عشياً، دخلت إليه وهو جالس على الرسم فأحببت أن أعرف الجلساء ما جرى البارحة، ليسر هو بذلك، وكنت أعرف من طبعه أنه يحب الإطراء والمدح، ونشر ما هذا سبيله، فإنه إذا عمل جميلاً أكثر من ذكره، وتبجح به، وإن كان صغيراً.
فقلت له: إن رأى أمير المؤمنين أن يخبر خدمه، بما كان من المعجزة البارحة، وعناية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بخلافته.
فقال: وما ذاك ؟ فقلت: إحضاري البارحة، وإحضار صاحب الشرطة، والجمال، والحداد، ورؤياه النبي صلى الله عليه وسلم، وما أمره به فيهما، وما تقدم به إلى أمير المؤمنين من إنصافهما.
فقال: والله ما أذكر من هذا شيئاً، وما كنت إلا سكران، نائماً طول ليلتي، وما انتبهت.
فقلت: بلى يا سيدي.
فتنكر، وقال: يا ابن حمدون قد صرت تغالطني وتخادعني بالكذب ؟ فقلت: أعيذ أمير المؤمنين بالله، هذا أمر مشهور في الدار عند الخدم الخاصة وصاحب الشرطة نفسه، وقصصت عليه القصة، وشرحتها.
فاستدعى الخدم، فتحدثوا بمثل ما ذكرته، فأظهر تعجباً شديداً، وحلف بالله العظيم، وبالبراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالنفي من العباس، أنه لا يذكر شيئاً من ذلك، ولا يعلم إلا أنه كان نائماً، ولا رأى مناماً، ولا انتبه، ولا جلس، ولا استدعى أحداً، ولا أمر بأمر.
فما رأيت أعجب من هذا المنام والحال، ولا أطرف من هذا الاتفاق في نسيانه بعد ذلك.

ووجدت في خبر آخر، قريب من هذا، ولا يذكر فيه حديث الأترج، وذكر فيه أن اسم الجمال، كان نصراً، وأنه كان من نهاوند، وله جمال يكريها، وأن صاحب المعونة، اكترى منه عشرين جملاً، وحمل عليها عشرين رجلاً من الأكراد أسرى، ليحملهم إلى الحضرة، فسار الجمال معهم، فهرب منهم في بعض الطريق، واحد، فوقع لصاحب المعونة أن نصراً الجمال هربه، فقيده، وحمله مكانه، فلما دخلوا الحضرة، أنفذ الجمال مع القوم، إلى الحبس، وأخذ صاحب المعونة جماله.

السكر

السكر، في اللغة: حالة تعترض بين المرء وعقله المنجد، والسكر من الخمر عند أبي حنيفة، أن لا يعلم الأرض من السماء، وعند الشافعي وأبي يوسف ومحمد، أن يختلط كلامه، وعند آخرين، أن يختلط في مشيته إذا تحرك التعريفات 81.
والسكر موجب للحد، أي العقوبة المقررة، ويعتبر حقاً من حقوق الله تعالى التعريفات 57، وقد جلد رسول الله صلوات الله عليه في الخمر أربعين جلدة، وكذلك فعل أبو بكر الصديق، أما الفاروق عمر، فجلد ولده عبد الرحمن، حد الخمر، ثمانين جلدة، وأقيم الحد في عهد عثمان على الوليد بن عقبة، أمير العراق، وأخي عثمان لأمه، فجلد أربعين جلدة ابن الأثير 3 - 107 ومروج الذهب للمسعودي 1 - 533، 546.
أما في عهد الأمويين، فإن يزيد بن معاوية كان يدمن شرب الخمر، فلا يمسي إلا سكران، ولا يصبح إلا مخموراً، وكان عبد الملك يسكر في كل شهر مرة، حتى لا يعقل في السماء هو أو في الماء، وكان الوليد بن عبد الملك يشرب يوماً، ويدع يوماً، وكان سليمان ابن عبد الملك، يشرب في كل ثلاث ليال ليلة، وكان هشام يكسر في كل جمعة، وكان يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد يدمنان الشرب واللهو، وكان مروان بن محمد يشرب ليلة الثلاثاء وليلة السبت.
أما العباسيون، فقد كان أبو العباس يشرب عشية الثلاثاء وحدها، وكان المهدي، والهادي يشربان يوماً، ويدعان يوماً، وكان الرشيد يشرب في كل جمعة مرتين، وكان المأمون في أول أيامه يشرب الثلاثاء والجمعة، ثم أدمن الشراب عند خروجه إلى الشام في السنة 215 إلى أن توفي، وكان المعتصم لا يشرب يوم الخميس ولا يوم الجمعة، وكان الواثق ربما أدمن الشراب وتابعه، غير أنه لم يكن يشرب ليلة الجمعة، ولا في يومها التاج في أخلاق الملوك 151 - 153.
أقول: الذي قرأته في الأغاني 6 - 77 أن هشام بن عبد الملك لم يكن يشرب، ولا يسقي أحداً بحضرته مسكراً، وكان ينكر ذلك ويعاقب عليه، وأن أبا جعفر المنصور لم يكن يشرب غير الماء التاج 33 ومحاضرات الأدباء 2 - 694، وكان المهدي لا يشرب الأغاني 5 - 160 لا تحرجاً ولكن كان لا يشتهيه الطبري 8 - 160، وأن موسى الهادي وهارون الرشيد كانا مستهترين بالنبيذ نهاية الأرب 4 - 330، وأن الأمين كان لا يبالي مع من قعد ولا أين قعد التاج 42، أما المتوكل، فكان منهمكاً في اللذات والشراب تاريخ الخلفاء 349 وكان يعربد على جلسائه إذا سكر الطبري 9 - 167 أما المهتدي، محمد بن الواثق، فقد كان زاهداً ورعاً تاريخ الخلفاء 361، وكان المعتمد منهمكاً في اللهو واللذات تاريخ الخلفاء 363 وكان المقتدر مؤثراً للشهوات والشراب تاريخ الخلفاء 384 أما القاهر فكان لا يصحو من السكر تاريخ الخلفاء 386 أما المقتفي فلم يشرب النبيذ قط تاريخ الخلفاء 394 وكذلك القادر بالله تاريخ الخلفاء 412 والقائم ابنه تاريخ الخلفاء 417 والمقتدي حفيد القائم تاريخ الخلفاء 423.
أما بشأن رجال الدولة، فقد ذكر أن الفضل بن يحيى البرمكي، لم يكن يشرب الخمر، وعتب عليه الرشيد، وثقل عليه مكانه لتركه الشرب معه، وكان الفضل يقول: لو علمت أن الماء ينقص من مروءتي ما شربته الطبري 8 - 293، وكان سيف الدولة الحمداني لا يشرب النبيذ الملح للحصري 266، وكذلك كان سيف الدولة الأسدي صدقة بن دبيس، فإنه لم يشرب مسكراً المنتظم 9 - 159.
أبو بكر المادرائي يولي عاملاً وهو على صهوة جواده
وحدثني أبو محمد الصلحي، قال: حدثني أبو بكر محمد بن علي المادرائي بمصر، وكان شيخاً جليلاً، عظيم الحال والنعمة والجاه، قديم الرياسة والولايات الكبار للأعمال، وقد وزر لخمارويه بن أحمد بن طولون، وتقلد مصر مرات، وعاش ستاً وتسعين سنة، ومات في سنة نيف وأربعين وثلثمائة، قال:

كنت أكتب لخمارويه بن أحمد بن طولون، في حداثتي، فركبتني الأشغال وقطعني ترادف الأعمال، عن تصفح أحوال المتعطلين.
وكان ببابي شيخ من شيوخ الكتاب قد طالت عطلته، وقد غفلت عن تصريفه.
فرأيت ليلة في منامي، أبي، وكأنه يقول لي: ويحك يا بني أما تستحي من الله، أن تتشاغل بأعمالك والناس ببابك يتلفون ضراً وهزالاً ؟ هوذا فلان، شيخ من شيوخ الكتاب، قد أفضى أمره إلى أن تقطع سراويله، فما أمكنه أن يشتري بدله، أحب أن لا تغفل أمره أكثر من هذا.
فانتبهت متعجباً، واعتقدت الإحسان إلى الشيخ من غد، ونمت، فأصبحت وقد أنسيت أمره.
فركبت إلى دار خمارويه بن أحمد، فإني لأسير إذ تراءى لي الشيخ على دويبة له ضعيفة، فأهوى ليترجل لي، فانكشف فخذه، فإذا هو لابس خفاً بلا سراويل.
فحين وقعت عيني على ذلك، ذكرت المنام، فقامت قيامتي، فوقفت في موضعي، واستدعيته، فقلت له: يا هذا، ما حل لك ما صنعت بنفسك من تركت إذكاري بأمرك، أما كان في الدنيا من يوصل لك رقعة، أو يخاطب في أمرك ؟ الآن قد قلدتك الناحية الفلانية، ورزقتك رزقها وهو في كل شهر مائتا دينار، وأطلقت لك من خزانتي ألف دينار معونة، وأمرت لك من الثياب والحملان بكذا وكذا، فاقبض ذلك واخرج، فإن حسن أثرك في عملك، زدتك، وفعلت بك وصنعت.
وضممت إليه من يتنجز له ذلك.

أدرك أبا محمد الأزرق الأنباري

حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول الأنباري التنوخي، قال: خرج أخي أبو محمد الحسن بن يوسف، يقصد أخانا أبا يعقوب إسحاق ابن يوسف وهو حينئذ بمصر، ومعه زوجة كانت لأبي يعقوب إسحاق ببغداد، وبنية له منها، ومضى.
فلما عاد حدثني أنه سلك في قافلة كبيرة، من هيت على طريق السماوة، يريد دمشق، قال: فلما حصلنا في أعماق السماوة، أخفرتنا خفراؤنا، وجاء قوم من الأعراب، فظاهروهم علينا، وأظهروا أنهم من غيرهم، وقطعوا علينا، فاستاقوا ركائبنا، فبقيت أنا والناس مطرحين على الماء الذي كنا نزلنا عليه بلا جمل، ولا زاد، ولا دليل، فأيسنا من الحياة.
فقلت للناس: إن الموت لا بد منه على كل حال، أقمنا في أماكننا أم سرنا، فلأن نسير طلب الخلاص فلعل الله أن يرحمنا ويخلصنا، أولى من أن نموت ها هنا، وإن متنا في سيرنا كان أعذر.
فساعدوني، وسرنا يومنا وليلتنا، وأنا أحمل الصبية ابنة أخي، لأن أمها عجزت عن حملها، وكلما طال علينا الطريق، ولم نر إنساناً ولا محجة، أحسسنا بالهلاك، ومات منا قوم، وأنا خلال ذلك، قد بدأت بقراءة ختمة، وأنا متشاغل بها، وبالدعاء.
إلى أن وقعنا في اليوم الثاني، على حلة أعراب، فأنكرونا، فلم أعمل عملاً، حتى ولجت بيت امرأة منهم، فأمسكت ذيلها، وكنت سمعت أن الإنسان إذا عمل ذلك أمن شرهم، ووجب حقه عليهم، ثم تفرقنا في البيوت.
واختلفت أحوال الناس، فأما أنا، فإن صاحب البيت الذي نزلت عليه، لما رأى هيبتي ودرسي للقرآن، أكرمني، ولم أزل أحادثه وأرفق به.
فقال لي: ما تشاء ؟ فقلت: تركبني وهذه المرأة، وهذه الصبية، راحلة، وتسير معنا إلى دمشق على راحلة أخرى، بزاد وماء، حتى أعطيك ثمن راحلتك وأهبها لك، وأقضي حقك بعد هذا.
قال: فتذمم واستحيا، وقدرت أني إذا دخلت دمشق، وجدت بها من أصدقاء أخي، من آخذ منه ما أريد.
فكساني الأعرابي، وكسا المرأة والصبية، ووطأ لي راحلة، وحمل معنا من الماء والزاد كفايتنا، وركب هو راحلة أخرى، وكان أكثر من وصل معنا إلى ذلك الموضع، قد تأتى له مثل ما تأتى لي، فصرنا رفقة صالحة العدد.
فلما كان بعد أيام، شارفنا دمشق مع طلوع الشمس، فإذا بأهلها قد خرجوا يستقبلوننا، وكل من له صديق أو معرفة، يسأل عنه، وقد بلغهم خبر القطع، فما شعرت إلا بإنسان يسأل عني، بكنيتي ونسبي.
فقلت: ها أنا ذا.
فعدل إلي، وقال: أنت أبو محمد الأزرق الأنباري ؟ فقلت: نعم.
فقال: إلي، وأذ بخطام راحلتي، وتبعني الأعرابي براحلته، حتى دخلنا مع الرجل دمشق.
فجاء بنا الرجل، إلى دار حسنة سرية، تدل على نعمة حسنة، فأنزلنا، ولم أشك أنه صديق لأخي.
فنزلت، وأنزلت الأعرابي معي، وأخذت جمالنا، وأدخلنا الحمام وألبست خلعة نظيفة، وفعل بالمرأة والصبية مثل ذلك، وأقمت عنده يومين في خفض عيش، لا أسأله عن شيء، ولا يسألني.

فلما كان في اليوم الثالث، قال: ما صورة هذا الأعرابي معك ؟ فأخبرته بما أخذنا منه.
فقال لي: خذ ما تريد من المال.
فقلت: أريد كذا وكذا ديناراً، فأعطاني ذلك، فدفعته إلى الأعرابي، وسلمت إليه جمليه.
وسألت الرجل أن يزوده زاداً كثيراً لا يكون مثله في البادية، فأخرج له شيئاً كثيراً، وخرج الأعرابي شاكراً.
فقال لي الرجل: إلى أين تريد من البلاد، وكم يكفيك من النفقة ؟ فلما قال لي ذلك، ارتبت به، وقلت: لو كان هذا من أصدقاء أخي الذين كاتبهم بتفقدي، لكان يعرف مقصدي.
فقلت له: كم كاتبك أخي أن تدفع إلي ؟ قال: ومن أخوك ؟ قلت: أبو يعقوب الأزرق الأنباري، الكاتب بمصر.
فقال: والله، ما سمعت بهذا الاسم قط، ولا أعرفه.
فورد علي أعجب مورد، وقلت له: يا هذا، إني ظننتك صديقاً لأخي، وأن ما عاملتني به من الجميل من أجله، فانبسطت إليك بالطلب، ولو لم أعتقد هذا لانقبضت فما السبب فيما عاملتني به ؟ فقال: أمر هو أوكد من أمر أخيك، يجب أن يكون انبساطك إليه أتم.
فقلت: ما هو ؟.
قال: إن خبر الوقعة بالقافلة التي كنت فيها، بلغنا في يوم كذا وكذا، فما بقي كبير أحد بدمشق، إلا وردت عليه مصيبة عظيمة، إما بذهاب مال، أو بغم على صديق، غيري، فإني لم يكن لي شيء من ذلك يتعلق قلبي به، واتعد الناس للخروج، لتلقي المنقطعين، وإصلاح أحوالهم، ولم أعزم أنا.
فلما كان في الليل، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وهو يقول لي: أدرك أبا محمد الأزرق الأنباري، وأغثه، وأصلح شأنه بما يبلغه مقصده، فلما أصبحت، خرجت مع الناس، فسألت عنك، فكان ما رأيت، والآن اذكر ما تريده.
فبكيت بكاء شديداً، لم أقدر معه على خطابه مدة، ثم نظرت إلى ما يبلغني مصر، فطلبته منه، فأخذته، وأصلحت أمري، وسألت الرجل عن اسمه، فقال: أنا فلان بن فلان الصابوني ذكره أبو محمد، وأنسيه أبو الحسن.
قال: فلما بلغت إلى مصر، حدثت أخي بالحديث، فعجب منه، وبكى.
قال أبو الحسن: وضرب الدهر ضربه، وورد أبو يعقوب أخي إلى بغداد بعد سنين، فتذاكرنا هذا الحديث.
فقال أخي: لما عرفني أخي أبو محمد، ما عامله به ابن الصابوني الدمشقي هذا، جعلته صديقاً لي، فكنت أكاتبه.
فلما وردت إلى دمشق، وجدت حاله قد اختلت، لمحن لحقته، فوهبت له ضيعتي بدمشق، وكانت جليلة الغلة والقيمة، فسلمتها إليه، مكافأة لما عامل به أبا محمد أخي.

اعتقلهم الوزير ابن الزيات وأطلقوا لموت الواثق

قال محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، حدثني الحسين بن علي الباقطائي، قال: حدثني أبي، قال: قال لي أحمد بن المدبر: لما أمر محمد بن عبد الملك بحبسي، أدخلت محبساً فيه أحمد بن إسرائيل، وسليمان بن وهب، وهما يطالبان، فجعلت في بيت ثالث، فكنا نتحدث ونأكل جميعاً، وربما أدخل إلينا النبيذ، فنشرب.
وكان أحمد بن إسرائيل شديد الجبن، وكان ينكر علينا، ويمنعنا أن نتحدث بشيء، أو نرجو لأنفسنا.
فجاءني يوماً سليمان بن وهب، فقال لي: رأيت البارحة في نومي، كأن قائلاً يقول لي: يموت الواثق إلى ثلاثين يوماً، فقم بنا إلى أبي جعفر نحدثه.
فقلت: والله، إن سمع بهذا أبو جعفر، ليشقن ثوبه، وليسدن أذنه خوفاً.
فقال لي: قم على كل حال، فقمنا فدخلنا عليه، فأخبره سليمان بما رأى.
فقال له: يا هذا، أنت أجسر الناس، وأشدهم جناية على نفسك وعلينا، إنما تريد أن يسمع هذا فنقتل.
فقال له: فتكتب هذه الرؤيا عندك، لتمتحن صدقها.
فنفر، وقال: أنا لا أكتب مثل هذا، فكتبته أنا في رقعة صغيرة. فلما كان يوم الثلاثين، دخل علي أحمد بن إسرائيل فقال لي: يا أبا الحسن، هذا يوم الثلاثين، فأخرجت الرقعة، فإذا هو قد حفظ اليوم، ومضى يومنا إلى آخره.
فلما كان الليل، لم نشعر إلا والباب يدق دقاً شديداً، وصاح بنا صائح: البشرى، قد مات الواثق، اخرجوا.
فقال أحمد بن إسرائيل: قوموا بنا، فقد حقق الله الرؤيا، وأتانا بالفرج، وصدقت الرؤيا.
فقال سليمان بن وهب: كيف نمشي مع بعد منازلنا ؟ ولكن نوجه من يجيئنا بما نركب.
فاغتاظ أحمد بن إسرائيل، وقال: نعم، نقعد، حتى يجلس خليفة آخر، فيقال له: إن في الحبس جماعة من الكتاب عليهم أموال، فيأمر بالتوثق منا، إلى أن ينظر في أمرنا، قم عافاك الله، حتى نمر.
فخرج، وخرجنا على أثره.

فقبل أن نخرج من باب الهاروني، سمعنا رجلين يقول أحدهما للآخر: سأل الخليفة جعفر المتوكل عمن في الحبس، فقيل: فيه جماعة من الكتاب، فقال: يكونون فيه إلى أن ننظر في أمورهم.
فجددنا في المشي وقصدنا غير منازلنا، واستترنا.
وبحثنا عن الأخبار، فبلغنا إقرار الخليفة محمد بن عبد الملك، فكتبت إليه رقعة عن جماعتنا، نعرفه خبرنا، واتساع آمالنا فيه، ونستأذنه فيما نعمل.
فلما وصلت إليه الرقعة، وقع على ظهرها: لم استخفيتم ؟ وليس منكم إلا من عنايتي تخصه، ورأبي فيه جميل، أما أبو أيوب فقد تكلم في حقه أبو منصور إيتاخ، واستوهبه، فوهب له، وأمرت باحضاره ليخلع عليه، فليحضر، وأما أبو جعفر فإنه طولب بما لا يلزمه، وقد وضحت حجته في بطلانه، فليصر إلي، وأما أبو الحسن فإن قذف بباطل، فاظهروا جميعاً، واثقين بما عندي من حياطتكم ورعايتكم.
فصرنا إليه جميعاً، وزال عنا ما كنا فيه، فخلع على سليمان خاصة.

النبيذ

النبيذ: الخمر المعتصر من التمر، أو العنب، أو العسل، وسمي نبيذاً، لأن الذي يتخذه يأخذ تمراً أو زبيباً، فيلقيه في وعاء ويصب عليه الماء، وينبذه حتى يفور، ويصير مسكراً، والمطبوخ منه هو الذي يعرض على النار، وخير أنواع النبيذ هو القطربلي، من نتاج قطربل إحدى ضواحي بغداد، وهي مشهورة بخمرها معجم البلدان 4 - 133.
وللاطلاع على أنواع النبيذ راجع ما كتبه أبو الحسن علي بن أبي الحزم القرشي المتطبب المعروف بابن النفيس في مطالع البدور 1 - 140، ولزيادة التفصيل راجع كتاب الأشربة لابن قتيبة.
ومما يلاحظ أن العراقيين كانوا لا يرون بشرب النبيذ بأساً، أما الآن فهم يرون حرمته، والقليل منهم من يشربه، وقد كان عند أهل العراق لشرب النبيذ آيين، وصفه القاضي التنوخي في القصة 8 - 109 من كتاب نشوار المحاضرة، فيما يتعلق بترتيب مجلس الشراب، وما فيه من تماثيل العنبر، وأجاجين ماء الورد، والصواني، والمغاسل، والمراكن، والخرداذيات، والمدافات التي تشتمل على الأنبذة، وكيف يختار النبيذ، ومن يختاره، وكيف يتم السقي، ومن يكون الساقي.
وفي القصة 3 - 69 أورد التنوخي قصة أشار فيها إلى آيين المنادمة الذي يفرض على النديم أن يقبل يد الملك أولاً، ثم يقبل القدح ثانياً، ويشرب، وإذا قدم للملك شراباً، أو مأكلاً، فإن عليه أن يتناول منه قبل الملك.
كما أورد التنوخي في نشواره وصفاً لأحد مجالس شرب المقتدر القصة 1 - 158 ولأحد مجالس شرب الراضي القصة 1 - 159 ولأحد مجالس شرب المتوكل القصة 1 - 162 ولأحد مجالس شرب عضد الدولة القصة 4 - 44 ولأحد مجالس شرب أبي القاسم البريدي القصة 1 - 164 ولأحد مجالس شرب الوزير المهلبي، وزير معز الدولة القصة 1 - 163، وفي معجم الأدباء 5 - 334 وصف لمجلس من مجالس شرب الوزير المهلبي، كان يجتمع فيها بأصحابه من شيوخ القضاة، في كل أسبوع مرتين، فيلبسون المصبغات، ويوضع أمام كل واحد منهم طاس من الذهب وزنه ألف مثقال، مملوء شراباً قطربلياً عكبرياً، فيشربون، ويطربون، ويرقصون، وإلى هذا المجلس أشار السري الرفاء في قوله ديوان السري الرفاء 246:
إذا سقى اللّه منزلاً فسقى ... بغداد ما حاولت من الديم
يا حبّذا صحبة العلوم بها ... والعيش بين اليسار والعدم
كيف خلاصي من العراق وقد ... أثرت فيها معادن الكرم
رأيت فيها خلاعة وصلت ... أطرافها بالعلوم والحكم
مجالس يرقص القضاة بها ... إذا انتشوا في مخانق البرم
كأنّهم من ملوك حمير ما ... أوفت أكاليلهم على اللمم
وصاحبٍ يخلط المجون لنا ... بشيمة حلوة من الشيم
تخضب بالراح شيبه عبثاً ... أنامل مثل حمرة العنم
راجع في كتاب مطالع البدور ما ورد في الراح، وفي آنيتها، واستعمالها، وما يجب على شاربيها، ومستهديها، ووصافها، والمتنادمين عليها، ومسامراتهم، وغنائهم 1 - 128 - 229.

ومن أراد التوسع في الاطلاع على مجالس شرب الخلفاء والأمراء والشعراء، فعليه بكتاب الديارات للشابشتي تحقيق كوركيس عواد، وكتاب قطب السرور في أوصاف الخمور للرقيق النديم، فهما جامعان للكثير من هذه الأخبار، وفي العقد الفريد 6 - 352 - 373 بحث عن النبيذ، وتحليله، وتحريمه، وعن الفرق بين النبيذ والخمر.

من شعر سليمان بن وهب لما حبس

قال: وفي هذه الحبسة كتب سليمان بن وهب إلى أخيه الحسن بن وهب فيما حكاه محمد بن عبدوس:
هل رسولٌ وكيف لي برسول ... إنّ ليلي ليل السقيم العليل
هل رسول إلى أخي وشقيقي ... ليت أنّي مكان ذاك الرّسول
يا أخي لو ترى مكاني في الحب ... س وحالي وزفرتي وعويلي
وعثاري إذا أردت قياماً ... وقعودي في مثقلات الكبول
لرأيت الّذي يغمّك في الأع ... داء أن يسلكوا جميعاً سبيلي
هذه جملة أراني غنّياً ... معها عن أذاك بالتفصيل
ولعلّ الإله يأتي بصنعٍ ... وخلاصٍ وفرجة عن قليل
وذكر أبياتاً أخر، تماماً لهذه الأبيات، لم أذكرها، لأنها ليست من هذا المعنى، ثم قال: وقد ذكر محمد بن داود، في كتابه المسمى كتاب الوزراء من خروج سليمان بن وهب من حبس الواثق غير هذا، قال في كتابه: حدثني أبو القاسم عبيد الله بن سليمان، واقتص محمد بن عبدوس، قصة طويلة، ليس فيها ذكر منام، فذكرتها أنا في كتابي هذا، في باب من خرج من حبس أو أسر أو اعتقال، إلى سراح وسلامة وصلاح حال، ورويتها عن علي بن عيسى، عن عبيد الله بن سليمان، بألفاظ قوية، أقوى من الألفاظ التي أوردها ابن عبدوس، ولم أذكرها ها هنا، لأن هذا الخبر، مختص بالمنامات، فجعلته في بابه، وأوردت تلك القصة في الباب المفرد لأمثالها.
بين الوزير المهلبي والحسين السمريحدثني علي بن محمد الأنصاري الخطمي، قال: حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد السمري كاتب الديوان بالبصرة، قال: كان أبو محمد المهلبي، في وزارته، قبض علي بالبصرة، وطالبني بمال، وحبسني حتى يئست من الفرج، فرأيت ليلة في المنام، كأن قائلاً يقول لي: اطلب من ابن الراهبوني دفتراً خلقاً عنده، على ظهره دعاء، فادع الله به، فإنه يفرج عنك، وكان ابن الراهبوني هذا، صديقاً لي من تناء أهل واسط، مقيماً بالبصرة.
فلما كان من غد، جاءني، فقلت له: عندك دفتر على ظهره دعاء.
فقال لي: نعم.
قلت: جئني به، فجاءني به، فرأيت مكتوباً على ظهره: اللهم أنت أنت، انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الآمال إلا فيك، صل على محمد وعلى آل محمد، ولا تقطع اللهم منك رجائي؛ ولا رجاء من يرجوك في شرق الأرض وغربها، يا قريباً غير بعيد، ويا شاهداً لا يغيب، ويا غالباً غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، وارزقني رزقاً واسعاً من حيث لا أحتسب، إنك على كل شيء قدير.
قال: فواصلت الدعاء بذلك، فما مضت إلا أيام يسيرة، حتى أخرجني المهلبي من الحبس، وقلدني الإشراف على أحمد الطويل، في أعماله بأسافل الأهواز.
قال لي أبو الحسن الأنصاري: قال لي أبو علي زكريا بن يحيى الكاتب النصراني، حدثني بهذا الحديث أبو عبد الله السمري، وكتبت عنه الدعاء، ونقلته، وحفظته، وتقلبت بي الأحوال، فكتبت لأبي جعفر ممله، صاحب مائدة معز الدولة، فاعتقلني بعد مدة، ونكبني، فواصلت الدعاء به، فأطلقني بعد أيام يسيرة.
رأى في المنام أن غناه بمصرحدثني أبو الربيع سليمان بن داود البغدادي، صاحب كان لأبي، وكان قديماً يخدم القاضيين أبا عمر محمد بن يوسف، وابنه أبا الحسين في دورهما، وكانت جدته تعرف بسمسمة، قهرمانة كانت في دار القاضي أبي عمر محمد بن يوسف رحمه الله، قال: كان في جوار القاضي قديماً، رجل انتشرت عنه حكاية، وظهر في يده مال جليل، بعد فقر طويل، وكنت أسمع أن أبا عمر حماه من السلطان، فسألت عن الحكاية، فدافعني طويلاً، ثم حدثني، قال: ورثت عن أبي مالاً جليلاً، فأسرعت فيه، وأتلفته، حتى أفضيت إلى بيع أبواب داري وسقوفها، ولم يبق لي من الدنيا حيلة، وبقيت مدة بلا قوت إلا من غزل أمي، فتمنيت الموت.
فرأيت ليلة في النوم، كأن قائلاً يقول لي: غناك بمصر، فاخرج إليها.

فبكرت إلى أبي عمر القاضي، وتوسلت إليه بالجوار، وبخدمة كانت من أبي لأبيه، وسألته أن يزودني كتاباً إلى مصر، لأتصرف بها، ففعل، وخرجت.
فلما حصلت بمصر، أوصلت الكتاب، وسألت التصرف، فسد الله علي الوجوه حتى لم أظفر بتصرف، ولا لاح لي شغل.
ونفدت نفقتي، فبقيت متحيراً، وفكرت في أن أسأل الناس، وأمد يدي على الطريق، فلم تسمح نفسي، فقلت: أخرج ليلاً، وأسأل، فخرجت بين العشاءين، فما زلت أمشي في الطريق، وتأبى نفسي المسألة، ويحملني الجوع عليها، وأنا ممتنع، إلى أن مضى صدر من الليل.
فلقيني الطائف، فقبض علي، ووجدني غريباً، فأنكر حالي، فسألني عن خبري، فقلت: رجل ضعيف، فلم يصدقني، وبطحني، وضربني مقارع.
فصحت: أنا أصدقك.
فقال: هات.
فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها، وحديث المنام.
فقال لي: أنت رجل ما رأيت أحمق منك، والله لقد رأيت منذ كذا وكذا سنة، في النوم، كأن رجلاً يقول لي: ببغداد في الشارع الفلاني، في المحلة الفلانية - فذكر شارعي، ومحلتي، فسكت، وأصغيت إليه - وأتم الشرطي الحديث فقال: دار يقال لها: دار فلان - فذكر داري، واسمي - فيها بستان، وفيه سدرة، وكان في بستان داري سدرة، وتحت السدرة مدفون ثلاثون ألف دينار، فامض، فخذها، فما فكرت في هذا الحديث، ولا التفت إليه، وأنت يا أحمق، فارقت وطنك، وجئت إلى مصر بسبب منام.
قال: فقوي بذلك قلبي، وأطلقني الطائف، فبت في بعض المساجد، وخرجت مع السحر من مصر، فقدمت بغداد، فقطعت السدرة، وأثرت تحتها، فوجدت قمقماً فيه ثلاثون ألف دينار، فأخذته، وأمسكت يدي، ودبرت أمري، فأنا أعيش من تلك الدنانير، من فضل ما ابتعت منها من ضيعة وعقار إلى اليوم.

خزيمة بن هازم يصرف الحراني ويعقد له على طريق الفرات

وجدت في كتاب أبي الفرج عبد الواحد المخزومي الحنطبي، عن علي ابن العباس النوبختي، قال: حدثني أحمد بن عبد الله التغلبي، قال: كان من بقايا شيوخ خراسان، ممن يلزم دار العامة بسر من رأى، شيخ يكنى أبا عصمة، وكان يحدثنا كثيراً، بأخبار الدولة وأهلها فحدثنا يوماً: أن خزيمة بن خازم، كان يجلس في داره للناس، في كل يوم ثلاثاء، فلا يحجب عنه أحد، ولا يستأذن لمن يدخل، إنما يدخلون أرسالاً، بغير إذن، فمن كان من الأشراف ووجوه الناس، سلم وانصرف، ومن كان من طلاب الحوائج، أو خطاب التصرف، دفع رقعته إلى الحاجب، فيجتمع الناس ويدخلون، فيعرض رقاعهم عليه.
وكان قد أفرد لهذا كاتباً حصيفاً يقال له: الحسن بن مسلمة، يتصفح الرقاع قبل عرضها عليه، فما كان يجوز أن يوقع عنه فيه بخطه، وقع وسلمه إلى أربابه، وما كان لا بد من وقوفه عليه، وتوقيعه فيه بخطه، أوقفه عليه، ومن كان من الناس زائراً، أو مسترفداً، عرضت رقعته عليه، فيكون هو الموقع فيها بما يراه فلا يكاد ينصرف أحد من ذلك الجمع العظيم المفرط، إلا وهو مسرور بقضاء حاجته.
قال أبو عصمة: وكان ممن يتصرف في الأعمال، رجل من الأعراب، ذو لسان وفصاحة، يقال له: حامد بن عمرو الحراني، وكان فيه إلحاح شديد، وملازمة تامة إذا تعطل، فيؤذي بذلك ويبرم.
وكان يخاطب خزيمة في أيام الثلاثاء، ولا يقنع بذلك، حتى يلازم بابه كل يوم، وإذا ركب خاطبه على الطريق، وربما تعرض له في دار الخليفة فخاطبه، ولم يكن في طبع خزيمة احتمال مثل ذلك.
قال أبو عصمة: فحدثني الحسن بن مسلمة، كاتب خزيمة، قال: نظر خزيمة إلى هذا الرجل في داره، وكان قد لقيه في الطريق، فخاطبه قبل ذلك بيوم، وأضجره، ووافق من خزيمة ضجراً بشيء حدث من أمور المملكة، مع ما فيه من الجبروتية والكبر.
فحين خاطبه الرجل، صاح فيه، وأمر بإخراجه من داره إخراجاً عنيفاً، ثم دعاني، فقال: والله، لئن دخل هذا داري، لأضربن عنقه، ولئن وقف لي على طريق، أو كلمني في دار السلطان، لأضربن عنقه، فأخبره بذلك، وحذره، وتقدم إلى البوابين والحجاب بمنعه، وكان خزيمة إذا وعد أو توعد، فليس إلا الوفاء.
فخرجت إلى الحجاب والبوابين وأصحاب المقارع، فبالغت في تحذيرهم، وتهديدهم، وعرفتهم ما قال، وأنه حلف أن تضرب أعناقهم إذا خالفوا، وأكدت الوصية بجهدي، مستظهراً لنفسي.

وخرجت إلى خارج الدار، فوجدت الرجل قائماً، فأعلمته أن دمه مرتهن بنظرة ينظرها إليه خزيمة في دار السلطان، أو على بابه، أو في الطريق، وحذرته تحذيراً شديداً، وخوفته من سفك دمه، وأن لا يجعل عليه سبيلاً، فشكرني على تحذيره، وانصرف كئيباً.
فلما أصبحنا من الغد، غدوت إلى دار خزيمة على رسمي، للملازمة، فلما دنوت من الباب، إذا بالرجل واقفاً كما كان يقف منتظراً لركوبه.
فعظم ذلك علي، وقلت: يا هذا، أما تخاف الله ؟ أتحب أن تقتل نفسك ؟ أما تعرف الرجل ؟ فقال: والله، ما أتيت هذا عن جهل مني ولا اغترار، بل أتيته على أصل قوي، وسبب وثيق، وسترى من لطف الله ما يسرك، وتعجب منه.
قال الحسن: فزاد عجبي منه، ودخلت الدار، فصادفت خزيمة في صحن الدار يريد الركوب، فحين نظر إلي، قال: ما فعل حامد بن عمرو ؟ قلت: رأيته الساعة بالباب، وقد تهددته، فلما رأيته اليوم بالباب تعجبت من جهله وعوده، مع ما أعذرت إليه من الوعيد، وأمرته بالانصراف، فأجابني بجواب لا أدري ما هو، فأنا بريء من فعله.
فقال: بأي شيء أجابك ؟ فأخبرته، فسكت خزيمة، وخرج فركب، فحين رآه حامد ترجل له.
فصاح به: لا تفعل، والحقني إلى دار أمير المؤمنين وسار خزيمة، فدخل دار الرشيد، ودخلنا معه إلى حيث جرت عادتنا أن نبلغه من الدار، فجلسنا فيه، ومضى خزيمة يريد الخليفة، وجاء حامد فجلس إلى جانبي.
فقلت له: أصدقني عن خبرك، والسبب في جسارتك على خزيمة، ولينه لك بعد الغلظة، وعرفته ما جرى بيني وبين خزيمة ثانياً.
فقال: طب نفساً، فما أبدي لك شيئاً إلا بعد بلوغ آخر الأمر.
فبينا نحن كذلك، إذ دعي حامد إلى حيث كان مرسوماً بأن يدخله من يخلع عليه، فتحيرت فلم يكن بأسرع من أن خرج وعليه الخلع، وبين يديه لواء قد عقد له على طريق الفرات بأسره، فقمت إليه وهنأته.
وقلت: ولا الساعة تخبرني الخبر ؟ فقال: ما فات شيء، وودعني ومضى، فأقمت بمكاني إلى أن خرج خزيمة، فسرت معه إلى داره، فلما استقر، دعاني، فسألني عن أمور جرت.
وقال: أظنك أنكرت ما جرى من أمر حامد ؟ قلت: إي والله، أيها الأمير.
قال: فاسمع الخبر، اعلم أني كنت في نهاية الغيظ عليه، وأمرت فيه بما علمته أمس، فلما كن البارحة، رأيته في النوم، كأنه قائم يصلي، وقد رفع يديه إلى الله يدعو علي.
فصحت به: لا تفعل، لا تفعل، وادن مني، فانفتل من صلاته، وجاء حتى وقف بين يدي.
فقلت له: ما يحملك على أن تدعو علي ؟ فقال: لأنك أهنتني، واستخففت بي، وهددتني بالقتل ظلماً، وقطعت أملي من طلب رزقي وقوتي، وأنا أشكوك إلى الله، وأستعينه عليك.
وكأني أقول له: طب نفساً، ولا تدع علي، فإني أحسن إليك غداً، وأوليك عملاً، واستيقظت.
فعجبت من المنام، وعلمت أني قد ظلمت الرجل، وقلت في نفسي: شيخ من العرب، له سن وشرف، أسأت إليه بغير جرم، وأرعبته، وماذا عليه إذا لج في طلب الرزق ؟ وعلمت أن الذي رأيته في منامي موعظة في أمره، وحث على حفظ النعم، وأن لا أنفرها بقلة الشكر، واستعمال الظلم.
فاعتقدت أن أوليه، كما وعدته في النوم، فكان ما رأيت.
قال الحسن بن مسلمة: فقويت رأيه في هذا، ودعوت له، وانصرفت، فجاءني من العشي حامد، مسلماً، ومودعاً، ليخرج إلى عمله.
فقلت له: هات الآن خبرك.
فقال: نعم، انصرفت من باب خزيمة موجع القلب، قلقاً، مرتاعاً، فأخبرت عيالي، فصار في داري مأتم، وبكاء عظيم، ولم أطعم أنا، ولا هم، شيئاً، يومنا وليلتنا، وأمسيت كذلك.
فلم هدأت العيون، توضأت، واستقبلت القبلة، فصليت ما شاء الله، وتضرعت إلى الله، ودعوته بإخلاص نية، وصدق طوية، وأطلت، فحملتني عيني، فنمت وأنا ساجد في القبلة.
فرأيت في منامي، كأني على حالي في الصلاة والدعاء، وكأن خزيمة قد وقف علي، وأنا أدعو، فصاح بي: لا تفعل، لا تفعل، وأغد علي، فإني أحسن إليك، وأوليك، فانتبهت مذعوراً، وقد قويت نفسي، فقلت: أبكر إليه، فلعل الله أن يطرح في قلبه الرقة، فغدوت إليه، فكان ما رأيت.
قال الحسن: فكثر تعجبي لاتفاق المنامين، فقلت لحامد: لقد أخبرني الأمير بمثل ما ذكرته، لم يخرج منه حرفاً، وبكرت إلى خزيمة، فحدثته بالحديث، فعجب منه، وأحضر حامداً حتى سمع منه ذلك، وأمر له بكسوة وصلة وحملان، ولم يزل بعد ذلك يتعمد إكرامه.

بين الوزير علي بن عيسى والعطار الكرخي

ويقارب هذا حديثان، حدثني بأحدهما بعض أهل بغداد.
أن عطاراً من أهل الكرخ، كان مشهوراً بالستر والأمانة، فركبه دين، وقام من دكانه، ولزم بيته مستتراً، وأقبل على الدعاء والصلاة، إلى أن صلى ليلة الجمعة صلاة كثيرة، ودعا، ونام، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، وهو يقول له: اقصد علي بن عيسى، وكان إذ ذاك وزيراً، فقد أمرته أن يدفع إليك أربعمائة دينار، فخذها وأصلح بها أمرك.
قال الرجل: وكان علي ستمائة دينار ديناً، فلما كان من الغد، قلت: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم، من رآني في منامه فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي، فلم لا أقصد الوزير.
فلما صرت ببابه، منعت من الوصول إليه، فجلست إلى أن ضاق صدري، وهممت بالانصراف، فخرج الشافعي صاحبه، وكان يعرفني معرفة ضعيفة، فأخبرته الخبر.
فقال: يا هذا، الوزير والله في طلبك منذ السحر إلى الآن، وقد سألني عنك فأنسيتك، وما عرفك أحد، والرسل مبثوثة في طلبك، فكن بمكانك، ثم رجع فدخل، فلم يكن بأسرع من أن دعي بي، فدخلت إلى علي بن عيسى.
فقال لي: ما اسمك ؟ قلت: فلان بن فلان العطار.
قال: من أهل الكرخ ؟ قلت: نعم.
قال: أحسن الله إليك في قصدي إياي، فوالله ما تهنأت بعيش منذ البارحة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءني البارحة في منامي، فقال: أعط فلان بن فلان العطار من أهل الكرخ أربعمائة دينار يصلح بها شأنه، فكنت اليوم في طلبك، وما عرفك أحد.
فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءني البارحة، فقال لي كيت وكيت.
قال: فبكى علي بن عيسى، وقال: أرجو أن تكون هذه عناية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بي.
ثم قال: هاتوا ألف دينار، فجاءوه بها عيناً.
فقال: خذ منها أربعمائة دينار، امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وستمائة دينار هبة مني لك.
فقلت: أيها الوزير ما أحب أن أزداد على عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فإني أرجو البركة فيه، لا فيما عداه.
فبكى علي بن عيسى، وقال: هذا هو اليقين، خذ ما بدا لك.
فأخذت أربعمائة دينار، وانصرفت، فقصصت قصتي على صديق لي، وأريته الدنانير، وسألته أن يقصد غرمائي، ويتوسط بيني وبينهم، ففعل.
وقالوا: نمهله بالمال ثلاث سنين.
فقلت: لا، ولكن يأخذون مني الثلث عاجلاً، والثلثين في سنتين، في كل سنة ثلثاً، فرضوا بذلك، وأعطيتهم مائتي دينار، وفتحت دكاني بالمائتي دينار الباقية.
فما حال الحول إلا ومعي ألف دينار، فقضيت ديني، وما زال مالي يزيد، وحالي يصلح، والحمد لله.

طاهر بن يحيى العلوي وجرايته من الحاج الخراساني

والخبر الآخر، ما حدثني به أحمد بن يوسف الأزرق، عن أبي القاسم ابن أماجور المنجم، قال: كنت إذا حججت، دخلت على طاهر بن يحيى العلوي، فرأيت عنده خراسانياً، كان يحج في كل سنة، فإذا دخل المدينة، جاء إلى طاهر بن يحيى فأعطاه مائتي دينار، فكانت كالجراية له منه.
فلما كان في بعض السنين، جاء يريد داره، ليعطيه المائتي دينار، فاعترضه رجل من أهل المدينة، فشنع بطاهر عنده، وقال له: تضيع دنانيرك التي تدفعها إلى طاهر، وهو يأخذها منك ومن غيرك، فيصرفها فيما يكرهه الله تعالى، ويفعل ويصنع، وتكلم فيه بقبيح.
قال الخراساني: فانصرفت عنه، وتصدقت بالدنانير، وخرجت من المدينة، ولم ألق طاهراً.
فلما كان في العام الثاني، دخلت المدينة، فتصدقت بالمال، وطويت طاهراً.
فلما كان في العام الثالث، تأهبت للحج، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي، يقول لي: ويحك قبلت في ابني طاهر قول أعدائه، وقطعت عنه ما كنت تبره به ؟ لا تفعل، فاقصده، وأعطه ما فاته، ولا تقطعه عنه ما استطعت.
قال: فانتبهت فزعاً، ونويت ذلك، وأخذت صرةً فيها ستمائة دينار، وحملتها معي، فلما صرت بالمدينة، بدأت بدار طاهر، فدخلت عليه وجلست، ومجلسه حفل.
فحين رآني، قال: يا فلان، لو لم يبعث بك إلينا ما جئتنا، فقلت: كلمة وافقت أمراً، ليس إلا أن أتغافل، فقلت: ما معنى هذا الكلام أصلحك الله ؟ فقال: قبلت فيّ قول عدو الله، وعدو رسوله، وقطعت عادتك عني، حتى لامك رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامك وأمرك أن تعطيني الستمائة دينار، هاتها، ومد يده إلي.

فتداخلني من الدهش ما ذهلت معه، فقلت: أصلحك الله، هكذا والله كانت القضية، فمن أعلمك بذلك ؟ فقال لي: بلغني خبر دخولك المدينة في السنة الأولى، فلما رحل الحاج ولم تأتني، أثر ذلك في حالي، وسألت عن القصة، فعرفت أن بعض أعدائنا لقيك، فشنع بي عندك، فآلمني ذلك.
فلما كان في الحول الثاني، بلغني دخولك، وخروجك، وأنك قد عملت على قوله فيّ، فازددت غماً لذلك.
فلما كان منذ شهور، ازدادت إضاقتي، وامتنع مني النوم غماً لما دفعت إليه، ففزعت إلى الصلاة، فصليت ما شاء الله، وأقبلت أدعو بالفرج، فحملتني عيني في المحراب، فنمت، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي وهو يقول لي: لا تهتم، فقد لقيت فلاناً الخراساني، وعاتبته على قبوله فيك قول أعدائك، وأمرته أن يحمل إليك ما فاتك، ولا يقطع عنك بعدها ذلك، ويبرك ما استطاع، وانتبهت، فحمدت الله وشكرته، فلما رأيتك، علمت أن المنام جاء بك.
قال: فأخرجت الصرة التي فيها ستمائة دينار، فدفعتها إليه، وقبلت يده، وسألته أن يحلني من قبول قول ذلك الرجل فيه.

قصة العلوية الزمنة

حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي، قال: كان في شارع دار الرقيق، جارية علوية، أقامت زمنةً خمس عشرة سنة، وكان أبي في جوارها أيام نزولنا بدرب المعوج من هذا الشارع، في دار شفيع المقتدري، التي كان اشتراها، يتفقدها، ويبرها، وكانت مسجاة، لا يمكنها أن تنقلب من جنب إلى جنب، أو تقلب، ولا تقعد، أو تقعد، وكان لها من يخدمها في ذلك، وفي الإنجاء، والأكل، لقصور أطرافها، وأعضائها، وكانت فقيرة، إنما قوتها وقوت خادمتها من بر الناس.
فلما مات أبي اختل أمرها، وبلغ تجني، أم ولد الوزير المهلبي خبرها، فكانت تقوم بأمرها، وأجرت عليها جراية في كل شهر، وكسوة في كل سنة.
فباتت ليلة من الليالي على حالها، وأصبحت من الغد، وقد برأت، ومشت، وقامت، وقعدت.
وكنت مجاوراً له، وكنت أرى الناس يأتون باب دارها، فأنفذت امرأة من داري، ثقة، حتى شاهدتها، وسمعتها تقول: إني ضجرت بنفسي ضجراً شديداً، فدعوت الله تعالى بالفرج مما أنا فيه، أو الموت، وبكيت بكاء شديداً متصلاً، وبت، وأنا متألمة، قلقة، ضجرة، وكان سبب ذلك، أن الجارية التي كانت تخدمني، تضجرت بي، وخاطبتني بما ضاق صدري معه.
فلما استثقلت في نومي، رأيت كأن رجلاً دخل علي، فارتعت منه، وقلت له: يا هذا، كيف تستحل أن تراني ؟ فقال: أنا أبوك، فظننته أمير المؤمنين.
فقلت: يا أمير المؤمنين، هوذا ترى ما أنا فيه.
فقال: أنا محمد رسول الله.
فبكيت، وقلت: يا رسول الله، ادع لي بالفرج والعافية.
فحرك شفتيه بشيء لا أفهمه، ثم قال: هاتي يديك، فأعطيته يدي، وأخذهما، وجذبني بهما، فقمت.
فقال: امشي على اسم الله.
فقلت: كيف أمشي ؟ فقال: هاتي يديك، فأخذهما، وما زال يمشي بي، وهما في يديه ساعة، ثم أجلسني، حتى فعل ذلك ثلاث مرات.
ثم قال لي: قد وهب الله لك العافية، فاحمديه واتقيه، وتركني ومضى.
فانتبهت، وأنا لا أشك أنه واقف، لسرعة المنام، فصحت بالخادم، فظنت أني أريد البول، فتثاقلت.
فقلت لها: ويحك، أسرجي، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتبهت، فوجدتني مسجاة، فشرحت لها المنام.
فقالت: أرجو أن يكون الله تعالى قد وهب لك العافية، هاتي يدك، فأعطيتها يدي، فأجلستني.
ثم قالت لي: قومي، فقمت معها، ومشيت متوكئة عليها، ثم جلست، ففعلت ذلك ثلاث مرات، الأخيرة فيهن مشيت وحدي.
فصاحت الخادمة سروراً بالحال، وإعظاماً لها، فقدر الجيران أني قد مت، فجاؤوا، فقمت أمشي بين أيديهم.
قال أبو محمد: وما زالت قوتها تزيد، إلى أن رأيتها قد جاءت إلى والدتي في خف وإزار، بعد أيام،، ولا داء بها، فبررناها، وهي إلى الآن باقية، وهي من أصلح وأورع أهل زماننا، وقد تزوجت برجل علوي موسر، وصلحت حالها، ولا تعرف إلى الآن، إلا بالعلوية الزمنة.

فمضى على هذا الحديث، سنون كثيرة، وجرى بيني وبين القاضي أبي بكر محمد بن عبد الرحمن، المعروف بابن قريعة، مذاكرة بالمنامات، فحدثني بحديث منام هذه العلوية، وقصتها، وعلتها، على مثل ما حدثني به أبو محمد، وقال: وأنا كنت أحمل إليها جرايتها من عند تجني، جارية الوزير أبي محمد المهلبي، وكسوتها على طول السنين، وسمعت منها هذا المنام، ورأيتها تمشي بعد ذلك صحيحة، بلا قلبة، وتجيء إلى تجني، وتجني زوجتها بالعلوي، وأعطتني مالاً، فقمت بتجهيزها، وأمرها، حتى أعرس بها زوجها، وهي إلى الآن من خيار النساء.
قال مؤلف الكتاب: وحدثني بعد هذا، جماعة أسكن إليهم من أهل شارع دار الرقيق، بخبر هذه العلوية، على قريب من هذا، وهي باقية إلى حين معرفتي بخبرها في سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة.
ثم كنت في سنة سبع وسبعين وثلثمائة عند أبي الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم، فرأيت في داره بدرب سليمان من شارع دار الرقيق، وأنا عنده، امرأة عجوزاً، قد دخلت، فأعظمها.
فقلت: من هذه ؟ فقال: العلوية الزمنة، صاحبة المنام، وكانت تمشي بخفها وإزارها.
فسألتها أن تجلس: ففعلت، واستخبرتها، فحدثتني، فقالت: اعتللت من برسام، وأنا في حدود عشرين سنة من عمري، ثم انجلى عني، وقد لحق حقوي شيء أزمنني، فكنت مطروحة على الفراش سبعاً وعشرين سنة، لا أقدر أن أقعد، ولا أقوم أصلاً، وأنجو في موضعي، وأغسل، وكنت مع ذلك، لا أجد ألماً.
ثم بعد سنين كثيرة من علتي، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، في منامي وأنا أقول له: يا جدي، ادع الله عز وجل أن يفرج عني.
فقال: ليس هذا وقتك.
ثم رأيت أمير المؤمنين رضي الله عنه، فقلت له: أما ترى ما أنا فيه، فاسأل رسول الله أن يدعو لي، أو ادع لي أنت، فكأنه قد دافعني.
ثم توالت علي بعد ذلك، رؤيتي لهما في النوم، فجرى بيني وبينهما قريب من هذا، ورأيت الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكأني أسأل كل واحد منهما الدعاء بالعافية، فلا يفعل.
فلما مضت سبع وعشرون سنة، لحقني ألم شديد، أياماً في حقوي، فقاسيت منه شدة شديدة، فأقبلت أبكي، وأدعو الله بالفرج.
فرأيت ليلة في منامي، النبي صلى الله عليه وسلم، فعرفته، لأني كنت أراه طول تلك السنين على صورة واحدة، وكأني أقول له: يا جدي، متى يفرج الله عني ؟ فكأنه أدخل يده في طرف كمي، وجس بدني، من أوله إلى آخره، حتى بلغ حقوي، فوضع يده عليه، وتكلم بكلام لا أفهمه، ثم ردني على قفاي، كما كنت نائمة، وقال: قد فرج الله عنك، فقومي.
فقلت: كيف أقوم ؟ فقال: هاتي يدك، فأعطيته يدي، فأقعدني.
ثم قال: قومي على اسم الله.
فقمت، ثم خطا بي خطوات يسيرة، وقال: قد عوفيت.
فانتبهت، وأنا مستلقية على ظهري، كما كنت نائمة، إلا أنني فرحانة، فرمت القعود، فقعدت لنفسي وحدي، ودلت رجلي من السرير، فتدلتا، فرمت القيام عليهما، فقمت، ومشيت، فقلت للمرأة التي تخدمني: لست آمن أن يشيع خبري، فيتكاثر الناس علي، فيؤذوني، وأنا ضعيفة من الألم الذي لحقني، إلا أني كنت لما انتبهت، لم أحس بشيء من الألم، ولم أجد غير ضعف يسير.
فقلت: اكتمي أمري يومين، إلى أن صلحت قوتي فيهما، وزادت قدرتي على المشي والحركة، وفشا خبري، وكثر الناس علي، فلا أعرف إلى الآن، إلا بالعلوية الزمنة.
فسألتها عن نسبها، فقالت: أنا فاطمة بنت علي بن الحسن بن القاسم ابن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، لم تذكر لي غير هذا، ولا سألتها عنه.
أبو القاسم السعدي يرى مناماً فيتوب عن فعل المنكر
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي الموصلي، قال: سمعت أبا القاسم السعدي، يحدث أبي ببغداد، قال: كنت وأنا حدث السن، مشغوفاً بغلام لي شغفاً شديداً، منهمكاً معه في الفساد، فكان ربما هجرني، فأترضاه بكل ما أقدر عليه، حتى يرضى.
قال: وإنه غضب علي مرة غضباً شديداً، فهرب، واستتر عني خبره، فلحقني من الحيرة والوله، ما قطعني عن النظر في أمري، وصيرني كالمجنون، واجتهدت في صرف ذلك عني فما انصرف.

وحضر وقت خروج الناس إلى الحائر، على ساكنه أفضل الصلاة والسلام، فكتبت رقعة أسأل الله عز وجل فيها الفرج مما أنا فيه، وأتوسل إلى الله تعالى بالحسين ابن علي رضي الله عنهما، ودفعتها إلى بعض من خرج، وسألته أن يدفعها في ناحية من القبر.
وكانت ليلة النصف من شعبان، ففزعت إلى الله، في كشف ما بي، وتفردت بالصلاة والدعاء، قطعة من الليل، ثم حملني النوم.
فرأيت في منامي كأني في مقابر قريش، والناس مجتمعون فيها، إذ قيل: قد جاء الحسين بن علي، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، للزيارة.
فتشوفت لرؤيتهما، فإذا بالحسين في صورة كهل، حسن الوجه، بدراعة، وعمامة، وخف، قد أقبل، ومعه فاطمة عليهما السلام، متنقبة بنقاب أبيض، وملحفة بيضاء.
فاعترضت الحسين، وقلت: يا ابن رسول الله، كتبت إليك رقعة في حاجة لي، فإن رأيت أن تعمل فيها ؟ فلم يجبني، ودخل إلى القبة التي فيها محمد بن علي بن موسى رضي الله عنهم، ودخلت فاطمة عليها السلام معه، وكأن قوماً قد وقفوا يمنعون الناس من الدخول إليها، فلم أزل أكابس وأتوصل، إلى أن دخلت، فأعدت عليه الخطاب، فلم يجبني.
فقلت لفاطمة: يا سيدة النساء، إن رأيت أن تعملي في أمري.
فقالت: على أن تتوب ؟ فقلت: نعم.
فقالت: الله ؟ فقلت: الله.
فكررت ذلك علي ثلاثاً، ثم أومأت إلى جماعة ممن كانوا قياماً، فقالت: خذوه، فأخذوني، ونزعت خاتماً من يدها فدفعته إليهم،، وخاطبتهم بما لم أفهمه، فحملوني حتى غبت عن عينها، وأضجعوني وحلوا سراويلي وشدوا ذكري بخيط حلبي، ووضعوا على الشد طيناً، وختموه بالخاتم، فورد علي من الألم أمر عظيم، أنبهني، فانتبهت وقد أثر الخيط في الموضع، وصار أثر الخاتم كأنه الجديري، مستديراً حول الموضع.
ثم قال لأبي: إن شئت كشفت لك فأريتك، فقد أريته لجماعة.
فقال: لا أستحل النظر إلى ذلك.
قال السعدي: فأصبحت من غد، وما في قلبي البتة من الغلام شيء، وابتعت الجواري، فكنت أطأهن، لا أنكر من جماعي شيئاً.
ثم طالبتني بالغلمان، فدافعتها مدة، ثم غلبتني الشهوة، فاستدعيت غلاماً، فلم أقدر عليه، واسترخى العضو، وبطل، فلما فارقته، أنعظت، فعاودته، فاسترخى، فجربت ذلك على عدة غلمان، فكانت صورتي واحدة.
فجددت توبةً ثانية، وما نقضتها بعد ذلك.
قال أبو محمد: وكان أبو علي القارىء الضرير، قد سمع معي هذا الخبر من السعدي، فأخبرني بعد مدة طويلة - وحلف لي على ذلك - أنه رأى فاطمة رضي الله عنها، في النوم، فقلت لها يا سيدتي، منام السعدي الذي حكاه صحيح ؟ فقالت: نعم.

أبو جعفر بن بسطام له قصة في رغيف

حدثنا أبو علي الحسن بن محمد الأنباري الكاتب، قال: كان ابن الفرات، يتتبع أبا جعفر بن بسطام بالأذية، ويقصده بالمكاره، فلقي منه في ذلك شدائد كثيرة.
وكانت أم أبي جعفر قد عودته منذ كان طفلاً، أن تجعل له في كل ليلة، تحت مخدته التي ينام عليها، رغيفاً من الخبز، فإذا كان في غد، تصدقت به، عنه.
فلما كان بعد مدة من أذية ابن الفرات له، دخل إلى ابن الفرات في شيء أحتاج إلى ذلك فيه، فقال له ابن الفرات: لك مع أمك خبر في رغيف ؟ قال: لا.
فقال: لا بد أن تصدقني.
فذكر أبو جعفر الحديث، فحدثه به على سبيل التطايب بذلك من أفعال النساء.
فقال ابن الفرات: لا تفعل، فإني بت البارحة، وأنا أدبر عليك تدبيراً لو تم لاستأصلتك، فنمت، فرأيت في منامي، كأن بيدي سيفاً مسلولاً، وقد قصدتك لأقتلك به، فاعترضتني أمك بيدها رغيف تترسك به مني، فما وصلت إليك، وانتبهت.
فعاتبه أبو جعفر على ما كان بينهما، وجعل ذلك طريقاً إلى استصلاحه، وبذل له من نفسه ما يريده من حسن الطاعة، ولم يبرح حتى أرضاه، وصارا صديقين.
وقال له ابن الفرات: والله، لا رأيت مني بعدها سوءاً أبداً.
بينما كان يترقب القتل وافاه الفرج في مثل لمح البصرذكر محمد بن عبدوس في كتابه، كتاب الوزراء، عن أبي العباس ابن الفرات، عن محمد بن علي بن يونس، عن أبيه، أنه كان يكتب لرجاء ابن أبي الضحاك، وهو بدمشق، وأن علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ، كان يتقلد خلافة صول أرتكين على المعونة بدمشق، فوثب على رجاء، فقتله، وقبض على جماعة من أسبابه، وأمر بحبسي، فحبست في يدي سجان كان جاراً لي، فكان يأتيني بالخبر ساعةً بساعة.

فدخل إلي، وقال: قد أخرج راس صاحبك رجاء على قناة.
ثم جاءني وقال: قد قتل مطببه، ثم جاءني فقال: قد قتل ابن عمه، ثم جاءني فقال: قد قتل كاتبه الآخر.
ثم قال: الساعة، والله، يدعى بك لتقتل، فقد سمعت نبأ ذلك، فنالني جزع شديد، وخرج السجان، فأقفل الباب علي.
فدعي بي، فدافع عني، وقال: البيت الذي هو فيه مقفل، والمفتاح مع شريكي، والساعة يجيء، وبعث في طلبه.
فنالني في تلك الساعة نعاس، فرأيت في منامي، كأني ارتطمت في طين كثير، وكأني قد خرجت، وما بل قدمي منه شيء، فاستيقظت، وتأولت الفرج، وسمعت حركة شديدة، فلم أشك أنها لطلبي، فعاودني الجزع.
فخل السجان، فقال: أبشر فقد أخذ الجند علي بن إسحاق فحبسوه.
فلم ألبث حتى جاءني الجند، فأخرجوني، وجاؤوا بي إلى مجلس علي بن إسحاق الذي كان فيه جالساً، وقدامه دواة وكتاب قد كان كتبه إلى المعتصم في تلك الساعة، يخبره بخبر قتله رجاء، وجعل له ذنوباً، ولنفسه معاذير، وسماه رجاء المجوسي، والكافر، فخرقت الكتاب، وكتبت بالخبر كما يجب إلى المعتصم.
فحبس طويلاً، ثم أظهر الوسواس، وتكلم فيه أحمد بن أبي دؤاد، فأطلق.
المنصور يرى مناماً فيرفع الظلامة عن محبوس
وجدت في بعض الكتب: أن المنصور استيقظ من منامه ليلة من الليالي، وهو مذعور لرؤيا رآها، فصاح بالربيع، وقال له: صر الساعة إلى الباب الثاني الذي يلي باب الشام فإنك ستصادف هناك رجلاً مجوسياً مستنداً إلى الباب الحديد، فجئني به، فمضى الربيع مبادراً، وعاد والمجوسي معه.
فلما رآه المنصور، قال: نعم، هو هذا، ما ظلامتك ؟ قال: إن عاملك بالأنبار، جاورني في ضيعة لي، فسامني أن أبيعه إياها، فامتنعت، لأنها معيشتي، ومنها أقوت عيالي، فغصبني إياها.
فقال له المنصور: فبأي شيء دعوت قبل أن يصير إليك رسولي ؟ قال: قلت: اللهم إنك حليم ذو أناة، ولا صبر لي على أناتك.
فقال المنصور للربيع: أشخص هذا العامل، وأحسن أدبه، وانتزع ضيعة هذا المجوسي من يده، وسلمها إلى هذا المجوسي، وابتع من العامل ضيعته، وسلمها إليه أيضاً.
ففعل الربيع ذلك كله في بعض نهار يوم، وانصرف المجوسي، وقد فرج الله عنه، وزاده، وأحسن إليه.
صاحب الشرطة ببغداد يرى مناماً يرشده إلى القاتل ويبرىء فيجاً مظلوماً
وجدت في كتاب: حدث القاسم بن كرسوع، صاحب أبي جعفر محبرة، قال: كان ابن أبي عون، صاحب الشرطة، قد وعد محبرة أنه يجيئه للإقامة عنده، والشرب مصطبحاً على ستارته في يوم الثلاثاء، فأبطأ عليه، وتعلق قلب محبرة بتأخره، فبعث غلاماً له يطلبه ويعرف خبره في تأخره.
فعاد إلى محبرة، وقال: وجدته في مجلس الشرطة، يضرب رجلاً بالسياط، وذكر أنه يجيء الساعة، فلما كان بعد ساعة، جاء ابن أبي عون.
فقال له أبو جعفر: أفسدت صبوحنا، وشغلت قلبي بتأخرك، فما سبب ذلك ؟ فقال: إني رأيت البارحة في منامي، كأني بكرت بلبل لأجيك، وليس بين يدي إلا غلام واحد، فسرت في خراب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، لأجيء إلى رحبة الجسر، فإني لأسير في القمر، إذ رأيت شيخاً بهياً، نظيف الثوب، على رأسه قلنسوة لاطية، وفي يده عكاز، فسلم علي، وقال: إني أرشدك إلى ما فيه مثوبة: في حبسك فيج مظلوم، وافى من المدائن، في وقت ضيق، فاتهم بأنه قتل رجلاً، وهو بريء من دمه، وقد ضرب وحبس، وقاتل الرجل غيره، وهو في غرفة وسطى من ثلاث غرف مبنية على طاق العكي بالكرخ، واسمه فلان بن فلان، ابعث من يأخذه، فإنك ستجده سكران، عريان، بسراويل، وفي يده سكين مخضبة بالدم، فاصنع به ما ترى، وأطلق الفيج البائس.
قلت: أفعل، وانتبهت، فركبت، وسرت، حتى وافيت رحبة الجسر.
فقلت: ما حدث في هذه الليلة ؟ فقالوا: وجدنا هذا القتيل، وهذا الفيج معه، فضربناه، ولم يقر.
فرأيت به أثر ضرب عظيم، فسألته عن خبره، فقال: أنا معروف بالمدائن بسلامة الطريقة، ومعاشي التفيج، أنفذني فلان بن فلان من المدائن، إلى فلان بن فلان من أهل بغداد، بهذه الكتب، وأخرج إضبارة، فدخلت أوائل بغداد وقت العتمة، فوجدت في الطريق رجلاً مقتولاً، فجزعت، ولم أدر أين آخذ، فأنا على حالي إذ أدركني الأعوان، فظنوني قتلته، ووالله ما أعرفه، ولا رأيته قط، وقد حبسوني وضربوني، فالله، الله، في دمي.

فقلت: قد فرج الله عنك، انطلق حيث شئت، ثم أخذت الرجالة، ومضيت إلى طاق العكي، فإذا الثلاث غرف مصطفة، فهجمت على الوسطى، فإذا فيها رجل سكران عليه سراويل فقط، وفي يده سكين مخضب بالدم، وهو يقول: أخ عليك، والك، نعم يا سيدي، أنا جرحته، أخو القحبة، وأن مات فأنا قتلته، فأنزلته مكتوفاً، وبعثت به إلى الحبس، وانحدرت إلى الموفق، فأعلمته بالحديث، فتعجب، وتقدم إلي أن أضرب القاتل بالسياط إلى أن يتلف، وأصلبه في موضع جنايته، فتشاغلت بذلك إلى أن فرغت منه، ثم جئتك.

الرحبة

الرحبة: الأرض الواسعة، وكانت الكلمة تطلق على المدينة أو القرية، أو الفضاء الكائن بين الأبنية، مما يسمى الآن ساحة، أو ميداناً.
وذكر ياقوت في كتابه المشترك وضعاً والمفترق صقعاً ص 203 ستة مواضع تسمى الرحبة، بضم الراء، وتسعة مواضع تسمى الرحبة، بفتح الراء.
فمن المدن: رحبة مالك بن طوق، بناها مالك، ونسبت إلى بانيها، وهي بين الرقة وبغداد على شاطىء الفرات على بعد 8 أيام من دمشق معجم البلدان 2 - 764.
ومن القرى: الرحبة، قرية بحذاء القادسية، على مرحلة من الكوفة، قال عنها ياقوت إنها على يسار الحاج المتوجهين إلى مكة، وقد خربت الآن لكثرة طروق العرب، لأنها على ضفة البرية، ليس بعدها عمارة معجم البلدان 2 - 762 والمفترق صقعاً ص 203.
أقول: مررت على الرحبة في السنة 1935 لما كنت قاضياً في منطقة أبي صخير المجاورة للنجف، وكانت الحيرة، ورحبة القادسية تابعة لمحكمة أبي صخير، وقد أبصرت أهالي الرحبة يقيمون في حصن، وقد اتخذوا في باطنه مساكن لهم، وهم يزرعون الخضر والبطيخ الأحمر المعروف ببغداد بالرقى، وماؤهم من عين ثرة هناك، تسمى عين الرحبة.
وأما الرحبة بمعنى الساحة، أو الميدان، أو الفضاء الكائن بين الأبنية، فقد كان لكل جامع رحبة، وفي كل رأس جسر رحبة، هذا ما عدا الرحبات الأخرى الكائنة في داخل المدينة، وقد سميت إحدى رحبات مسجد المدينة، رحبة القضاء، إذ كانت داراً لعبد الرحمن بن عوف، قضى فيها لعثمان بالخلافة الطبري 4 - 237، ورحبة القصابين بالبصرة، وقعت فيه معركة بين أنصار يزيد بن المهلب، وبين أتباع الأمويين في السنة 101 العيون والحدائق 3 - 57، وكان لمسجد البصرة رحبة الطبري 5 - 518 ولجامع المنصور بالمدينة المدورة رحبة الطبري 9 - 358، وكانت إحدى الرحبات في سامراء، اسمها رحبة زيرك وهي بالقرب من باب الفراعنة تاريخ بغداد للخطيب 6 - 368.
وكان لجامع القصر ببغداد رحبة، وهو الجامع الذي كان الخلفاء العباسيون يقيمون فيه ببغداد صلاة الجمعة، ينفذون إليه من قصر الخلافة، عبر ممرات تحت الأرض، وهذا الجامع، تعاورته أيدي الغصب فلم يبق منه إلا مئذنته، واسمها الآن منارة سوق الغزل.
أما رحبة جامع القصر، فهي واقعة خارج الجامع، مما يلي المئذنة، في شرقيها، وما تزال إلى الآن رحبة يحتلها القصابون الذين يبيعون لحم البقر، وتفصل هذه الرحبة الآن بين سوق الشورجة حيث تباع الغلال، وبين سوق الدهانة، حيث دكاكين العطارين، والبقالين، والحلوانيين، ويسميهم البغداديون الشكرجية.
وكانت رحبة الجسر من أنزه المواضع ببغداد، بحيث أن الناس كانوا يجتمعون فيها للفرجة، وفي بغداد أغنية شائعة نظمها بغدادي أضاق، فقال يسلي نفسه:
لا بدّ ما تنقضي ... والفقر ما هو عيب
وأقف برأس الجسر ... وأخرخشك يا جيب
وحدثوا أن أعرابياً قدم بغداد، فأطعم اللوزينج اسمه الآن ببغداد: بقلاوه، فارسية: باقلاوا، فاستطابه، وقال: سمعت الأشياخ من أهلي، يذكرون أن من طيبات بغداد: الحمام، ورأس الجسر، وهذا الذي أكلته، لا بد أن يكون واحداً منهما.
عزم على قتله ثم من عليه وأطلقه ثم يمن عليه ويطلقهحدثني علي بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن موسى، وكان ابن أخي موسى بن إسحاق القاضي الأنصاري، قال: كنت خرجت مع أبي وهو يكتب لأبي جعفر الكرخي محمد بن القاسم، لما تقلد الموصل والديارات، وكان قد ضم إلى أبي جعفر من قواد السلطان، فلما صرنا بنصيبين كان أبي قد مضى وأنا معه إلى أبي العباس أحمد ابن كشمرد مسلماً عليه، فتحدثا، فسمعته يحدثه، قال:

لما أسرني أبو طاهر القرمطي، فيمن أسره بالهبير، حبسني وأبا الهيجاء، والغمر، في ثلاث حجر متقاربة، ومكننا أن نتزاور، ونجتمع على الحديث.
فمكن أبا الهيجاء خاصة، واختص به، وعمل على إطلاقه، وشفعه على أشياء.
فسألت أبا الهيجاء أن يسأله إطلاقي، فوعدني، واستدعاه القرمطي، فمضى إليه وعاد إلى حجرته، فجئت وسألته: هل خاطبه ؟ فدافعني.
فقلت: لعلك أنسيت ؟ فقال: لا والله، ولوددت أني ما ذكرتك له، إني وجدته متغيظاً عليك، فقال: والله، لأضربن عنقه عند طلوع الشمس في غد.
ورحل أبو الهيجاء، فورد علي أمر عظيم، وعدت إلى حجرتي وقد يئست من الحياة، فلما كان في الليل، رأيت في منامي كأن قائلاً يقول لي: اكتب في رقعة: بسم الله الرحمن الرحيم، من العبد الذليل، إلى المولى الجليل، مسني الضر والخوف، وأنت أرحم الراحمين، فبحق محمد وآل محمد، اكشف همي وحزني، وفرج عني، واطرح هذه الرقعة في هذا النهر، وأومأ إلى ساقية كانت تجري هناك في المطبخ.
فانتبهت من نومي، وكتبت الرقعة، وطرحتها في الساقية.
فلما كان السحر استدعاني القرمطي، فلم أشك أنه القتل، فلما دخلت إليه أدناني وأجلسني، وقال: قد كان رأيي فيك غير هذا، إلا أني قد رأيت تخليتك.
فخرجت، فإذا على الباب راحلة، ورجل يصحبني، فربكت، ودخلت البصرة سالماً، ولحقت أبا الهيجاء بها، فدخلنا معاً إلى بغداد
محمد بن سليمان الكاتب دخل مصر أجيراً ثم دخلها أميراً
قال أبو الحسن علي بن زكي: كنت مع صاحبي عيسى النوشري، وكان مضافاً لمحمد بن سليمان الكاتب على حرب الطولونية، إلى أن افتتحت مصر، فتقلدها عيسى.
قال: قال عيسى: خرج يوماً محمد بن سليمان إلى ظاهر الفسطاط، فانتهى به السير إلى قبة كانت لأحمد بن طولون، يقال لها: قبة الهواء، مطلة على النيل وعلى البر، فجلس فيها ومعه الحسين بن حمدان وجماعة من القواد، ثم قال: الحمد لله الذي بيده الأمر كله يفعل ما يشاء.
فقال له الحسين بن حمدان: لا شك أن تجديدك الحمد لأمر.
قال: نعم، وهو عجيب طريف ذكرته الساعة، وهو أني نزعت إلى مصر وأنا في حال رثة، في زي صغار الأتباع، فضاق علي المعاش بها ؟ فاتصلت بلؤلؤ الطولوني، فأجرى علي دينارين في كل شهر، وصيرني مشرفاً في إصطبله على كراعه، فكنت هناك من حيث لا يعرف وجهي جيداً، ولا أقدم على الوقوف بين يديه.
فلما كان في بعض الأيام أحضرني، فقال: ويحك، من أين يعرفك الأمير ؟ يعني أحمد بن طولون.
فقلت: والله، ما رآني قط، ولا وقعت عينه علي إلا في الطريق، ولا محلي محل من يتصدى للقائه.
فقال: دعاني الساعة، وهو في قبة الهواء، فقال: معك رجل أشقر أشهل، يقال له: محمد بن سليمان.
فقلت: ما أعرفه.
فقال: بل هو في جنبتك، فأبعده عنك، فإني رأيته البارحة وفي يده مكنسة يكنس داري بها، فتوق ويحك، ولا تتعرف إلى أحد من حاشيته، وأقرني على أمري، فامتثلت أمره.
ومضت لهذا الحديث شهور، ثم دعاني ثانية، فقال: ويحك، ماذا بليت به منك، وبليت أنت به من هذا الأمير ؟ دعاني بعدة من أصحاب الرسائل، فوافيته وأنا في غاية الوجل، فقال. أليس أمرتك بصرف محمد بن سليمان الأزرق الأشقر ؟ فقلت: قد عرفتك يا سيدي أني ما استخدمت من هذه سبيله، ولا وقعت لي عليه عين.
فقال: كذبت، هو معك في إصطبلك، فأخرجه الساعة عن البلد، فإني قد رأيته البارحة في النوم، وفي يده مكنسة، وهو يكنس بها سائر حجري وداري، ونسأل الله الكفاية.
فقلت للؤلؤ: وأي ذنب لي يا سيدي في الأحلام ؟ فقال لي: صدقت، فاستتر إلى أن يتناسى الأمير ذكرك، ففعلت، وكان يجري علي ذلك الرزق، وأنا لا أعمل شيئاً.
فلما تهيأ من إنفاذ لؤلؤ إلى الشام ما تهيأ، نهضت معه، وتخلف عنه كتابه، لما كانوا علموه من تغير حاله عند صاحبه، فأدناني، وقربني، وأجرى علي في كل شهر عشرة دنانير، وحملني على دابة وبغل، فلزمت خدمته، وكفيته، واستحمدت إليه، فزادني من رأيه، ولم ينته إلى العريش، حتى تنبه أحمد بن طولون على استيحاش لؤلؤ، فكتب إليه بالرجوع إلى مصر، فشاورني، فأشرت عليه بالانحدار إلى نواحي ديار مضر، وأخذ ما يستهدف له من المال، ولم أترك غايةً إلا أتيتها في تضريبه وتأليبه، حتى أوردته مدينة السلام.

ثم تقلبت بي الأحوال في خدمة السلطان، وخدمة الدول، وتوفي أحمد بن طولون، وقتل أبو الجيش، وجيش ابنه، وتولى بعدهم هارون بن خمارويه، فاختصصت أنا بالقاسم بن عبيد الله، فقلدني ديوان الجيش. ثم ندبني لمحاربة هارون، وضم إلي القواد والرجال، وكان فيهم لؤلؤ صاحبي، وكان أصغر الجماعة حالاً، وأحقرهم شأناً، خالياً من الرجال والكراع، فلم أقصر في إصلاح حاله، والإحسان إليه، ومعرفة حقه.
فلم أدن من الشام حتى تلقاني بدر الحمامي، وتلاه طغج بن جف مسرعاً، وصرت إلى مصر، فلما شارفتها وثب شيبان بن أحمد بن طولون ومن تابعه من جند مصر، فقتلوا هارون، وتولى شيبان الأمر بعده، وانثال إلي القواد في الأمان، ولحق بهم شيبان، وتخلف الرجالة وقطعة من الفرسان، وأظهروا الخلاف، فأوقعت بهم، وأفنيتهم قتلاً وأسراً، ودخلت فسطاط مصر عنوةً، وحويت النعم والمهج، وأشخصت الطولونية عن البلد إلى الحضرة، حتى لم يبق منهم أحد.
وصح بذلك منام أحمد بن طولون، فسبحان الذي ما شاء فعل، وإياه نسأل خير ما تجري به أقداره، وأن يختم لنا بخير برحمته.

شفاه منام رآه أحد أصحابه

حدثني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر الكاتب المعروف بالببغاء، قال: اعتللت بحلب علةً، جف منها بدني كله، فكنت كالخشبة، لا أقدر على أن أتحرك أو أحرك، ونحل جسمي، وتقلبت بي أعلال متصلة متضادة صعبة، فمكثت حليف الفراش سنين، وآيسني الأطباء من البرء، وقطعوا مداواتي.
وكان لي صديق شيخ يعرف بأبي الفرج بن دارم، من أهل بلدي - يعني نصيبين - مقيم بحلب، مواظب على عيادتي، وملازم لي، وكان لفرط اغتمامه بي، وأن الأطباء قد آيسوه مني، يظهر لي من الجزع علي أمراً يؤلم قلبي، ويؤيسني من نفسي، ثم تجاوز ذلك إلى التصريح باليأس، وتوطيني عليه، ثم تعدى هذا إلى أن صار لا يملك دمعته إذا خاطبني.
فضعفت عن تحمل هذا، وتضاعفت به علتي، وخارت معه قوتي، فاعتقدت أن أقول لغلامي أن يترصده، فإذا جاء الرجل إلي قال له عني: إني لا أستحسن حجابه، وإن علتي تضاعفت مما أشاهده، وأسمعه منه، ويسأله أن ينقطع عني، أو يقطع مخاطبتي بما فيه إياس لي، وقررت عزمي على هذا في ليلة من الليالي، ولم أخاطب به غلامي.
فلما كان في صبيحة تلك الليلة، باكرني ابن دارم، فحين وقعت عيني عليه، تثاقلت به خوفاً من أن يسلك معي مذهبه، وهممت أن أفتتح خطابه بما كنت عزمت على مراسلته به، فسبقني بأن قال لي: جئتك مبشراً.
فقلت: بماذا ؟ قال: رأيت البارحة في منامي، كأني بالرقة، والناس يهرعون إلى زيارة قبور الشهداء.
قال أبو الفرج: وهم جماعة ممن قتل بصفين، مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، منهم عمار بن ياسر، حملوا إلى ظاهر الرقة، فدفنوا بها، والحال في ذلك مشهور، والقبور إلى الآن مغشية معمورة.
قال لي ابن دارم: ورأيت كأن أكثر الناس مطيفون بقبة، فسألت عنها، فقيل لي: هي على قبر عمار بن ياسر رضي الله عنه، فقصدتها، وطفت بها، فإذا القبر مكشوف، وفيه رجل شيخ، بثياب بيض، وفي رأسه ضربات بينة دامية، وعلى لحيته دم، والناس يسألونه فيجيبهم، فلحقتني حيرة، ولم أدر عما أسأله.
فقلت له: يا سيدي، لعلك عارف بأبي الفرج عبد الواحد بن نصر المخزومي المعروف بالببغاء.
فقال: نعم، أنا عارف به.
فقلت: أيعيش أم لا ؟ فقال: نعم، يعيش، ويبرأ، ولكن أنت لك ابن فاحذر عليه من علة تلحقه قريباً، واستيقظت.
وأخذ يهنيني بالعافية، ويقول: سرني ما جرى، ولكن قد أوحشني في أمر ابني، وأسأل الله تعالى الكفاية.
قال أبو الفرج: وكان للرجل ابن، له نحو الثلاثين سنة، وهو في الحال معافى، فلما مضت خمسة أيام من الرؤيا حم الفتى، وتزايدت علته، فمات في اليوم الرابع عشر من يوم حم، فقويت نفسي في صحة المنام، وما مضى على موت الفتى إلا أيام يسيرة، حتى أدبر مرضي، ولم تزل العافية تقوى إلى أن عوفيت، وعادت صحتي كما كانت بعد مدة يسيرة.
رأى الإسكندر رؤيا تبعها انتصاره على دارا ملك الفرسوجدت في بعض الكتب: أنه لما اشتدت الحرب بين الإسكندر، وبين دارا بن دارا، استظهر دارا عليه، وأشرف الإسكندر على الهلاك، وأيس من النصر، وحال الشتاء بينهما، فانصرف الإسكندر إلى معسكره، مغموماً مهموماً ليلته، ثم نام.

فرأى في منامه، كأنه صرع دارا، فصرعه دارا، فانتبه وقد كربه ذلك، وزاد في همه وغمه.
فقص رؤياه على بعض فلاسفته، فقال: أبشر أيها الملك بالغلبة والنصر، فإنك تغلب دارا على الأرض، لأنك كنت تليها لما صرعك.
فلما كان بعد أيام يسيرة، انهزم دارا، وقتل، وجاؤوا برأسه إلى الإسكندر.

رؤيا عبد الله بن الزبير وتعبيرها

قال مؤلف هذا الكتاب: ومثل هذا ما هو مشهور في روايات أصحاب الأخبار والسير، أن عبد الله ابن الزبير رأى في منامه، كأنه صارع عبد الملك بن مروان، فصرع عبد الملك، وسمره على الأرض بأربعة أوتاد.
فأرسل راكباً إلى البصرة، وأمره أن يلقى محمد بن سيرين، ويقص الرؤيا عليه، ولا يذكر له من أنفذه.
فأتاه وقص عليه المنام، فقال له ابن سيرين: من رأى هذا ؟ قال: أنا رأيته في رجل بيني وبينه عداوة.
فقال: ليس هذه رؤياك، هذه رؤيا ابن الزبير أو عبد الملك، أحدهما في الآخر.
فسأله الجواب، فقال: ما أفسرها أو تصدقني، فلم يصدقه، فامتنع من التفسير، فانصرف الراكب إلى ابن الزبير، فأخبره بما جرى.
فقال له: ارجع إليه، واصدقه، أنني رأيته في عبد الملك.
فرجع الراكب إلى ابن سيرين، وصدقه، فقال له: قل له يا أمير المؤمنين، إن عبد الملك يغلبك على الأرض، ويلي هذا الأمر من ولده لظهره أربعة، بعدد الأوتاد التي سمرته بها على الأرض.
رأى في منامه أنه قد صرع خصمه فكان تعبير رؤياه أن الخصم هو المنتصرحدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، الكاتب، المقيم - كان - بالبصرة، إلى أن مات، قال: لما سعى أبو أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى، مع جيش أبي القاسم بن أبي عبد الله البريدي، في أن يقبضوا عليه، ويحبسوه عند أبي أحمد، إلى أن يرد المطيع لله، أو جيش له إلى البصرة، فيملكوها، ويتسلمون منه أبا القاسم البريدي، وكانت القصة المشهورة في ذلك.
فبلغني ذلك، فخلوت بأبي أحمد، وكنت أكتب له حينئذ، وكان لا يحتشمني في أموره، وثنيته عن هذا الرأي، وعرفته وجوه الغلط فيه، والمخاطرة بدمه ونعمته، وهو غير قابل لمشورتي، إلى أن أكثرت عليه.
فقال لي: اعلم أنني قد رأيت رؤيا أنا بها واثق في تمام ما قد شرعت فيه من القبض على هذا الرجل.
فعجبت في نفسي من رجل يخالف الحزم الظاهر، والرأي الواضح، من أجل منام، ثم قلت له: ما الرؤيا ؟ فقال: رأيت كأن حية عظيمة، قد خرجت علي من حائط هذا العرضي.
قال: وكان جالساً في عرضي داره، قال: فكأني قد رميتها، فأثتبها في الحائط.
فحين قال أبو أحمد: أثبتها في الحائط، ذكرت تأويل منام ابن الزبير، وقص المنام الذي ذكرته، فسبق إلى قلبي، أن تأويل منام أبي أحمد، أنه قد أثبت عدوه في حائطه، وأن عدوه سيغلبه على البلد.
قال: فأمسكت، وقطعت الكلام، فما مضت إلا مدة يسيرة، حتى شاع التدبير، وصح الخبر به عند أبي القاسم البريدي، فبادر إلى القبض على فائق الأعسر، وكان هو الذي ندبه أبو أحمد للقبض على البريدي، وأن يكون أمير البلد، إلى أن يرد جيش الخليفة، فأقر بالخبر على شرحه، فقبض أبو القاسم على أبي أحمد بعد قبضه على فائق بيومين أو ثلاثة، فاستصفاه، وأهله، وولده، ثم قتله بعد ذلك بأيام.
الرشيد يولي أخاه إبراهيم بن المهدي دمشقبلغني عن إبراهيم بن المهدي، قال: كنت في جفوة شديدة من أخي الرشيد، أثرت في جاهي، ونقصت حالي، وأفضيت معها إلى الإضافة بتأخير أرزاقي، وظهور اطراحه إياي، فاختلت لذلك أحوالي، وركبني دين فادح، فبلغ بي القلق والفكر فيه ليلة من الليالي، مبلغاً شديداً، ونمت فرأيت في النوم كأني واقف بين يدي أبي المهدي، وهو يسألني عن حالي، وأنا أشكو إليه ما نكبني به الرشيد، وأنهيت إليه حالي، وأنا أقول: ادع الله عليه يا أمير المؤمنين.
فكأنه يقول: اللهم أصلح ابني هارون، يكررها ثلاثاً.
فكأني أقول: يا أمير المؤمنين أشكو إليك ظلم هارون لي، وأسألك أن تدعو عليه، فتدعو له.
فقال: وما عليك، إن أصلحه الله لك وللكافة، أن يبقى على حاله، هوذا أمضي إليه الساعة، وآمره أن يرجع لك، ويقضي دينك، ويوليك جند دمشق.
فكأنني أومي إليه بسبابتي، وأقول له: دمشق، دمشق، استقلالاً لها.
فيقول لي: حركت مسبحتك استقلالاً لدمشق، فكلما خف منها حظك، كان في العاقبة أجود لك.

فانتبهت، وأحضرت رجلاً كان مؤدبي في أيام المهدي، فسألته عن المسبحة، فقال: كان عبد الله بن العباس، يسمي السبابة: المسبحة، فما سؤال الأمير لي عنها ؟ فقصصت عليه الرؤيا، وامتنع النوم عني، فأخذ يحدثني وأنا جالس في فراشي، إذ جاءني رسول الرشيد، فارتعت له ارتياعاً شديداً، ولم أعبأ بالمنام، وخفت أن يريدني لسوء يوقعه بي.
فقلت: أدافعه إلى أن تطلع الشمس، ثم يكون دخولي الدار نهاراً، فإن كان أرادني لغيلة لم تتم.
فتقاطرت رسله حتى أعجلوني عن الرأي، واضطروني إلى الركوب في الحال، فدخلت إليه وأنا شديد الجزع، وهو جالس في فراشه ينتحب.
فلما رآني، قال: سألتك بالله يا أخي هل رأيت الليلة في منامك شيئاً ؟ فقلت: نعم، الساعة رأيت أمير المؤمنين المهدي.
فلما قلت له ذلك ازداد بكاؤه، ثم قال لي: ويحك، بالله، شكوتني إليه وسألته أن يدعو علي ؟ فقلت: قد كان ذلك، ولكنه قال كذا وكذا، وشرحت له ما قال.
فقال: الساعة والله، جاءني في منامي، فقص علي جميع ما ذكرت، وقد وفى بوعد، والله لأمتثلن أمره، ولأصلن رحمك، كم دينك ؟ قلت: كذا وكذا، فأمر بقضائه.
وقال: لا تبرح، حتى أصلي وأخرج، فأعقد لك على دمشق، فانتظرت حتى وجبت الصلاة، فصلى، وجاء وقت جلوسه، فجلس، واستدعاني فأظهر تكرمتي، وعقد لي لواء على دمشق، وأمر الناس، فساروا معي إلى منزلي، فعاد جاهي، وصلحت حالي.

المسبحة

التسبيح، في اللغة: الصلاة، والدعاء، وفي الاصطلاح: قول سبحان الله، تمجيداً وتنزيهاً له، والمسبحة: الإصبع التي تلي الإبهام، لأنها يشار بها عند التسبيح لسان العرب، مادة: سبح.
وكان التسبيح يجري باليد، ثم بالحصى، وكانت ساحات المساجد في الكوفة والبصرة والموصل، مفروشة بالحصى، يسبح به المصلون، ويحصبون به الولاة والخطباء، إذا سمعوا منهم ما لا يرضيهم الطبري 5 - 234 و 235 و 6 - 203 والأغاني 17 - 135 و 136 والإمامة والسياسة لابن قتيبة 2 - 16 و 25 و 26 والعقد الفريد 4 - 8 والهفوات النادرة 100 و 101.
وكان عبد الملك بن هلال، عنده زنبيل حصى ملآن، فكان يسبح بواحدة، واحدة، فإذا مل شيئاً، طرح اثنتين، اثنتين، فإذا مل، قبض قبضةً، وقال: سبحان الله بعدد هذا، فإذا ضجر، أخذ بعروتي الزنبيل، وقلبه، وقال: سبحان الله بعدد هذا كله، وإذا بكر لحاجة، وكان مستعجلاً، لحظ الزنبيل، لحظة، وقال: سبحان الله عدد ما فيه البيان والتبيين 3 - 228.
ثم اتخذت السبحة بضم السين، أو المسبحة بكسر الميم، وهي خرزات منظومة في سلك، يجري التسبيح بها، وكان حمل السبحة، دلالة على التقوى، قال ابن أبي عتيق، لسلامة: احملي معك سبحة، وتخشعي القصة 227 من هذا الكتاب، والأغاني 8 - 342.
ثم تعدى الأمر إلى اتخاذ السبحة للتسلية، وأصبح للسبحة هواة، يجمعون أصنافاً منها، ويغالون في أثمانها، وكانت سبحة زبيدة، قد اشترتها بخمسين ألف دينار البصائر والذخائر م 1 - ق 3 - ص 145ن و 146. وكان للمقتدر العباسي، سبحة قومت بمائة ألف دينار، حدثنا عنها الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر، وذكر أن والدته عمرة، جارية المقتدر، أخبرته، بأن المقتدر استدعى بجواهر، فاختار منها مائة حبة، ونظمها سبحة يسبح بها، وأن هذه السبحة عرضت على الجوهريين، فقوموا كل حبة منها بألف دينار وأكثر القصة 7 - 147 من نشوار المحاضرة.
وأعطى المقتدر، قهرمانته زيدان، سبحة لم ير مثلها تاريخ الخلفاء 384 وكان يضرب بها المثل، فيقال: سبحة زيدان المنتظم 6 - 70.
ولما وزر علي بن عيسى للمقتدر، قال: ما فعلت سبحة جوهر، قيمتها ثلثمائة ألف دينار، أخذت من ابن الجصاص ؟، قال: في الخزانة، فقال: تطلب، فطلبت، فلم توجد، فأخرجها الوزير من كمه، وقال: عرضت علي، فاشتريتها، فإذا كانت الجوهر لا تحفظ، فما الذي يحفظ ؟، فاشتد ذلك على المقتدر المنتظم 6 - 70.
ولما عاد الخليفة القائم في السنة 451 من منفاه في الحديثة، إلى بغداد، بعثت إليه زوجته أرسلان خاتون، اثنتي عشرة حبة لؤلؤ كباراً مثمنة، وسألته أن يتخذ منها سبحة يسبح بها المنتظم 8 - 207.
ولما سمل توزون، الخليفة المتقي، في السنة 333، ونصب المستكفي خليفة بدلاً منه، وجه المستكفي إلى توزون سبحة جوهر في قد واحد، خاتمتها ياقوتة حمراء، لم ير مثل ذلك الدر والخاتمة، وقومت بخمسين ألف دينار تجارب الأمم 2 - 75.

وكان لأبي الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي 315 - 390 سبحة جوهر، قيمتها مائة ألف دينار، طوق بها قنينة بلور للشراب المنتظم 7 - 212.
وكانت سبحة نصر الدولة، صاحب ميافارقين ت 453 من اللؤلؤ، عدد حباتها مائة وأربعون لؤلؤة، وزن كل حبة مثقال، وفي وسطها الجبل الياقوت، وقطع بلخش، قدرت قيمتها بثلثمائة ألف دينار الوافي بالوفيات 1 - 122.
ولما استولى أمير المسلمين، يوسف بن تاشفين، على غرناطة في السنة 479، وجد لصاحبها سبحة جوهر، من أربعمائة حبة، وقومت كل حبة بمائة دينار ابن الأثير 10 - 155.
أقول: وقد زرت في السنة 1968 عندما كنت في طهران، متحف الجواهر، في قبو عمارة البنك الملي الإيراني، فوجدت من جملة الجواهر المعروضة فيها، سبحة من اللؤلؤ، عدد حباتها قليل، إلا أن كل حبة منها، كانت بقدر الجوزة، ولم تكن الحبات تامة التكوير، وسألت عنها، فقالوا: إنها سبحة فتح علي شاه.
وفي أيامنا هذه، تتخذ المسابح المعدة للتسبيح، من الطين أو الخشب، أما التي تتخذ للتسلية، فلا حصر لها، فهي تتخذ من أنواع المعادن، والحجارة، والزجاج، والعظام، والجواهر، واللآلىء، ولعل أكثرها استعمالاً، التي تتخذ من معدن الكهرمان، ويسمى ببغداد: الكهرب.
ومن أطرف ما سمعناه عن أصناف المسابح، مسبحة من الباقلاء، اتخذها أحد طلبة الفقه في النجف، ليغيظ بها أهالي الحلة، وتفصيل القصة: أن الحليين، يكثرون من زرع الباقلاء وأكلها، وهم يعيرون بذلك، ويغضبون إذا ذكرت في مجالسهم، لا فرق بين صغيرهم وكبيرهم، وكان الشيخ محمد طه نجف، أحد كبار علماء الشيعة، يقضي شهرين من فصل الصيف في قرية الجمجمة من ضواحي الحلة، وكان موكبه يشق الحلة ليصل إلى تلك القرية، فكان إذا مر بسوق الحلة، يسمع من خلفه الشتائم، فيعجب، ثم تبين له أن أحد تلاميذه يتحرش بأهل الحلة، ويعيرهم بالباقلاء، فيسبونه، فأنذر الشيخ تلميذه بأن لا يصحبه في رحلة الصيف، فاعتذر هذا وأظهر التوبة، وحلف لشيخ أنه سوف لا يفتح فمه، ولا ينبس بحرف عند مروره بالحلة، ولكن ما إن مر موكب الشيخ إلا وأخذت الشتائم تترى، فالتفت، فود تلميذه صامتاً كما وعد، ولكنه كان قد رفع كفه حاملاً مسبحة من الباقلاء يسبح بها أمام الناس.
يرى مناماً وهو محبوس فيطلق من حبسه
حدثني أبو القاسم طلحة بن محمد بن جعفر، المقرىء، الشاهد، قال: حدثني أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، قال: حدثني أبو الفضل ميمون بن هارون، قال: حدثني موسى بن عبد الملك، قال: رأيت وأنا في الحبس، كأن قائلاً يقول لي:
لا زلت تعلو بك الجدود ... نعم وحفّت بك السّعود
أبشر فقد نلت ما تريد ... يبيد أعداءك المبيد
لم يمهلوا ثمّ لم يقالوا ... بل يفعل اللّه ما يريد
فاصبر فصبر الفتى حميدٌ ... واشكر ففي شكرك المزيد
فانتبهت، وقد طفىء السراج، فطلبت شيئاً، حتى كتبت الأبيات على الحائط، وأصبحت وقد قويت نفسي.
قال: فما مضى على ذلك إلا أيام يسيرة، حتى أطلقت.
يكره شخصاً على العمل ثم يحبسه ويعذبه
وذكر المدائني في كتابه، كتاب الفرج بعد الشدة والضيقة، قال: قال توبة العنبري: أكرهني يوسف بن عمر على العمل، فلما رجعت حبسني حتى لم يبق في رأسي شعرة سوداء.
فأتاني آت في منامي فقال لي: يا توبة أطالوا حبسك ؟ قلت: أجل.
فقال: سل الله عز وجل العفو والعافية، في الدنيا والآخرة، ثلاثاً، فاستيقظت، فكتبتها، وتوضأت، وصليت ما شاء الله، ثم جعلت أدعو، حتى وجبت صلاة الصبح، فصليتها.
فجاء حرسي، فقال: أين توبة العنبري، فحملني في قيودي، فأدخلني عليه وأنا أتكلم بهن، فلما رآني بإطلاقي.
قال توبة: فعلمتها في السجن رجلاً، فقال: إني لم أدع إلى عذاب قط، فقلتهن، إلا خلوا عني، فجيء بي يوماً العذاب، فجعلت أتذاكرهن، فلا أذكرهن، حتى جلدت مائة سوط، فذكرتهن بعد، فدعوت بهن، فخلوا عني.
حدثنا علي بن الحسن، بن أبي الطيب، قال: حدثنا ابن الجرح، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثنا حاتم بن عبد الله أنه حدث عن سيار بن حاتم، قال: حدثنا عثمان بن مطر، قال: حدثنا توبة العنبري، فذكر مثله، وزاد فيه، فقيدني، فما زلت في السجن، حتى لم يبق في رأسي شعرة سوداء.

رأى في منامه أن قد أخرجت من داره اثنتا عشرة جنازة

وروى المدائني في كتابه أيضاً، عن معمر بن المثنى، عن علي بن القاسم، قال: حدثني رجل قال: رأيت في المنام، أيام الطاعون، أنهم أخرجوا من داري اثنتي عشرة جنازة، وأنا وعيالي اثنا عشر نفساً، فمات عيالي، وبقيت وحدي، فاغتممت، وضاق صدري.
فخرجت من الدار ثم رجعت في الغد، فإذا لص قد دخل ليسرق، فطعن في الدار، فمات، وأخرجت منها جنازته.
وسري عني ما كنت فيه، ووهب الله العافية والسلامة.
وهب بن منبه يصاب بالإملاق ثم يعطيه الله من فضلهذكر القاضي أبو الحسين، في كتابه الفرج بعد الشدة: أن وهب بن منبه، قال: أملقت، حتى قنطت، أو كدت، فأتاني آت في منامي، ومعه شبيه بالفستقة، فدفعها إلي.
وقال: افضض، ففضضتها فإذا حريرة.
فقال: انشر، فنشرتها، فإذا فيها ثلاثة أسطر ببياض: لا ينبغي لمن عرف عن الله عدله، أو عقل عن الله أمره، أن يستبطىء الله في رزقه.
قال: فأعطاني الله بعدها، فأكثر.
درس في الإيثاروذكر أيضاً عن الواقدي، أنه قال: أضقت إضاقة شديدة، وهجم شهر رمضان، وأنا بغير نفقة، فضاق ذرعي بذلك، فكتبت إلى صديق لي علوي، أسأله أن يقرضني ألف درهم، فبعث إلي بها في كيس مختوم، فتركتها عندي.
فلما كان عشي ذلك اليوم، وردت علي رقعة صديق لي، يسألني إسعافه لنفقة شهر رمضان، بألف درهم، فوجهت إليه بالكيس بخاتمه.
فلما كان في الغد، جاءني صديق الذي اقترض مني، والعلوي الذي اقترضت منه، فسألني العلوي عن خبر الدراهم، فقلت: صرفتها في مهم.
فأخرج الكيس بختمه، وضحك، وقال: والله لقد قرب هذا الشهر وما عندي إلا هذه الدراهم، فلما كتبت إلي، وجهت بها إليك، وكتبت إلى صديقنا هذا، أقترض منه ألف درهم، فوجه إلي بالكيس، فسألته عن القصة، فشرحها، وقد جئناك لنقتسمها، وإلى أن ننفقها يأتي الله بالفرج.
قال الواقدي: فقلت لهما، لست أدري أينا أكرم، فقسمناها، ودخل شهر رمضان، فأنفقت أكثر ما حصل منها، وضاق صدري، وجعلت أفكر في أمري.
فبينما أنا كذلك، إذ بعث إلي يحيى بن خالد البرمكي في سحرة يوم، فصرت إليه.
فقال: يا واقدي، رأيتك البارحة فيما يرى النائم، وأنت على حال دلتني على أنك في غم شديد وأذى، فاشرح لي أمرك.
فشرحته، إلى أن بلغت حديث العلوي، وصديقي والألف درهم، فقال: ما أدري أيكم أكرم، وأمر لي بثلاثين ألف درهم، ولهما بعشرين ألف، وقلدني القضاء.
الباب السابع

من استنقذ من كرب وضيق خناق

بإحدى حالتي عمد أو اتفاق

محمد بن زيد العلوي يضرب مثلاً عالياً في النبل
حدثنا أبو الفرج علي بن الحسين المعروف بالأصبهاني الكاتب، قال: كان محمد بن زيد العلوي، الداعي بطبرستان، إذا افتتح الخراج نظر ما في بيت المال من خراج السنة التي قبلها، ففرق في قبائل قريش قسطاً، على دعوتهم، وفي الأنصار، وفي الفقهاء، وأهل القراءات، وسائر طبقات الناس، حتى يفرق جميع ما بقي.
فجلس سنة من السنين، يفرق المال، على ما كان يفعل، فلما فرغ من بني هاشم، دعا بسائر بني عبد مناف، فقام رجل، فقال له: من أي بني عبد مناف أنت ؟، فسكت.
قال: لعلك من ولد معاوية ؟ قال: نعم.
قال: فمن أي ولده أنت ؟ فسكت.
قال: لعلك من ولد يزيد ؟ قال: نعم.
قال: بئس الاختيار لنفسك، من قصدك بلداً من ولايته لآل أبي طالب، وعندك ثأرهم في سيدهم وإخوته وبني عمه، وقد كانت لك مندوحة عنهم بالشام والعراق، عند من يتولى جدك، ويحب رفدك، فإن كنت جئت عن جهل بهذا منك، فما يكون بعد جهلك شيء، وإن كنت جئت متمرياً بهم، فقد خاطرت بنفسك.
فنظر إليه العلويون نظراً شديداً، فصاح بهم محمد وقال: كفوا عافاكم الله، كأنكم تظنون أن في قتل هذا دركاً أو ثأراً بالحسين بن علي رضي الله عنهما، وأي جرم لهذا ؟، إن الله عز وجل قد حرم أن تطالب نفس بغير ما اكتسبت، والله، لا يعرض له أحد إلا أقدته به، واسمعوا حديثاً أحدثكم به، يكون قدوة لكم فيما تستأنفون من أموركم.
حدثني أبي، عن أبيه، قال: عرض على المنصور، سنة حج، جوهر فاخر، فعرفه، وقال: هذا كان لهشام بن عبد الملك، وهذا بعينه، قد بلغني خبره، عند ابنه محمد، وما بقي منهم أحد غيره.

ثم قال للربيع: إذا كان غداً، وصليت بالناس في المسجد الحرام، وحصل الناس فيه، فأغلق الأبواب كلها، ووكل به ثقاتك من الشيعة، واقفلها، وافتح للناس باباً واحداً، وقف عليه، فلا يخرج إلا من عرفته.
فلما كان من الغد، فعل الربيع ما أمره به، وتبين محمد بن هشام القصة، فعلم أنه هو المطلوب، وأنه مأخوذ، فتحير.
وأقبل محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام على أثر ذلك، فرآه متحيراً، وهو لا يعرفه، فقال له: يا هذا، أراك متحيراً فمن أنت ؟ ولك أمان الله التام العام، وأنت في ذمتي حتى أخلصك.
فقال: أنا محمد بن هشام بن عبد الملك، فمن أنت ؟ قال: أنا محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
فقال محمد بن هشام: عند الله احتسب نفسي.
قال: لا بأس عليك، فإنك لست قاتل زيد، ولا في قتلك إدراك ثأره، وأنا الآن بخلاصك، أولى مني بإسلامك، ولكن تعذرني في مكروه أتناولك به، وقبيح أخاطبك به، يكون فيه خلاصك بمشيئة الله تعالى.
قال: أنت وذاك.
قال: فطرح رداءه على رأسه ووجهه، ولببه به، وأقبل يجره.
فلما وقعت عين الربيع عليه، لطمه لطمات، وجاء به إلى الربيع، وقال: يا أبا الفضل، إن هذا الخبيث جمال من أهل الكوفة، أكراني جماله ذاهباً وراجعاً، وقد هرب مني في هذا الوقت، وأكرى بعض القواد الخراسانية، ولي عليه بذلك بينة، فتضم إلي حرسيين يصيران به معي إلى القاضي، ويمنعان الخراساني من عراره.
فضم إليه حرسيين، وقال: امضيا معه.
فلما بعد عن المسجد، قال له: يا خبيث، تؤدي إلي حقي ؟ قال: نعم يا ابن رسول الله.
فقال للحرسيين: انصرفا، وأطلقه محمد.
فقبل محمد بن هشام رأسه، وقال: بأبي أنت وأمي، الله أعلم حيث يجعل رسالاته، ثم أخرج جوهراً له قدر، فدفعه إليه، وقال: تشرفني يا سيدي بقبول هذا مني.
فقال: يا ابن عم، إنا أهل بيت، لا نقبل على المعروف مكافأة، وقد تكرت لك دم زيد، وهو أعظم من متاعك، فانصرف راشداً، ووار شخصك، حتى يخرج هذا الرجل، فإنه مجد في طلبك، فمضى، وتوارى.
قال: ثم أمر محمد بن زيد، الداعي بطبرستان، للأموي، بمثل ما أمر به لسائر بني عبد مناف، وضم إليه جماعة من مواليه، وأمرهم أن يخرجوا معه إلى الري، ويأتوه بكتاب بسلامته.
فقام الأموي، فقبل رأسه، ومضى ومعه القوم، حتى وصل إلى مأمنه، وجاءوه بكتاب بسلامته.

يزيد بن معاوية

أبو خالد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي 25 - 64: ثاني ملوك الدولة الأموية بالشام، فرضه أبوه على الناس فرضاً، وشدد في بيعته بالرغبة والرهبة، ففتح بذلك على المسلمين باباً من أبواب الفتنة، راجع خبر ذلك في الأغاني 16 - 197 وفي مروج الذهب 2 - 21 وفي ترجمة معاوية القصة 309 من هذا الكتاب.
ولد يزيد بالشام ونشأ بها في ظل والده الذي حكم الشام حكماً مستمراً دام ما يزيد على أربعين سنة، فنشأ نشأة الأمراء الأرستقراطيين، يشرب الخمر، ويسمع الغناء، ويمارس الصيد، ويتخذ القيان، ويتفكه بما يلهو به المترفون من اللعب بالقرود، والمعافرة بالكلاب والديكة الأغاني 17 - 300 و 301 والبصائر والذخائر م 4 - 266 وأنساب الأشراف ج 4 ق 2 ص 1 و 3 حتى وصفه أبو حمزة الخارجي، بأنه: يزيد الخمور، ويزيد الصقور، ويزيد الفهود، ويزيد الصيود، ويزيد القرود السيادة العربية 143.
وكان تصرفه وهو ولي عهد، يستره لين أبيه مع الناس، فلما مات انكشفت أعماله للناس فلم يحتملها أحد منهم، لقرب عهدهم بأيام الخلفاء الراشدين 11 - 40 فاضطروا إلى قتاله.

وكانت أيام حكمه ثلاث سنوات لم تخل واحدة منها، من عظيمة من العظائم، ففي السنة الأولى قتل الحسين عليه السلام وأهل بيت رسول الله صلوات الله عليه، فضحى بالدين يوم الطف الأغاني 9 - 22 وفي السنة الثانية استباح مدينة رسول الله صلوات الله عليه وانتهك حرمات أهلها ذبحاً ونهباً وانتهاك حرمات اليعقوبي 2 - 253 فشفى بذلك غيظه من الأنصار الذين عاونوا في انتصار المسلمين في موقعة بدر حيث قتل في مبارزة واحدة أبو جدته هند، وعمها، وأخوها الأغاني 4 - 189 ذلك الغيظ الذي لم يطق كتمانه وهو أمير، فطلب من كعب بن جعيل أن يهجو الأنصار، فأبى وأشار عليه بالأخطل العقد الفريد 5 - 321 فهجاهم، ووصفهم باللؤم، وعيرهم بأنهم يهود، فلما ذبح أهل المدينة، كان جند يزيد يقاتلونهم ويقولون لهم: يا يهود أنساب الأشراف 4 - 2 - 37 ولما عرضت على يزيد جريدة بأسماء قتلى أهل المدينة، تملكه العجب من كثرتهم، وقال: يا عجباً، قاتلني كل أحد، حتى ابن خالتي، وقال: ما أرى أنه بقي بالمدينة أحد الأغاني 8 - 325 و 14 - 240، ثم تمثل بقول ابن الزبعري، الذي شمت بقتل المسلمين في يوم أحد، فقال: رسائل الجاحظ 19 - 20:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
لاستطالوا واستهلّوا فرحاً ... ثم قالوا: يا يزيد لا تشل
قد قتلنا الغرّ من ساداتهم ... وعدلناه ببدر فانعدل
وفي السنة الثالثة، استباح الكعبة، حرم الله سبحانه وتعالى، وسفك فيها الدماء، وأحرقها اليعقوبي 2 - 253 وأنساب الأشراف ج 4 ق 2 ص 1 والفخري 123، وقضى في سنة حكمه الثالثة، فختم بهلاكه صحيفة سوداء ملوثة، حتى أن رجلاً ذكره في مجلس الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز، فقال: أمير المؤمنين يزيد، فقال له عمر: تقول أمير المؤمنين، وأمر به، فضرب عشرين سوطاً تاريخ الخلفاء 209.

بين الإسكندر وملك الصين

حدثني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني، إملاء من حفظه، قال: قرأت في بعض الأخبار للأوائل، أن الإسكندر لما انتهى إلى الصين، وحاصر ملكها، أتاه حاجبه، وقد مضى من الليل شطره، فقال له: هذا رسول ملك الصين بالباب، يستأذن عليك.
فقال: أدخله.
فوقف بين يدي الإسكندر، وسلم، وقال: إن رأى الملك أن يخليني، فعل.
فأمر الإسكندر من بحضرته بالانصراف، وبقي حاجبه، فقال: إن الذي جئت له لا يحتمل أن يسمعه غيرك.
فقال: فتشوه، فلم يوجد معه شيء من السلاح.
فوضع الإسكندر بين يديه سيفاً مسلولاً، وأخرج حاجبه، وكل من كان عنده، وقال له: قف بمكانك، وقل ما شئت.
فقال له: إني أنا ملك الصين، لا رسوله، وقد جئت أسألك عما تريده، فإن كان مما يمكن الانقياد إليه، ولو على أشق الوجوه، قبلته، وغنيت أنا وأنت على الحرب.
قال الإسكندر: وما آمنك مني ؟ قال: علمي بأنك رجل عاقل، وليس بيننا عداوة، ولا مطالبة بذحل، وأنت تعلم أنك إن قتلتني لم يكن ذلك سبباً لأن يسلم إليك أهل الصين ملكهم، ولم يمنعهم قتلي من أن ينصبوا ملكاً غيري، ثم تنسب أنت إلى غير الجميل، وضد الحزم.
فأطرق الإسكندر، وعلم أنه رجل عاقل، فقال: الذي أريده منك، ارتفاع مملكتك لثلاث سنين عاجلاً، ونصف ارتفاعها في كل سنة.
قال: هل غير ذلك شيء ؟ قال: لا.
قال: قد أجبتك.
قال: فكيف يكون حالك حينئذ ؟ قال: أكون قتيل أو محارب، وأكلة أول مفترس.
قال: فإن قنعت منك بارتفاع ثلاث سنين، كيف يكون حالك ؟ قال: أصلح مما كانت، وأفسح مدة.
قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة ؟ قال: يكون ذلك كمالاً لأمر ملكي، وموفياً لجميع لذاتي.
قال: فإن اقتصرت منك على ارتفاع السدس ؟ قال: يكون السدس موفراً، ويكون الباقي للجيش ولسائر الأسباب.
قال: قد اقتصرت منك على هذا، فشكره، وانصرف.
فلم طلعت الشمس، أقبل جيش ملك الصين حين طبق الأرض، وأحاط بجيش الإسكندر حتى خافوا الهلاك، وتواثب أصحابه فركبوا، واستعدوا للحرب.
فبينما هم كذلك إذ طلع ملك الصين، وعليه التاج، وهو راكب، فلما رأى الاسكندر، ترجل.
فقال له الاسكندر: غدرت ؟ قال: لا والله.
قال: فما هذا الجيش ؟

قال: إني أردت أن أريك أنني لم أطعك من قلة ولا من ضعف، وأنت ترى هذا الجيش، وما غاب عنك منه أكثر، ولكني رأيت العالم الأكبر مقبلاً عليك، ممكناً لك ممن هو أقوى منك، وأكثر عدداً، ومن حار العالم الأكبر غلب، فأردت طاعته بطاعتك والذلة لأمره بالذلة لك.
فقال الإسكندر: ليس مثلك من يؤخذ منه شيء، فما رأيت بيني وبينك أحداً يستحق التفضيل، والوصف بالعقل، غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك.
فقال ملك الصين: أما إذ فعلت ذلك، فلست تخسر.
فلما انصرف الإسكندر، أتبعه ملك الصين، من الهدايا، بضعف ما كان قرره معه.

بين إسحاق الموصلي وغلامه فتح

أخبرني أبو بكر محمد بن يحيى الصولي - فيما أجاز لي روايته عنه، بعد ما سمعته منه - قال: حدثني الحسن بن يحيى، قال: كان لإسحاق الموصلي غلام يقال له: فتح، يسقي الماء لأهل داره على بغلين من بغاله دائماً.
قال إسحاق: فقلت له يوماً: أيش خبرك يا فتح ؟ قال: خبري أن ليس في هذه الدار أشقى مني ومنك، أنت تطعم أهل الدار الخبز، وأنا أسقيهم الماء.
فاستظرفت قوله، وضحكت منه، وقلت له: فأي شيء تحب ؟ قال: تعتقني، وتهب لي البغلين، لأستقي عليهما لنفسي.
ففعلت.
أنسب بيت قالته العربأخبرني أبو الفرج، قال: حدثني خلف بن وضاح، قال: حدثني عبد الأعلى بن عبد الله بن محمد بن صفوان الجمحي، قال: حملت ديناً بعسكر المهدي، فركب المهدي يوماً بين أبي عبيد الله، وعمر بن بزيع، وأنا وراءه في موكبه على برذون قطوف، فقال: ما أنسب بيت قالته العرب ؟ فقال أبو عبيد الله: قول امرىء القيس:
وما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي ... بسهميك في أعشار قلبٍ مقتّل
فقال: هذا أعرابي قح.
فقال عمر بن بزيع: قول كثير يا أمير المؤمنين:
أريد لأنسى ذكرها فكأنّما ... تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل
فقال: ما هذا بشي، وما له يريد أن ينسى ذكرها، حتى تمثل له ؟ فقلت: عندي حاجتك يا أمير المؤمنين.
قال: الحق بي.
فقلت: لا لحاق بي، ليس ذلك في دابتي.
فقال: احملوه على دابة.
قلت: هذا أول الفتح، فحملت على دابة، فلحقته.
فقال: ما عندك ؟ فقلت: قول الأحوص يا أمير المؤمنين:
إذا قلت إنّي مشتفٍ بلقائها ... فحمّ التلاقي بيننا زادني سقما
فقال: أحسنت، حاجتك ؟ قلت: علي دين.
قال: اقضوا دينه.
فقضي ديني.
تقلد الإنفاق على عسكرين فأفاد في أقل من شهر سبعمائة ألف درهمذكر ابن عبدوس في كتابه، كتاب الوزراء: حدث أحمد بن محمد بن زياد، قال: قال لي الريان بن الصلت: كنت في خدمة الفضل بن سهل، فيما كنت فيه، من ثقته واستنامته، على ما كنت عليه.
فدعاني في وقت من الأوقات، إلى أن يضم إلي أربعة آلاف من الشاكرية والجند، ويقودني عليهم، ويجريني مجرى قواده، فامتنعت عليه من ذلك، وأعلمته أني لا أقوم بذلك، ولا آمن أن أتقلد منه ما يقع فيه التقصير، فيسقط حظي عنده، ومنزلتي لديه.
فأنكر ذلك علي أشد الإنكار، وعاودني فيه مراراً، فلم أجبه إليه، فلما رأى إقامتي على الإمتناع، جفاني، وأعرض عني، وامتدت الأيام على هذا، حتى أداني ذلك إلى الاختلال الشديد الذي أضر بي.
فدخل إلي غلامي يوماً، فأعلمني أنه لا نفقة عنده، ولا مضطرب له في احتيالها، لامتناع التجار عن إعطائه، لتأخر مالهم علينا عنهم، وأنه لا علف لدوابنا، ولا قوت لنا.
فأومأت إلى عمامة ملحم كانت بحضرتي، وأمرته ببيعها، وصرف ثمنها فيما يحتاج إليه، فباعها بثمانية دراهم.
وورد علي في ذلك اليوم كتاب وكيلي على أهلي، بمدينة لاسلام، يعلمني ضيق الأمر عليه فيما يحتاج إلى إقامته للعيال، وإنه التمس من التجار مقدار ألفي درهم، فلم يجيبوه إليها، فعظم علي ما ورد من ذلك، وضاقت بي المذاهب.
فبينما أنا قاعد في عشية يومي ذلك، إذ أتاني رسول الفضل يأمرني بحضور الدار، والمقام فيها، إلى عند خروجه من دار المأمون، فحضرتها بعد صلاة العتمة، فأقمت، إلى أن خرج الفضل في وقت السحر، فلقيته، وبين يديه خرائط كثيرة محمولة.
فقال: صليت صلاة الليل ؟ قلت: نعم.
فقال: لكني ما صليت، فكن ها هنا إلى أن أصلي، فصلى، ثم انفتل من صلاته، فدعاني.
فقال: أتدري ما هذه الخرائط ؟ قلت: لا.

قال: هذه ثماني وستون خريطة وردت، وقرأتها، وأجبت عنها بخطي، فدعوت الله له بحسن المعونة والتوفيق.
ثم قال لي: يا ريان، إن أبا محمد الحسن بن سهل قد دفع إلى واسط، ورأى أمير المؤمنين أن يمده بدينار بن عبد الله ونعيم بن خازم في عشرة آلاف رجل، وأن يقلدك الإنفاق عليهم في عسكريهما، وأن يجرى لك في كل شهر عشرة آلاف درهم، ولكاتبك ثلاثة آلاف درهم، ولقراطيسك ألف درهم، وأن يوظف لك على كل عسكر عشرة أجمال لحملك، أو مائة دينار عوضاً عنها، ثم أمر لي في ذلك الوقت، أن تحمل إلي أرزاق ثلاثة أشهر، فما صليت الصبح حتى حمل إلي اثنان وأربعون ألف درهم، وأخذ في تجهيز العسكرين.
قال: وبعث إلي الفضل بفرس من دوابه وأمرني أن أبعث به إلى نعيم بن خازم، وأعمله أنه خصه به، وأنه من خيله التي يركبها، فوجهت به إلى نعيم بن خازم، فأظهر السرور والابتهاج بذلك، والتعظيم له، ووهب لغلامي عشرة آلاف درهم، وبعث إلي بخمسين ألف درهم.
فكتبت بذلك إلى الفضل، فكتب على رقعتي: أردد على نعيم ما بعث به إليك، وما وهب لغلامك، واقبض لنفسك عوضاً منه، مائة وعشرين ألف درهم.
ثم أمر بعد أيام لدينار، بسبعمائة ألف درهم صلة ومعونة، ولنعيم بن خازم بخمسمائة ألف درهم، فبعثت بها إليهما، فبعث إلي كل واحد منهما بخمسين ألف درهم.
فكتبت إلى الفضل رقعة، فأعلمته فيها بما فعلاه، فوقع على ظهرها: إقبل من دينار ما بعث به إليك، واردد إلى نعيم ما بعث به، واقبض لنفسك عوضاً من ذلك مائة ألف درهم.
قال: وسرنا عن مرو، فلما صرنا في الطريق، ورد علي كتاب الفضل، يأمرني فيه، أن أحمل إلى دينار ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، وإلى نعيم ألف ألف درهم، ففعلت، فحمل إلي دينار مائة ألف درهم، وخمسين ألف درهم، وبعث إلي نعيم مائة ألف درهم، فقبلت من دينار ما بعث به، ورددت على نعيم ما بعث به، حسبما حد لي في رقعتي الأولى والثانية، ولم أكتب بالخبر في ذلك إلى الفضل، لئلا يتوهم علي استدعاء العوض، وكتب له بذلك صاحب خبر، كان له في السر علينا، فوقع على ظهر كتابه إلي، قد علمت أنك أمسكت عن الكتابة إلي بما فعله نعيم ودينار، وما كان من ردك على نعيم ما بعث به، لئلا أتوهم عليك الاستدعاء للصلة، وقد رأيت أن تقبض لنفسك عوضاً عن ذلك مائتي ألف درهم.
قال الريان: فلم تمض سبعة وعشرون يوماً، حتى حصل عندي سبعمائة ألف درهم.

المأمون بخراسان ينقلب حاله من أشد الضيق إلى أفسح الفرج

وذكر في كتابه عن جبريل بن بختيشوع، في خبر طويل، أنه سمع المأمون يقول: كان لي بخراسان يوم عجيب، فأولى الله فيه بإحسانه جميلاً، لما توجه طاهر بن الحسين إلى علي بن عيسى بن ماهان، كما قد عرفتموه من ضعف طاهر وقوة علي، وقر في نفوس عسكري جميعاً، أن طاهراً ذاهب، ولحق أصحابي إضاقة شديدة، وظهرت فيهم خلة عظيمة، ونفد ما كان معي، فلم يبق منه لا قليل ولا كثير، وأفضيت إلى حال كان أصلح ما فيها الهرب، فلم أدر إلى أين أهرب، ولا كيف آخذ، وبقيت حائراً متفكراً.
فأنا - والله - كذلك وكنت نازلاً في دار أبوابها حديد، ولي مستشرفات أجلس فيها إذا شئت، وعدد غلماني ستة عشر غلاماً، لا أملك غيرهم، وإذا بالقواد والجيش جميعاً قد شغبوا، وطلبوا أرزاقهم، ووافوا جميعاً يشتموني، ويتكلمون بكل قبيح.
فكان الفضل بن سهل بين يدي، فأمر بإغلاق الأبواب، وقال لي: قم فاصعد إلى المجلس الذي يستشرف فيه، إشفاقاً علي من دخولهم، وسرعة أخذهم إياي، وتعليلاً لي بالصعود.
فقلت: القوم يدخلون الساعة، فيأخذوني، فلأن أكون بموضعي، أصلح.
فقال لي: يا سيدي اصعد، فوالله، ما تنزل إلا خليفة.
فجعلت أهزأ به، وأعجب منه، وأحسب أنه إنما قال ما قال، ليسمعني، وأركنت للهرب من بعض أبواب الدار، فلم يكن إلى ذلك سبيل، لإحاطة القوم بالدار والأبواب كلها.
فالح علي أن أصعد، فصعدت وأنا وجل، فجلست في المستشرف، وأنا أرى العسكر.

فلما علموا بصعودي اشتد كلبهم، وشتمهم، وضجيجهم، وبادروني بالوعيد والشتم، فأغلظت على الفضل بن سهل وقلت له: أنت جاهل، غررتني، لوم تدعني أعمل برأيي، وليس العجب إلا ممن قبل منك، وهو في هذا كله، يحلف أنني لا أنزل إلا خليفة، وغيظي عليه، وتعجبي من حمقه، ومواصلة الأيمان أنني لا أنزل إلا خليفة، مع ما أشاهده، والحال يزيد، أشد علي مما أقاسيه من الجند.
ثم وضع القوم النار في شوك جمعوه، وأدنوه من الدار، ونقبوا في سورها عدة نقوب، وثلموا منه قطعة، فذهبت نفسي خوفاً وجزعاً، وعلمت أني بين أن أحترق، وبين أن يصلوا إلي فيقتلوني، فهممت بأن ألقي نفسي إليهم، وقدرت أنهم إذا رأوني استحيوا مني، وأقصروا.
وجعل الفضل بن سهل يقبل يدي ورجلي، ويناشدني أن لا أفعل، ويحلف لي أني لا أنزل إلا خليفة، وفي يده الإسطرلاب، ينظر فيه في الوقت بعد الوقت.
فلما اشتد علي الأمر، واستحكم اليأس، قال لي: يا سيدي، قد - والله - أتاك الفرج، أرى شيئاً في الصحراء قد أقبل، ومعه فرجنا، فازددت من قوله غيظاً، وأمرت غلماني بتأمل الصحراء، فلم أر، ولم يروا شيئاً.
وجد القوم في الهدم والحريق، حتى هممت - لما داخلني - أن أرمي بالفضل إليهم.
فقال الغلمان: إنا نرى في الصحراء شيئاً يلوح، فنظرت فإذا شبح، وجعل يزيد تبياناً، إلى أن تبينوا رجلاً على بغلة، ثم قرب، فإذا هو يلوح، وقرب من العسكر، وقويت له قلوبنا، ورأى الجند ذلك فتوقفوا، وخالطهم، فإذا هو يقول: البشرى، هذا رأس علي بن عيسى بن ماهان معي في المخلاة، فلما رأوا ذلك أمسكوا عنا، وانقلبوا بالدعاء، والسرور بالظفر والفتح.
فقال لي الفضل بن سهل: يا سيدي، إئذن لي في إدخال بعضهم، فأذنت له، فشرط عليهم أن لا يدخل إلا من يريد، فأجابوا إلى ذلك، وسمى قوماً من القوم، فأدخلهم.
فكان أول من دخل علي، عبد الله بن مالك الخزاعي، فقبل يدي، وسلم علي بالخلافة، ثم أدخل القواد بعده، واحداً، واحداً، ففعلوا مثل ذلك، فأطفأ الله - عز وجل - النائرة، ووهب السلامة، وقلدني الخلافة، فظفرت من أموال علي بن عيسى بن ماهان، وما في عسكره، بما أصلحنا به أمور جندنا.
ثم ذكر تمام الحديث.
وحدثني بهذا الخبر، أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي، قال: حدثني أبو سعيد سنان بن ثابت بن قرة، قال: قال الفضل بن مروان: كنت مع المأمون، وقد خرج إلى نواحي الإسحاقي ليتصيد في جماعة من عسكره قليلة، فذكر هذا الخبر بطوله، وصدره وعجزه على ما في كتاب ابن عبدوس، مما لم أذكره، فذكر فيه هذه القطعة من الخبر، على قريب مما هي مذكورة ها هنا.

طلب الولاية على بزبندات البحر وصدقات الوحش

وذكر أيضاً في كتابه، قال: حدثني محمد بن مخلد، وكان يلقب لبد، لطول عمره، وروى عنه المدائني الكاتب، عن أبيه مخلد بن يزيد أن المأمون، أول ما قدم العراق، خطر له أن يقلد الأعمال، الشيعة الذين قدموا معه من خراسان، فطالت عطلة كتاب السواد وعماله، وكانوا يحضرون داره في كل يوم، حتى ساءت أحوالهم.
فخرج يوماً بعض مشايخ الشيعة، وكان مغفلاً، فتأمل وجوههم، فلم ير فيهم أسن من مخلد بن يزيد، فجلس إليه، وقال له: إن أمير المؤمنين أمرني أن أتخير ناحية من نواحي الخراج، صالحة المرفق، ليوقع بتقليدي إياها، فاختر لي ناحية.
فقال: لا أعرف لك عملاً أولى بك من بزبندات البحر، وصدقات الوحش.
فقال له: أكتبه لي، فكتبه له مخلد، فعرض الشيعي الرقعة على المأمون، وسأل تقليده ذلك العمل.
فقال له: من كتب لك هذه الرقعة ؟ فقال: شيخ من الكتاب، يحضر الدار في كل يوم.
فقال: هلمه.
فلما دخل، قال له المأمون: ما هذا يا جاهل ؟ تفرغت لأصحابي ؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، أصحابنا هؤلاء ثقات يصلحون لحفظ ما يصل إلى أيديهم من الخزائن والأموال، وأما شروط الخراج، وحكمه، وما يجب تعجيل استخراجه، وما يجب تأخيره، وما يجب إطلاقه، وما يجب منعه، وما يجب إنفاقه، وما يجب الإحتساب به، فلا يعرفونه، وتقليدهم يعود بذهاب الإرتفاع، فإن كنت يا أمير المؤمنين لا تثق بنا، فضم إلى كل واحد منهم رجلاً منا، فيكون الشيعي يحفظ المال، ونحن نجمعه.
فاستطاب المأمون رأيه وكلامه، وأمر بتقليد عمال السواد وكتابه، وأن يضم إلى كل واحد منهم، واحداً من الشيعة، وضم مخلد إلى ذلك الشيخ، وقلده ناحية جليلة.

المنصور يقتل مؤدب ولده جعفر ظلما

ً
وذكر في كتابه: أن المنصور ضم رجلاً يقال له فضيل بن عمران الكوفي إلى جعفر ابنه، يكتب له، ويقوم بأمره.
وكانت لجعفر حاضنة تعرف بأم عبيدة، فثقل عليها مكان فضيل، فسعت به إلى أبي جعفر، وادعت عنده أنه يلعب بجعفر، فبعث المنصور، مولاه الريان، وهارون بن غزوان، مولى عثمان بن نهيك، إلى الفضيل، وأمرهما بقتله، وكتب لهما منشوراً بذلك، فصارا إليه فقتلاه.
وكان الفضيل ديناً، عفيفاً، فقيل للمنصور في ذلك، وأنه أبرأ الناس مما قرف به، فأحضر المنصور غلاماً من غلمانهن وجعل له عشرة آلاف درهم، إن أدركه قبل أن يقتل، فصار إليه، فوجده قد قتل، ولم يجف دمه.
واتصل خبر قتله بجعفر بن أبي جعفر، فطلب الريان، فلما جيء به، قال له: ويلك، ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل مسلم بغير جرم ؟ فقال له الريان: هو أمير المؤمنين، يفعل ما يشاء.
فقال له جعفر: يا ماص بظر أمه، أكلمك بكلام الخاصة، فتكلمني بكلام العامة ؟ جروا برجله، فألقوه في دجلة.
قال الريان: فأخذوا - والله - برجلي، فقلت: أكلمك بكلمة، ثم اعمل ما شئت.
فقال: ردوه، فرددت، فقال: قل.
فقلت له: أبوك إنما يسأل عن قتل فضيل بن عمران وحده ؟ ومتى يسأل عنه، وقد قتل عمه عبد الله بن علي، وقتل عبد الله بن الحسن، وعشرات من أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قتل من أهل الدنيا ما لا يحصى ولا يعد، هو إلى أن يسأل عن فضيل بن عمران جوشانة تحت خصى فرعون.
قال: فضحك، وقال: خلوا عنه، لعنه الله، فأفلت منه.
مالك بن طوق يتزوج المهناة بنت الهيثم الشيبانيوجدت في كتاب أبي الفرج الحنطبي المخزومي الكاتب: أن محمد بن عبد الحميد الجشمي قال: حججت سنة ثلاث وأربعين ومائتين، فأنا في بعض المنازل راجعاً، إذ رأيت فقراء بالبادية يستميحون، فوقفت منهم علي جارية تتصدق، بوجه كأنه القمر حين استدار، أو كقرن الشمس حين أنار، فرددت طرفي عنها، واستعذت بالله من الفتنة بها، فلم تزل تذهب وتجيء، فيما بين رجال الحج، وتعود إلى رحلي، فوقفت.
فقلت لها: أما تستحين أن تبدين هذا الوجه في مثل هذا الموضع، بحضرة الخلائق.
فلطمت وجهها، وقالت:
لم أبده حتّى تقضّت حيلتي ... فبذلته وهو الأعزّ الأكرم
ويعزّ ذاك عليّ إلاّ أنّه ... دهرٌ يجور كما تراه ويظلم
قد صنته وحجبته حتّى إذا ... لم يبق لي طمع ومات الهيثم
أبرزته من حجبه مقهورةً ... واللّه يشهد لي بذاك ويعلم
كشف الزمان قناعه في بلدة ... قلّ الصديق بها وعزّ الدرهم
أصبحت في أرض الحجاز غريبة ... وأبو ربيعة أسرتي ومحلّم
قال: فأعجبني ما رأيت من جمالها، وفصاحتها، وأدبها، وشعرها، فبررتها، وقلت لها: ما اسمك؟ قالت: أنا المهناة بنت الهيثم الشيباني، وكان أبي جاراً لبني فزارة، فاعتل، واستنفد ماله، وتوفي، وتركني فقيرة، فاحتجت إلى التكفف.
قال: ورحلنا، فلما صرنا بالرحبة، دخلت إلى مالك بن طوق مسلماً، فسألني عن طريقي وسفري، وما رأيته من الأعاجيب فيه، فحدثته بحديث الجارية، فأعجب به، واستطرف الأبيات، وكتبها مني، ورحلت إلى منزلي بالشام.
فلما كان بعد أيام من اجتماعنا، أتاني رسوله يستزيرني، فصرت إليه، فبينما أنا جالس عنده يوماً، فإذا خادمان قد جاءا معهما أكياس مختومة، وتخوت ثياب مشدودة، فوضعاها بين يدي.
فقلت لمالك: ما هذا ؟ قال: هذا حق دلالتك على المهناة بنت الهيثم الشيباني، التي أظفرني الله منها بما كانت أمنيتي تقصر عنه، وهي أنفذت إليك بهذا من مالها، ولك من مالي ضعفه.
فقلت: كيف كان خبرها ؟ فقال: إنك لما انصرفت، أنفذت رسلاً إلى البادية، أثق بعقولهم وأمانتهم، فما زالوا يسألون عنها، حتى ظفروا بها، فحملوها، ووليها معها، فتزوجتها، فرأيت منها ما زاد على ما كان زرعه حديثك عنها في نفسي، وقد افضت عليها من دنياي، بحسب تمكنها من قلبي، فسألتني عن سبب طلبي إياها، فأخبرتها بخبرك، وكتبت أستزيرك لأعرفك هذا، وأقضى حقك، وقد أمرت لك بعشرين ألف درهم، وعشر تخوت ثياب.
قال عبد الحميد: وكانت أم عدة من أولاده.
بين ابن أبي البغل عامل أصبهان وأحد طلاب التصوف

حدثني أبو القاسم سعد بن عبد الرحمن الأصبهاني، قال: كان أبو الحسين بن أبي البغل يتقلد بلدنا، فقدم عليه شيخ من الكتاب يطلب التصرف، وأورد عليه كتباً من الحضرة، يذكرون فيها طول عطلته، ومحله من الصناعة، ويسألونه تصريفه، فسلم إليه الكتب، فتركها ابن أبي البغل بين يديه، وكانت كثيرة، وكان فيه حدة وضجرة، فاستكثرها، وفض منها واحداً، فقرأه، وأقبل على شغله، من غير أن يقرأ باقي الكتب.
فقال له الرجل: إن رأيت أن تقف على باقي الكتب.
فضجر، وتغيظ، وقال: أليس كلها في معنى واحد ؟ قد - والله - بلينا بكم يا متعطلين، كل يوم يصير إلينا منكم واحد يريد تصرفاً، لو كانت خزائن الأرض لي، لكانت قد نفدت، يا هذا، مالك عندي تصرف، ولا عمل شاغر فأرده إليك، ولا في مالي فضل فأبرك، فدبر أمرك بحسب ذلك، هذا والرجل ساكت.
فلما سكن ابن أبي البغل، قام الرجل، وقال: أحسن الله جزاءك وفعل بك وصنع، وأسرف في الشكر والدعاء له، وولى منصرفاً.
فقال ابن أبي البغل، ردوه، فرجع.
فقال له: يا هذا، هوذا تسخر مني، على أي شيء تشكرني ؟ على إياسي لك من التصرف، أو على قطع رجائك من الصلة، أو قبيح ردي لك، أو ضجري عليك ؟ أم تريد خدعتي بهذا الفعل؟.
فقال: والله، ما أريد خداعك، وما كان منك من قبيح الرد فغير منكر، لأنك سلطان، ولحقك ضجر، ولعل الأمر كما ذكرته من كثرة الواردين عليك، وقد بعلت بهم، واتفق لقوه نحسي، أن كان هذا الرد القبيح وقع في بابي، ولم أشكرك إلا في موضع الشكر، لأنك صدقتني عما في نفسك من أول وهلة، وأعتقت عنقي من رق الطمع، وأرحتني من التعب بالغدو والرواح إليك، وخدمة قوم أستشفع بهم إليك، وكشفت لي ما أدبر به نفسي، وكسوتي جديدة، وبقية نفقتي معي، ولعلي أتحمل بها إلى بلد آخر، في وجه أحد سواك.
قال: فأطرق ابن أبي البغل، ومضى الرجل، فرفع رأسه، فاستدعاه، واعتذر إليه، وأمر له بصلة، وقال له: خذ هذه، إلى أن قلدك ما يصلح لك، فإني أرى فيك مصطنعاً.
فلما كان بعد أيام قلده عملاً جليلاً، وصلحت حال الرجل معه.

بين جحظة البرمكي ومحبرة بن أبي عباد الكاتب

حدثني أبو الفرج الأصبهاني، عن جحظة، أنه قال: اتصلت علي إضاقة، حتى بعت فيها كل ما أملك، وبقيت وليس في داري غير البواري، فأصبحت يوماً أفلس من طنبور الأوتار، ففكرت في الحيلة، فوقع لي أن أكتب إلى محبرة الكاتب، وكنت أجاوره بالبصرة، وكان منقرساً، يلازم بيته، حتى صار لا يمكنه الحركة، إلا أن يحمل في محفة، وكان ظريفاً، عظيم النعمة، كثير الشرب والقصف، فأتطايب عليه، ليدعوني، أو يبرني بشيء، فكتبت إليه:
ماذا ترى في جديّ ... وبرمةٍ وبوارد
وقهوة ذات لون ... يحكي خدود الخرائد
ومُسمعٍ يتغنّى ... من آل يحيى بن خالد
إنّ المضيع لهذا ... نزر المروءة بارد
قال: فما شعرت إلا بحفة محبرة، يحملها غلمانه، إلى داري، وأنا جالس على بابها.
فقلت: لم جئت، ومن دعاك ؟ قال: أنت.
قلت: إنما قلت ماذا ترى، وعنيت في منزلك، ولم أقل أنه عندي، وبيتي - والله - أفرع من فؤاد أم موسى.
فقال: قد جئت الآن، ولا أرجع، ولكن أحضر من داري، ما أريد.
فقلت: ذاك إليك، فدخل الدار، فلم ير فيها إلا بارية.
فقال: يا أبا الحسن، هذا والله فقر مدقع.
فقلت: هو ما ترى.
فانفذ إلى داره، فجاءوه بفرش حسنة، وآلة، وقماش، وآنية، وطعام كثيرة من مطبخه، وألوان الأشربة، والفواكه، والمشام، وعبي المجلس، وفرش الفرش، وجلس يومه يشرب على غنائي وغناء مغنية دعوتها له كانت تألفني.
فلما كان من الغد، سلم إلي غلامه كيساً فيه ألفا درهم، ورزمة ثياب صحاحاً ومقطوعة، من فاخر الثياب، واستدعى محفته فجلس فيها، وشيعته.
فلما بلغ آخر الصحن، قال: مكانك يا أبا الحسن، فكل ما في دارك هو لك، فلا تدع أحداً يأخذ منه شيئاً.
وقال للغلمان: اخرجوا بين يدي، فخرجوا، وأغلقت بابي على قماش يساوي ألوفاً كثيرة.
تاجر خراساني يجد الفرج عند صاحبه الكرخيحدثني عبيد الله بن محمد العبقسي، عن بعض تجار الكرخ ببغداد، قال: كنت أعامل رجلاً من الخراسانية، أبيع له في كل موسم متاعاً، فأنتفع من سمسرته بألوف دراهم.

فلما كان سنة من السنين تأخر عني، فأثر ذلك في حالي، وتواترت علي محن، فأغلقت دكاني وجلست في بيتي، مستتراً من دين لحقني، أربع سنين.
فلما كان في وقت الحاج، تتبعت نفسي خبر الخراساني، طمعاً في إصلاح أمري به، فمضيت إلى سوق يحيى، فلم أعط له خبراً، فرجعت، فنزلت الجزيرة وأنا تعب مغموم.
وكان يوماً حاراً، فنزلت إلى دجلة، فتغسلت، وصعدت، فابتل موضع قدمي، فقلعت رجلي قطعة من الرمل، انكشفت عن سير.
فلبست ثيابي، وجلست مفكراً أولع بالسير، فلم أزل أجره حتى ظهر لي هميان موصول به، فأخذته، فإذا هو مملوء دنانير، فأخفيته تحت ثيابي، ووافيت منزلي، فإذا فيه ألف دينار.
فقويت نفسي قوة شديدة، وعاهدت الله عز وجل، أنه متى صلحت حالي، وعادت، أن أعرف الهميان، فمن أعطاني صفته، رددته عليه.
واحتفظت بالهميان، وأصلحت أمري مع غرمائي، وفتحت دكاني، وعدت إلى رسمي من التجارة والسمسرة، فما مضت إلا ثلاث سنين حتى حصل في ملكي ألوف دنانير.
وجاء الحج، فتتبعتهم لأعرف الهميان، فلم أجد من يعطيني صفته، فعدت إلى دكاني.
فبينما أنا جالس، إذا رجل قائم حيال دكاني، أشعث، أغبر، وافي السبال، في خلقة سؤال الخراسانية وزيهم فظننته سائلاً، فأومأت إلى دريهمات لأعطيه، فاسرع الإنصراف، فارتبت به، فقمت، ولحقته، وتأملته، فإذا هو صاحبي الذي كنت أنتفع بسمسرته في السنة بألوف دراهم.
فقلت له: يا هذا، ما الذي أصابك ؟ وبكيت رحمة له.
فبكى، وقال: حديثي طويل.
فقلت: البيت، وحملته إلى منزلي، فأدخلته الحمام، وألبسته ثياباً نظافاً، وأطعمته، وسألته عن خبره.
فقال: أنت تعرف حالي ونعمتي، وإني أردت الخروج إلى الحج في آخر سنة جئت إلى بغداد، فقال لي أمير البلد: عندي قطعة ياقوت أحمر كالكف، لا قيمة لها عظماً وجلالةً، ولا تصلح إلا للخليفة، فخذها معك، فبعها لي ببغداد، واشتر لي من ثمنها متاعاً طلبه، من عطر، وطرف، بكذا وكذا، وأحمل الباقي مالاً.
فأخذت القطعة ياقوت، وهي كما قال، فجعلتها في هميان جلد، من صفته كيت وكيت، ووصف الهميان الذي وجدته، وجعلت في الهميان ألف دينار عيناً من مالي، وحملته في وسطي.
فلما جئت إلى بغداد، نزلت أسبح عشياً في الجزيرة التي بسوق يحيى، وتركت الهميان وثيابي بحيث ألاحظها.
فلما صعدت من دجلة، لبست ثيابي عند غروب الشمس، وأنسيت الهميان، فلم أذكره إلى أن أصبحت، فعدت أطلبه، فكأن الأرض ابتلعته.
فهونت على نفسي المصيبة، وقلت: لعل قيمة الحجر ثلاثة آلاف دينار، أغرمها له.
فخرجت إلى الحج، فلما رجعت، حاسبتك على ثمن متاعي، واشتريت للأمير ما أراده، ورجعت إلى بلدي، فأنفذت إلى الأمير ما اشتريته، وأتيته، فأخبرته بخبري.
وقلت له: خذ مني تمام ثلاثة آلاف دينار، عوضاً عن الحجر.
فطمع فيّ، وقال: قيمته خمسون ألف دينار، وقبض علي، وعلى جميع ما أملكه من مال ومتاع، وأنزل بي صنوف المكاره، حتى أشهد علي في جميع أملاكي، وحبسني سبع سنين، كنت يردد علي فيها العذاب.
فلما كان في هذه السنة، سأله الناس في أمري، فأطلقني.
فلم يمكنني المقام ببلدي، وتحمل شماتة الأعداء، فخرجت على وجهي، أعالج الفقر، بحيث لا أعرف، وجئت مع الحج الخراساني، أمشي أكثر الطريق، ولا أدري ما أعمل، فجئت إليك لأشاورك في معاش أتعلق به.
فقلت: قد رد الله عليك بعض ضالتك، هذا الهميان الذي وصفته، عندي، وكان فيه ألف دينار أخذتها، وعاهدت الله تعالى، أنني ضامنها لمن يعطيني صفة الهميان، وقد أعطيتني أنت صفته، وعلمت أنه لك، وقمت، فجئته بكيس فيه ألف دينار.
وقلت له: تعيش بهذا في بغداد، فإنك لا تعدم خيراً إن شاء الله.
فقال لي: يا سيدي الهميان بعينه عندك، لم يخرج عن يدك ؟ قلت: نعم.
فشهق شهقة، ظننت أنه قد مات معها، وغشي عليه، فلما أفاق بعد ساعة، قال لي: أين الهميان؟ فجئته به، فطلب سكيناً، فأتيته بها، فخرق أسفل الهميان، وأخرج منه حجر ياقوت أحمر، أشرق منه البيت، وكاد يأخذ بصري شعاعه، وأقبل يشكرني، ويدعو لي.
فقلت له: خذ دنانيرك.
فحلف بكل يمين، لا يأخذ منها إلا ثمن ناقة، ومحمل، ونفقة تبلغه، فبعد كل جهد أخذ ثلثمائة دينار، وأحلني من الباقي، وأقام عندي، إلى أن عاد الحاج، فخرج معهم.
فلما كان العام المقبل، جاءني بقريب مما كان يجيئني به سابقاً من المتاع.

فقلت له: أخبرني خبرك.
فقال: مضيت، فشرحت لأهل البلد خبري، وأريتهم الحجر، فجاء معي وجوههم إلى الأمير، وأعلموه القصة، وخاطبوه في إنصافي.
فأخذ الحجر، ورد علي جميع ما كان أخذه مني، من متاع، وعقار، وغير ذلك، ووهب لي من عنده مالاً.
وقال: اجعلني في حل مما عذبتك وآذيتك، فأحللته.
وعادت نعمتي إلى ما كانت عليه، وعدت إلى تجارتي ومعاشي، وكل هذا بفضل الله تعالى وبركتك، ودعا لي.
وكان يجيئني بعد ذلك، حتى مات.

أضاع هميانه في طريق الحج ووجده أحوج ما يكون إليه

حدثني عبيد الله بن محمد الصروي: قال حدثني أبي: أن رجلاً حج، وفي وسطه هميان فيه دنانير وجواهر، قيمة الجميع ثلاثة آلاف دينار، وكان الهميان ديباج أسود.
فلما كان في بعض الطريق، جلس يبول، فانحل الهميان من وسطه وسقط، ولم يعلم بذلك غلا بعد أن سار من الموضع فراسخ.
واتفق أن رجلاً جاء على أثره، فجلس يبول مكانه، فرأى الهميان، فأخذه، وكان له دين، فحفظه.
قال الرجل: فلم يؤثر في قلبي ذهابه، لكثرة مالي، فاحتسبته عند الله تعالى، وتغافلت.
وكان معي تجارة بأموال عظيمة، فقضيت حجي، وعدت إلى بلدي.
فلما كان بعد سنين، افتقرت لمحن توالت علي، حتى لم يبق لي شيء، فهربت على وجهي من بلدي، وقد أفضيت إلى الصدقة علي، وزوجتي معي، فأويت إلى بعض القرى، فنزلت في خان خراب.
فأصاب زوجتي الطلق، وما أملك غير دانق ونصف فضة، وكانت ليلة مطيرة، فولدت.
فقالت: يا هذا، الساعة أموت، فأخرج، وخذ لي شيئاً أتقوى به.
فخرجت أتخبط في الظلمة والمطر، حتى جئت إلى بقال فوقفت عليه، فكلمني بعد كل جهد، فشرحت له حالي، فرحمني، وأعطاني بتلك القطعة حلبة، وزيتاً، أغلاهما عنده، وأعارني غضارة جعلته فيهان فمشيت أريد موضعي، فزلقت، فانكسرت الغضارة، وذهب ما فيها.
فورد علي أمر عظيم، ما ورد علي مثله قط، وأقبلت ألطم، وأبكي، وأصيح، فإذا برجل قد أخرج رأسه من شباك في دار، وقال: ويلك، مالك تبكي، ما تدعنا ننام، فشرحت له قصتي.
فقال: هذا البكاء كله بسبب دانق ونصف ؟ فتداخلني من الغم أكثر من الأول، فقلت: يا هذا، والله، ما لما ذهب عندي محل، ولكن بكائي رحمة لنفسي مما دفعت إليه، وإن زوجتي وولدي الساعة يموتان جوعاً، ووالله، وإلا فعلي وعلي، وحلفت بأيمان مغلظة، لقد حججت في سنة كذا، وأنا أملك من المال، ما ذهب مني هميان فيه دنانير وجواهر بثلاثة آلاف دينار، ما فكرت فيه، وهو ذا تراني الآن أبكي بسبب دانق ونصف فضة، فاسأل الله العافية والسلامة، ولا تعيرني فتبتلي بمثل بلواي.
فقال لي: بالله عليك، ما كان صفة هميانك ؟ فلطمت رأسي، وقلت: ما يقنعك ما خاطبتني به وما تراه من صورتي، وقيامي في الطين والمطر، حتى تتلهى بي، وأي شيء ينفعني وينفعك من صفة همياني، وقد ضاع من كذا وكذا سنة، ومشيت.
وإذا هوة قد خرج يصيح بي: تعال خذ هذا، فقدرته يتصدق علي، فجئته.
فقال: أيش صفة هميانك ؟ وقبض على يدي، فلم أقدر أتخلص منه، فوصفت له همياني.
فقال لي: أدخل، فدخلت منزله.
فقل: أين زوجتك ؟ فقلت: في الخان الفلاني.
فأنفذ غلمانه، فأتوا بها، فأدخلها إلى حرمه، فأصلحوا أمرها، وأطعموها ما احتاجت إليه، وكساني كسوة حسنة، وأدخلني الحمام، وأصبحت عنده في عيشة طيبة.
فقال لي: أقم عندي أياماً لأضيفك، فأقمت عنده عشرة أيام، فكان يعطيني في كل يوم عشرين ديناراً، وأنا متحير من عظيم بره، بعد شدة جفائه.
فلما كان بعد ذلك، قال لي: أي شيء تتصرف فيه ؟ فقلت: كنت تاجراً.
فقال: أقم عندي، وأنا أعطيك رأس مال فتتجر في شركتي.
فقلت: أفعل.
فدفع إلي مائتي دينار، وقال لي: أتجر بها ها هنا.
فقلت: هذا معاش، قد أغناني الله تعالى به، يجب أن ألزمه، فلزمته.
فلما كان بعد شهور، ربحنا، فجئته، فقلت له: خذ ربحك.
فقال لي: اجلس، فجلست.
فأخرج إلي همياني، وقال: أتعرف هذا ؟ فحين رأيته، شهقت شهقة غشي علي منها.
ثم أفقت بعد ساعة، فقلت له يا هذا، أملك أنت أم نبي ؟

فقال: لا، ولكني ممتحن بحفظ هميانك منذ كذا وكذا سنة، فلما سمعتك تلك الليلة تقول ما قلته، وأعطيتني علامته، أردت أن أعطيك هو، فخشيت أن تنشق مرارتك من الفرح، فأعطيتك تلك الدنانير التي أوهمتك أنها هبة لك، وإنما أعطيتك ذلك كله من هميانك، والدنانير المائتان، قرض، فخذ هميانك واجعلني في حل.
فأخذته، ودعوت له، ورددت عليه القرض، ورجعت إلى بلدي، وبعت الجوهر وأضفت ثمنه إلى الدنانير، واتجرت بها، فما مضت إلا سنيات، حتى صرت صاحب عشرة آلاف دينار، وصلحت حالي، فأنا في فضل الله تعالى، أعيش إلى الآن.

الوزير علي بن عيسى يقول ليتني تمنيت المغفرة

حدثني أبو سهل بن زياد القطان، صاحب علي بن عيسى، قال: كنت مع علي بن عيسى بمكة، حين نفي إليها، فدخلنا في حر شديد، وقد كدنا نتلف، فطاف علي بن عيسى، وسعى، وجاء فألقى نفسه كالميت من الحر والتعب، وقلق قلقاً شديداً.
وقال: أشتهي على الله عز وجل، شربة ماء بثلج.
فقلت له: يا سيدنا، تعلم أن هذا ما لا يوجد بهذا المكان.
فقال: هو كما قلت، ولكن نفسي ضاقت عن ستر هذا، فاستروحت إلى المنى.
قال: وخرجت من عنده، فرجعت إلى المسجد الحرام، فما استقررت فيه، حتى نشأت سحابة، فأبرقت، وأرعدت رعداً متصلاً شديداً، ثم جاءت بمطر يسير، وبرد كثير.
فبادرت إلى الغلمان، فقلت: اجمعوا، فجمعنا شيئاً كثيراً، وكان علي بن عيسى نائماً.
فلما كان وقت المغرب، خرج إلى الصلاة، فقلت له: أنت والله مقبل، والنكبة زائلة، وهذه علامات الإقبال، فاشرب الثلج كما طلبت.
وجئته إلى المسجد الحرام بأقداح مملوءة بالأشربة والأسوقة، مكبوسة بالبرد، فأقبل يسقي ذلك من كان بقربه من الصوفية والمجاورين والضعفاء، ويستزيد، ونحن نأتيه بما عندنا من ذلك، وكلما قلت له: اشرب، يقول: حتى يشرب الناس.
فخبأت من البرد مقدار خمسة أرطال، وقلت له: لم يبق شيء.
فقال: الحمد لله، ليتني كنت تمنيت المغفرة، بدلاً من تمني الثلج، فلعلي كنت أجاب.
فلما رجع إلى بيته حلفت عليه أن يشرب، فما زلت أداريه حتى شرب منه بقليل ماء وسويق، وتقوت به باقي ليلته.
المسجد الحرامالمسجد الحرام: المسجد، بفتح الجيم: ما يمس الأرض من الأعضاء عند السجود، وبكسر الجيم: الموضع الذي يسجد فيه، والجمع في كليهما: مساجد المنجد، والحرام: المقدس، ومنه سميت مكة والمدينة: المنطقة الحرام، والحرمان دائرة المعارف الإسلامية 7 - 361 والمسجد الحرام هو الكعبة، سميت الكعبة، لتربيعها معجم البلدان 4 - 616 - 626.
ولم يكن للمسجد الحرام في أيام النبي صلوات الله عليه وأبي بكر سور يحيط به، فضيق الناس على الكعبة، وألصقوا دورهم بها، فاشترى عمر تلك الدور، وهدمها، وزادها في المسجد، واتخذ للمسجد جداراً دون القامة، كانت المصابيح توضع عليه، ولما استخلف عثمان زاد في سعة المسجد، واتخذ فيه الأروقة حين وسعه معجم البلدان 4 - 525 - 526 ثم وسعه المنصور أحسن التقاسيم 75.
وأقصى ما وصلت إليه سعة المسجد الحرام ثلاثين ألف متراً مربعاً، فأقدمت الحكومة العربية السعودية على عمل من أشرف الأعمال وأكرمها عند الله والناس، إذ زادت في سعة المسجد إلى خمسة أضعاف مساحته الأولى، فبلغت مساحته مائة وخمسين ألف متر مربع، وشيدت حوله أروقة محيطة بالمسجد على طابقين بلغ من علوها أن سقف الطابق الثاني منها، قارب في علوه رؤوس المآذن القديمة في المسجد، وسقفت المسعى بين الصفا والمروة، وشادت عليه طابقين، وكان البناء جميعه بالرخام البديع، فاكتسى المسجد الحرام رداء من الجمال والبهاء، لم أشاهد مثله في أي مكان من أماكن العبادة الأخرى، فإني شاهدت الفاتيكان، وكنائس روما، والإسكوريال، وجامع قرطبة، وجامع دمشق، وجوامع القسطنطينية، وجوامع أصبهان، والمراقد المقدسة في العراق وإيران وفي جميعها ما يبهر الناظر، ولكنها لا تماثل بناء المسجد الحرام ولا تقاربه، وأدارت بسور المسجد الحرام، رحبة عظيمة السعة أحاطت به من جميع جهاته، تنفذ منها طرق إلى خارج مكة، إضطرت لانفاذ بعضها أن نحتت الصخور، فصح في ذلك المثل القائل: همم الرجال، تقلع الجبال.
فتى ورث مالاً فأتلفه ثم آل أمره إلى صلاح
حدثني عبيد الله بن محمد الصروي، أيضاً، عن أبيه، قال:

كان يجاورنا ببغداد فتى من أولاد الكتاب، ورث مالاً جليلاً، فأتلفه في القيان، وأكله إسرافاً، حتى لم يبق منه شيء، واحتاج إلى نقض داره، فلم يبق منها غير بيت يكنه.
فحدثني بعض من كان يعاشره وانقطع عنه لما افتقر، قال: قصدته يوماً بعد انقطاعي عنه نحو سنة، لأعرف خبره، فدخلت إليه، فوجدته نائماً في ذلك البيت، في يوم بارد، على حصير خلق، قد توطأ قطناً كأنه حشو فراش، وتغطى بقطن كان في لحاف، فهو بين ذلك القطن كأنه السفرجل.
فقلت له: ويحك، بلغت إلى هذا الحد.
فقال: هو ما ترى.
فقلت: فهل لك حاجة.
قال: أو تقضيها ؟ فظننت أنه يطلب مني شيئاً أسعفه به، فقلت: إي والله.
فقال: أشتهي أن تحملني إلى بيت فلانة المغنية، حتى أراها، وهي التي كان يتعشقها، وأتلف ماله عليها.
وبكى، فرحمته، فمضيت إلى منزلي، فأتيته من ثيابي بما لبسه، وأدخلته الحمام، وحملته إلى بيتي، فأطعمته، وبخرته، وذهبنا إلى دار المغنية.
فلما رأتنا، لم تشك أن حاله قد صلحت، وأنه قد جاءها بدراهم، فبشت في وجهه، وسألته عن حاله، فصدقها عن حاله، حتى انتهى إلى ذكر الثياب، وأنها لي.
فقالت له في الحال: قم، قم.
فقال: لم ؟ فقالت: لئلا تجيء ستي، فتراك، وليس معك شيء، فتحرد علي، لم أدخلتك، فاخرج برا، حتى أصعد فأكلمك من فوق، فخرج، وجلس ينتظر أن تخاطبه من روزنة في الدار، إلى الطريق، فأقبلت عليه مرقة سكباج، فصيرته آية، ونكالاً.
فبكى، وقال لي: بلغ أمري إلى هذا ؟ أشهد الله، وأشهدك، أني تائب.
فضحكت منه، وقلت: أي شيء تنفعك التوبة الآن وقد افتقرت ؟ فرددته إلى بيته، ونزعت ثيابي عنه، وتركته بين القطن، كما كان أولاً، وحملت ثيابي فغسلتها وانقطعت عنه، فما عرفت له خبراً.
وبعد نحو ثلاث سنين، بينما أنا ذات يوم بباب الطاق، إذا أنا بغلام يطرق لرجل راكب، فرفعت رأسي، فإذا به على برذون فاره، بمركب فضة، خفيف، مليح، وثياب حسنة، وكان أولاً يركب من الدواب أفخرها، ومن المراكب أثقلها.
فلما رآني، قال لي: يا فلان، فعلمت أن حاله قد صلحت، فقبلت فخده.
وقلت: سيدي أبو فلان.
قال: نعم، قد صنع الله تعالى، وله الحمد، البيت، البيت، فتبعته إلى منزله، فإذا بالدار الأولة، قد رمها، وجصصها، من غير بياض، وطبقها، وبنى فيها مجلسين متقابلين، وخزائن، ومستراح، وجعل باقي ما كان فيها، صحناً كبيراً، وقد صارت حسنة، غير أنها ليست بذلك الأمر الأول.
فأدخلني إلى حجرة منها، كان يخلو فيها قديماً، قد أعادها كأحسن ما كانت، وفيها فرش حسنة، وفي داره ثلاثة غلمان، قد جعل كل خدمتين إلى واحد منهم، وقد أقام على حرمه خادماً كان لأبيه، وله سائس هو شاكريه، وشيخ بواب كان يصحبه قديماً، ووكيل يتسوق له.
فجلس، وأجلسني، وأحضر فاكهة قليلة، في آلة مقتصدة مليحة، وجاءوا بعدها بطعام نظيف، كاف، غير مسرف ولا مقصر، فأكلنا، ثم نام، ولم تكن تلك عادته، ومدت ستارة، وأحضرت مشام ورياحين، في صواني وزبديات، والجميع متوسط مليح، غير مسرف، فانتبه، فصلى، وتبخر بقطعة ند، وبخرني بقطعة عود مطرى، وقدم بين يديه صينية فيها من مطبوخ العنب شيء حسن، وقدم بين يدي صينية فيها نبيذ التمر، جيد.
فقلت: يا سيدي ما هذه الترتيبات التي لست أعرفها.
فقال: دع ما مضى، فإن الحال لا تحتمل الإسراف، فأقبل يشرب، وأنا أساعده، فتغنى من وراء الستارة، ثلاث جواري في نهاية طيب الغناء، كل واحدة منهن أطيب من التي أنفق عليها ماله.
فلما طابت أنفسنا، قال لي: تذكر أيامنا الأولة ؟ قلت: نعم.
قال: أنا الآن في نعمة متوسطة، وما قد أفدته من العقل، والعلم بأمر الدنيا وأهلها، يسليني عما ذهب مني، وهوذا ترى فرشي، وآلتي، ومركوبي، وإن لم يكن ذلك بالعظيم المفرط، ففيه جمال، وبلاغ، وتنعم، وكفاية، وهو مغن عن الإسراف، والتخرق، والتبذير، وقد تخلصت من تلك الشدة، تذكر يوم عالمتني فلانة المغنية، بما عاملتني ؟ قلت: نعم والحمد لله الذي كشف ذلك عنك، فمن أين هذه النعمة ؟

قال: مات مولى لأبي، وابن عم لي، في يوم واحد بمصر، فحصل لي من تكرتهما أربعون ألف دينار، فوصل أكثرها إلي، وأنا بين القطن كما رأيتني، فحمدت الله، واعتقدت التوبة من التبذير، وأن أدبر ما رزقته، فعمرت هذه الدار بألف دينار، واشتريت الفرش، والآلة، والجواري بتسعة آلاف دينار، وسلمت إلى بعض التجار الثقات، ألفي دينار، يتجر لي بها، وأودعت بطن الأرض عشرة آلاف دينار، للحوادث، وابتعت بالباقي ضيعة تغل لي في كل سنة نفقتي هذه التي شاهدتها، فما أحتاج إلى قرض، ولا استزادة، ولا تقبل غلة، إلا وعندي بقية من الغلة الأولة، فأنا أتقلب في نعمة الله، عز وجل، كما ترى، ومن تمام النعمة، إني لا أعاشرك، ولا أحداً ممن كان يحسن لي السرف، يا غلمان، أخرجوه.
قال: فأخرجت، فوالله ما أذن لي بعدها في الدخول عليه.

أبو يوسف القاضي يأكل اللوزينج بالفستق

وحدثني أبي، قال: بلغني أن أبا يوسف صحب أبا حنيفة، ليتعلم العلم، على فقر وشدة، وكانت أمه تحتال له فيما يتقوته يوماً بيوم، فطلب يوماً ما يأكل، فجاءته بغضارة مغطاة، فكشفها، فإذا فيها دفاتر.
فقال: ما هذا ؟.
فقالت: هذا الذي أنت مشتغل به نهارك أجمع، فكل منه.
فبكى، وبات جائعاً، وتأخر عن المجلس من الغد، حتى احتال فيما أكله، ثم مضى إلى أبي حنيفة، فسأله عن سبب تأخره، فصدقه.
فقال له: ألا عرفتني فكنت أمدك ؟ ولا يجب أن تغتم، فإنه إن طال عمرك، فستأكل اللوزينج بالفستق.
قال: فلما خدمت الرشيد، واختصصت به، قدم بحضرته يوماً، جام فيه لوزينج بفستق، فدعاني إليه، فحين أكلت منه، ذكرت أبا حنيفة، فبكيت، وحمدت الله تعالى، فسألني الرشيد عن قصتي، فأخبرته.
الشيخ الخياط وأذانه في غير وقت الأذانحدثني أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي: أن شيخاً من التجار، كان له على بعض القواد، مال جليل ببغداد، فماطله به، وجحده إياه، واستخف به.
قال: فعزمت على التظلم إلى المعتضد، لأني كنت تظلمت إلى عبيد الله بن سليمان الوزير، فلم ينفعني ذلك.
فقال لي بعض إخواني: علي أن آخذ لك المال، ولا تحتاج إلى أن تتظلم إلى الخليفة، قم معي الساعة، فقمت معه.
فجاء بي إلى خياط في سوق الثلاثاء، يخيط، ويقرىء القرآن في مسجد، فقص عليه قصتي، فقام معنا.
فلما مشينا، تأخرت، وقلت لصديقي: لقد عرضت هذا الشيخ، وإيانا، لمكروه عظيم، هذا إذا حصل على باب الرجل، صفع، وصفعنا معه، هذا لم يلتفت إلى شفاعة فلان، وفلان، ولم يفكر في الوزير، فكيف يفكر في هذا الفقير ؟ فضحك، وقال: لا عليك، إمش، واسكت.
فجئنا إلى باب القائد، فحين رأى غلمانه الخياط، أعظموه وأهووا التقبيل يده، فمنعهم من ذلك، وقالوا: ما جاء بك أيها الشيخ، فإن صاحبنا راكب، فإن كان لك أمر يتم بنا بادرنا إليه وإلا فادخل، واجلس إلى أن يجيء، فقويت نفسي بذلك، ودخلنا وجلسنا.
وجاء القائد، فلما رأى الشيخ أعظمه إعظاماً تاماً، وقال: لست أنزع ثيابي، أو تأمرني بأمرك.
فخاطبه في أمري، فقال: والله، ما عندي إلا خمسة آلاف درهم تسأله أن يأخذها، وأعطيه رهناً في باقي ماله.
فبادرت إلى الإجابة، فأحضر الدراهم، وحلياً بقيمة الباقي، فقبضت ذلك منه، وأشهدت عليه الرجل، وصديقي، أن الرهن عندي إلى أجل، فإن حل الأجل ولم يعطني، فقد وكلني في بيعه، وقبض مالي من ثمنه، فخرجنا، وقد أجاب إلى ذلك.
فلما بلغنا مسجد الخياط، قلت له: قد رد الله تعالى علي هذا المال بسببك، فأحب أن تأخذ منه ما أحببت، بطيبة من قلبي.
فقال: ما أسرع ما كافأتني على الجميل بالقبيح، إنصرف، بارك الله لك في مالك.
فقلت: قد بقيت لي حاجة.
قال: قل.
قلت: تخبرني عن سبب طاعته لك، مع تهاونه بأكثر أهل الدولة.
فقال: قد بلغت مرادك، فلا تقطعني عن شغلي، وما أعيش به.
فألححت عليه، فقال: أنا رجل أصلي بالناس في هذا المسجد، وأقرىء القرآن، منذ أربعين سنة، ومعاشي من هذه الخياطة، لا أعرف غيرها.

وكنت منذ دهر، قد صليت المغرب، وخرجت أريد منزلي، فاجتزت بتركي كان في هذه الدار، وامرأة جميلة مجتازة، وقد تعلق بها وهو سكران، ليدخلها داره، وهي ممتنعة تستغيث، وليس من أحد يغيثها، أو يمنعه منها، وتقول في جملة كلامها: إن زوجي قد حلف علي بالطلاق، أن لا أبيت برا، فإن بيتني، خرب بيتي، مع ما يرتكبه مني من الفاحشة.
قال: فرفقت به وسألته تركها، فضرب رأسي بدبوس كان في يده، فشجني، ولكمني، وأدخل المرأة بيته.
فصرت إلى منزلي، وغسلت الدم، وشددت الشجة، واسترحت، وخرجت لصلاة العشاء الآخرة.
فلما صلينا، قلت لمن معي في المسجد: قوموا بنا إلى عدو الله، هذا التركي، لننكر عليه، ولا نبرح، أو نخرج المرأة.
فقاموا، وجئنا فضججنا على بابه، فخرج إلينا في عدة غلمان، فأوقع بنا، وقصدني من بين الجماعة، فضربني ضرباً عظيماً كدت أتلف منه، فحملني الجيران إلى منزلي كالتالف، فعالجني أهلي، ونمت نوماً قليلاً، وقمت نصف الليل، فما حملني النوم، للألم، والفكر في القصة.
فقلت: هذا قد شرب طول ليلته، ولا يعرف الأوقات، فلو أذنت، لوقع له أن الفجر قد طلع، وأطلق المرأة، فلحقت بيتها قبل الفجر، فسلمت من أحد المكروهين.
فخرجت إلى المسجد متحاملاً، وصعدت المنارة، فأذنت، وجلست أطلع منها إلى الطريق، أترقب خروج المرأة، فإن خرجت، وإلا أقمت الصلاة، لئلا يشك في الصباح، فيخرجها.
فما مضت إلا ساعة، والمرأة عنده، حتى رأيت الشارع قد امتلأ خيلاً، ورجالاً، ومشاعل، وهم يقولون: من أذن الساعة ؟ ففزعت، وسكت.
ثم قلت: أخاطبهم، لعلي أستعين بهم على إخراج المرأة، فصحت من المنارة: أنا أذنت.
فقالوا لي: إنزل، وأجب أمير المؤمنين.
فقلت: دنا الفرج، فنزلت، فإذا بدر، وعدة غلمان، فحملني، وأدخلني على المعتضد، فلما رأيته، هبته، وارتعت، فسكن مني.
وقال: ما حملك على أن تغر المسلمين بأذانك في غير وقته، فيخرج ذو الحاجة في غير وقتها، ويمسك المريد للصوم، في وقت قد أباح الله له الأكل فيه، وينقطع العسس والحرس عن الطواف ؟ فقلت: يؤمنني أمير المؤمنين، لأصدقه.
فقال: أنت آمن.
فقصصت عليه قصة التركي، وأريته الآثار.
فقال: يا بدر، علي بالغلام الساعة والمرأة، وعزلت في موضع.
فمضى بدر، وأحضر الغلام والمرأة، فسألها المعتضد عن الصورة، فأخبرته بمثل ما أخبرته.
فقال لبدر: بادر بها الساعة إلى زوجها، مع ثقة يدخلها دارها، ويشرح لزوجها القصة، وبأمره عني بالتمسك بها، والإحسان إليها.
ثم استدعاني، فوقفت بازائه، فجعل يخاطب الغلام، وأنا واقف أسمع.
فقال له: كم جرايتك ؟ قال: كذا وكذا.
قال: وكم عادتك ؟ قال: كذا وكذا.
قال: وكم صلاتك ؟ قال: كذا وكذا.
قال: وكم جارية لك ؟ قال: كذا وكذا، فذكر عدة جواري.
قال: أفما كان فيهن، وفي هذه النعمة العريضة، كفاية عن ارتكاب معصية الله تعالى، وخرق هيبة السلطان، حتى استعملت ذلك، وجاوزته إلى الوثوب بمن أمرك بالمعروف ؟ فأسقط الغلام في يده، ولم يحر جواباً.
فقال: هاتوا جوالقاً، ومداق الجص، وأدخلوه الجوالق، ففعلوا ذلك به.
وقال للفراشين، دقوه، فدقوه، وأنا أسمع صياحه، إلى أن مات، فأمر به، فطرح في دجلة، وتقدم إلى بدر، أن يحمل ما في داره.
ثم قال لي: يا شيخ، أي شيء رأيت من أجناس المنكر، كبيراً كان أو صغيراً، أو أي أمر عن لك، فمر به، وأنكر المنكر، ولو على هذا - وأومأ إلى بدر - فإن جرى عليك شيء، أو لم يقبل منك، فالعلامة بيننا أن تؤذن في مثل الوقت الذي أذنت فيه، فإني أسمع صوتك، وأستدعيك، وأفعل هذا بمن لا يقبل منك.
فدعوت له، وانصرفت.
وانتشر الخبر في الأولياء والغلمان، فما خاطبت أحداً بعدها في إنصاف أحداً، أو كف عن قبيح إلا أطاعني كما رأيت، خوفاً من المعتضد.
وما احتجت إلى الأذان في مثل ذلك الوقت.

أحيحة بن الجلاح أكب على إصلاح ضيعته

وجدت في بعض الكتب: أن أحيحة بن الجلاح، أسرع في ماله فأتلفه مع إخوان له، حتى افتقر، فهجروه وقطعوه، واحتاج إليهم في الشيء اليسير فمنعوه، فلحقته شدة، وضر وجهد.

فمات بعض أهله، فورثه مالاً، وضيعة خراباً، تعرف بالزوراء، فأخذ المال، وخرج إلى الضيعة يعمرها به، فطمع فيه القوم الذين أنفق ماله عليهم، فكتبوا إليه يعتذرون مما جرى، ويرغبونه في مواصلتهم، ومعاشرتهم، وكان أديباً، فكتب إليهم:
إنّي مكبّ على الزوراء أعمرها ... إنّ الكريم على الإخوان ذو المال
كلّ النداء إذا ناديت يخذلني ... إلاّ ندائي إذا ناديت يا مالي
فأيسوا منه، وكفوا عنه، وثابت حاله، وحسنت ضيعته.

مجلس غناء بمحضر الرشيد

وروى حماد، عن أبي صدقة، وكان يحضر مجلس الرشيد مع المغنين، فربما غنى، وربما لم يغن، قال: فدعانا الرشيد يوماً، فدخلنا، والستارة دونه، وهو من خلفها جالس، فقال خادم من خلفها: غنّ يا ابن جامع، فاندفع يغني بهذا الصوت:
قف بالمنازل ساعة فتأمّل ... هل بالديار لزائر من منزل
أولا ففيم توقّفي وتلدّدي ... وسط الديار كأنّني لم أعقل
ما بالديار من البلى ولقد أرى ... أن سوف يحملني الهوى في محمل
وأحقّ بمن يبكي بكلّ محلّة ... عرضت له في منزل للمعول
عانٍ بكلّ حمامة سجعت له ... وغمامة برقت بنوء الأعزل
يبكي فتفضحه الدموع فعينه ... ما عاش مخضلة كفيض الجدول
فقال الخادم: ليغن هذا الصوت منكم من كان يحسنه، فغنى كل من أحسنه منهم، فكأنه لم يطرب له.
فأقبل الخادم علي، فقال: إن كنت تحسن أن تغنيه، فغنه.
فقلت: نعم، فعجبوا من إقدامي على صوت لم يستطب من جماعتهم، فغنيته.
فقال الخادم: أحسنت، والله، فأعده، فأعدته، وأعاد الاستحسان، والأمر بإعادته على ذلك سبع مرات.
ثم قال لي الخادم: قم يا أبا صدقة، فادخل، حتى تغني أمير المؤمنين بحيث يراك، فدخلت، والمغنون كلهم محجوبون، فغنيته إياه، ثلاث مرات، فطرب في جميعهن.
وقال: أحسنت يا أبا صدقة.
فلما سمعت ما خصني به من استحسانه، قلت: يا أمير المؤمنين، إن لهذا الصوت حديثاً عجيباً، أفلا أحدثك به يا أمير المؤمنين، لعله يزداد حسناً.
فقال: بلى، هات.
فقلت: كنت يا سيدي، عبداً لبعض آل الزبير، وكنت خياطاً مجيداً، أخيط القميص بدرهمين، والسراويل بدرهم، وأؤدي ضريبتي إلى سيدي في كل يوم درهمين، وآخذ ما فضل عن ذلك، فبينما أنا ذات يوم منصرفاً، وقد خطت قميصاً لبعض الطالبيين، وقد أخذت منه درهمين، وانصرفت إلى موضع يجتمع فيه المغنون، كنت أقصده إذا فرغت من شغلي، لشغفي بالغناء، فلما صرت بحذاء بركة المهدي، إذا أنا بسوداء على رقبتها جرة، تريد أن تملأها من ماء العقيق، وهي تغني بهذا الصوت، أحسن غناء يكون، فأصابني من الطرب بغنائها ما أذهلني عن كل شيء.
فقلت لها: فداك أبي وأمين ألقي علي هذا الصوت.
فقالت: استحسنته ؟ فقلت: إي والله.
فقالت: وحق القبر ومن فيه، لا أعدته إلا بدرهمين.
فدفعت الدرهمين إليها، فأحدرت جرتها عن رقبتها فارغة، فوضعتها على الأرض، وجلست عليها، وكأني أنظر إلى فقحتها وقد برزت عن الجرة نحو ذراع، وأقبلت تلقيه علي، وتوقع على الجرة، حتى أخذته، ثم أخذت الجرة على رقبتها، وانصرفت.
فحين انصرفت، أنسيت الصوت ولحنه، حتى كأني لم أسمعه قط، فبقيت متحيراً لا أدري ما أصنع، وانصرفت إلى سيدي بأسوء حال، وأكسف بال.
فلما رآني، قال: هات ضريبتك.
فلجلجت في كلامي، وقلت: يا سيدي، اسمع حديثي.
فقال: يا ابن اللخناء، أبي تتعرض ؟ فبطحني، وضربني مائة مقرعة، وحلق رأسي ولحيتي، ومنعني قوتي، وكان أربعة أرغفة، فلم يكن شيء من ذلك، أشد علي، من ذهاب الصوت مني، وبت ليلتي أسوء خلق الله حالاً، وأنا لا أعرف الجارية، ولا موضعها، ولا لمن هي.
فلما أصبحنا، خرجت ولها أطلبها في الموضع الذي لقيتها فيه، وأسأل الله أن يحوج أهلها إلى الماء، حتى تخرج لتأتيهم به، فأراها، فلم أزل أطلبها، لا أعمل شيئاً إلى العصر.
فبينما أنا كذلك، وإذا بها قد أقبلت، فلما رأتني، وما بي من الوله، قالت لي: مالك، أنسيت الصوت ؟ فقلت: إي والله، وضربت مائة مقرعة، ومنعت قوتي ليلتي، وحلقت رأسي ولحيتي.
فقلت: دع هذا عن، فورب الكعبة، لاسمعته مني، فضلاً عن أخذه، إلا بدرهمين.

فقلت: الله، الله، فيّ، فيمرن علي الليلة مثل ما مر علي البارحة، فارحميني.
فقالت: قد سمعت اليمين، وذهبت لتمضي.
فقلت: اصبري، وجئت إلى بقال كان يعاملني، فرهنت عنده الجلمين، على درهمين، وجئت بهما إليها، فأخذتهما، وجعلتهما في فيها.
فلما بدأت بالصوت، ذكرته، فقلت: الله، الله، ردي علي الدرهمين، فلا حاجة بي إلى غنائك.
فقالت: أنت أحمق، ولست تعرف هذا الأمر، لئن لم أردهه عليك مائة مرة ما حصل لك منه شيء، وجلست على الجرة، فغنته مائة مرة، أعدها عليها حتى فهمته، وصرت به أمهر منها، وانصرفت.
فساعة فارقتها، لحقتني الندامة، وقلت: سيلحقني الليلة أكثر مما لحقني البارحة، لفقد الجلمين.
فرجعت إلى مولاي، فجين رآني، قال: هات ضريبتك.
فقلت له: اسمع مني.
قال: أي شيء أسمع، يا ابن الفاجرة، أما كفاك ما مر بك أمس، ووثب إلى السوط.
فقلت له: اسمع، واصنع ما شئت.
فقال: هات، فغنيته الصوت.
فقال: أحسنت، والله، يعز علي ما أصابك، أما الضرب فقد مضى، ولا حيلة فيه، وأما قوتك فمردود، وأما ضريبتك، فساقطة عنك ما عشنا ولو مت أنا وعيالي جوعاً، فأنت اليوم واحداً منا أبداً ما بقينا، فهذا خبر الصوت.
وكان المغنون الذين حضروا، إبراهيم الموصلي، وابنه إسحاق، وابن جامع، ومسلم بن سلام.
فأمر لكل واحد منهم بألف دينار، وأمر لي بعشرة آلاف دينار، مثل ما أمر لجماعتهم، ثم استدعى ألف دينار، فقال: خذ هذه بدل المائة مقرعة التي ضربت.
فانصرفت، والمغنون يتعجبون مما جرى.

الوليد بن يزيد يستقبل البريد بموت هشام

وحدث المنذر بن عمرو، وكان كاتباً للوليد بن يزيد بن عبد الملك، قال: أرسل إلي الوليد صبيحة اليوم الذي أتته فيه الخلافة، فقال لي: يا أبا الزبير، ما أتت علي ليلة أطول من البارحة، وعرضت لي أمور حدثت نفسي فيها بأمور، وهذا الرجل قد جد بنا، فاركب بنا.
فركبنا جميعاً، وسرنا نحو ميلين، فوقف على تل، فجعل يشكو إلي هشاماً، إذ نظر إلى رهج قد أقبل، وقعقعة البريد.
فتعوذ بالله من شر هشام، وقال: إن هذا البريد، قد أقبل، بموت حي، أو هلك عاجل.
فقلت: لا يسؤك الله أيها الأمير، بل يسرك وينفعك، إذ بدا رجلان على البريد مقبلان، أحدهما مولى لآل أبي سفيان بن حرب، فلما رأيا الوليد نزلا، وسلما عليه بالخلافة، فوجم، فجعلا يكرران عليه السلام بالخلافة.
فقال لهما: ويحكما ما الخبر، أمات هشام ؟.
قالا: نعم.
قال: فمرحباً بكما، ما معكما ؟.
قالا: كتاب مولاك سالم بن عبد الرحمن، فقرأ الكتاب، وانصرفنا.
وسأل عن عياض بن سالم، كاتبه الذي كان هشام قد حبسه، وضربه، فقالا، لم يزل محبوساً، حتى نزلت بهشام مصيبة الموت، فلما بلغ إلى حال لا يرجى معها الحياة له، أرسل عياض إلى الخزان: احتفظوا بما في أيديكم، ولا يصل أحد إلى شيء منه، فأفاق هشام إفاقة، فطلب شيئاً، فمنعه الخزان، فقال: أرانا كنا خزاناً للوليد، وقضى من ساعته.
فخرج عياض لوقته من السجن عندما قضى هشام، فغلق الأبواب، وختمها، وأمر بهشام، فأنزل عن فراشه، ومنعهم أن يكفنوه من الخزائن، فكفنه غالب مولاه، ولم يجدوا قمقماً يسخن فيه الماء، حتى استعاروه.
وذكر باقي الحديث مما لا يتعلق بهذا الباب.
/ابن جامع المغني يأخذ صوتاً بثلاثة دراهم فيفيد منه ثلاثة آلاف دينار حدث محمد بن صلصال، عن إسماعيل بن جامع، أنه قال: ضامني الدهر ضيماً شديداً بمكة، فأقبلت منها بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوماً، وما معي إلا ثلاثة دراهم، لا أملك غيرها، وإذا بجارية على رقبتها جرة، تريد الركي، وهي تتغنى بهذا الصوت:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر اللّيل عندنا
وذاك لأنّ النوم يغشى عيونهم ... سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا
إذا ما دنا اللّيل المضرّ بذي الهوى ... قلقنا وهم يستبشرون إذا دنا
فلو أنّهم كانوا يلاقون مثلما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا
قال: فأخذ الغناء بقلبي، ولم يدر لي منه حرف.
فقلت: يا جارية ما أدري أوجهك أحسن، أم غناؤك، فلو شئت، لأعدت.

فقالت: حباً وكرامة، ثم أسندت ظهرها إلى جدار قريب منها، ورفعت إحدى رجليها، فوضعتها على الأخرى، ووضعت الجرة على ساقها، ثم انبعثت، فغنته، فوالله ما دار لي منه حرف.
فقلت: قد أحسنت، فلو تفضلت، وأعدته مرة اخرى.
ففطنت، وكلحت.
وقالت: ما أعجب أمركم، لا يزال أحدكم يجيء إلى الجارية عليها الضريبة، فيحبسها.
فضربت يدي إلى الثلاثة دراهم، فدفعتها إليها، وقلت: أقيمي بهذه وجهك اليوم، إلى أن نلتقي.
فأخذتها كالكارهة، وقالت: أنت الآن تريد أن تأخذ مني صوتاً، أحسبك ستأخذ به ألف دينار، وألف دينار، وألف دينار، وانبعثت تغني.
فأعملت فكري في غنائها، حتى دار لي الصوت، وفهمته، فانصرفت مسروراً إلى منزلي، وأنا أردده، حتى خف على لساني.
ثم إني خرجت إلى بغداد، فدخلتها، فطرحني المكاري بباب محول، لا أدري أين أتوجه، فلم أزل أمشي مع الناس، حتى أتيت الجسر، فعبرته، ثم انتهيت إلى شارع الميدان، فرأيت مسجداً بالقرب من دار الفضل بن الربيع مرتفعاً، فقلت: هذا مسجد قوم سراة، فدخلته، وحضرت صلاة المغرب، فصليت، وأقمت بمكاني إلى أن صليت العشاء، وبي من الجوع والتعب أمر عظيم.
فانصرف أهل المسجد، وبقي رجل يصلي، وخلفه جماعة خدم وفحول، ينتظرون فراغه، فصلى ملياً، ثم انصرف إلي بوجهه، وقال: أحسبك غريباً.
قلت: أجل.
قال: فمتى كنت في هذه المدينة ؟ قلت: دخلتها آنفاً، وليس لي بها منزل ولا معرفة، وليست صناعتي من الصنائع التي يمت بها إلى أهل الخير.
فقال: وما صناعتك ؟ قلت: أغني.
فقام، وركب مبادراً، ووكل بي بعض من كان معه، فسألت الموكل بي عنه، فقال لي: هذا سلام الأبرش، ثم عاد، فأخذ بيدي، فانتهى بي إلى قصر من قصور الخليفة، فأدخلني مقصورة في آخر الدهليز، ودعا بطعام من طعام الملوك على مائدة، فأكلت، فإني لكذلك، إذ سمعت ركضاً في الدهليز، وقائلاً يقول: أين الرجل ؟ فقيل: هوذا.
فدعي لي بغسول، وطيب، وخلعة، فلبست، وتطيبت، وحملت إلى دار الخليفة على دابة، فعرفتها بالحرس، والتكبير، والنيران، فجاوزت مقاصير عدة، حتى صرت إلى دار قوراء، وسطها أسرة، قد أضيف بعضها إلى بعض، فأمرت بالصعود، فصعدت، فإذا رجل جالس، وعن يمينه ثلاث جواري، وإذا حياله مجالس خالية، قد كان فيها قوم قاموا عنها.
فلم ألبث أن خرج خادم من وراء الستر، فقال للرجل: تغن، فغنى صوتاً لي وهو:
لم تمش ميلاً، ولم تركب على جمل ... ولم تر الشمس إلاّ دونها الكلل
تمشي الهوينا كأنّ الشمس بهجتها ... مشي اليعافير في جيآتها الوهل
فغنى بغير إصابة، وأوتار مختلفة الدساتين، وعاد الخادم إلى الجارية التي تليه، فقال لها: غني، فغنت أيضاً، صوتاً لي، كانت فيه أحسن حالاً، وهو:
يا دار أمست خلاءً لا أنيس بها ... إلاّ الظباء وإلاّ الناشط الفرد
أين الّذين إذا ما زرتهم جذلوا ... وطار عن قلبي التشواق والكمد
قال: ثم عاد إلى الثانية، فغنت صوتاً لحكم الوادي، وهو:
فواللّه ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جدّ جدّ البين أم أنا غالبه
فإن أستطع أغلب، وإن يغلب الهوى ... فمثل الّذي لاقيت يغلب صاحبه
ثم عاد إلى الثالثة، فقال لها غني، فغنت بصوت لحنين، وهو:
مررنا على قيسيّة عامريّة ... لها بشرٌ صافي الأديم هجان
فقالت وألقت جانب الستر دونها ... لأيّة أرض أو لأيّ مكان
فقلت لها إمّا تميم فأسرتي ... هديت، وإمّا صاحبي فيماني
رفيقان ضمّ السفر بيني وبينه ... وقد يلتقي الشتّى فيأتلفان
ثم عاد إلى الرجل، فغنى صوتاً لي، فشبه فيه، من شعر عمر بن أبي ربيعة:
أمسى بأسماء هذا القلب معمودا ... إذا أقول صحا يعتاده عيدا
كأنّ أحور من غزلان ذي رشأ ... أعارها سنة العينين والجيدا
ومشرقاً كشعاع الشمس بهجته ... ومسطرّاً على لبّاته سودا
ثم عاد إلى الجارية الأولى، فغنت صوتاً لحكم الوادي، وهو:
تعيّرنا أنّا قليل عديدنا ... فقلت لها إنّ الكرام قليل
وما ضرّنا أنّا قليلٌ وجارنا ... عزيزٌ وجار الأكثرين ذليل

وإنّا أناس لا نرى القتل سبّة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرّب حبّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
ثم عاد إلى الثانية، فغنت صوتاً، تقول فيه:
وددتك لّما كان ودّك خالصاً ... وأعرضت لما صار نهباً مقسّما
ولا يلبث الحوض الجديد بناؤه ... إذا كثر الورّاد أن يتهدّما
ثم عاد إلى الجارية الثالثة، فغنت بشعر الخنساء وهو:
وما كرّ إلاّ كان أوّل طاعنٍ ... وما أبصرته العين إلاّ اقشعرّت
فيدرك ثاراً وهو لم يخطه الغنى ... فمثل أخي يوماً به العين قرّت
فلست أرزّى بعده برزيّة ... فأذكره إلاّ سلت وتجلّت
وغنى الرجل في الدور الثالث، بهذه الأبيات:
لحى اللّه صعلوكاً مناه وهمّه ... من الدّهر أن يلقى لبوساً ومطمعا
ينام الضحى حتّى إذا ليله بدا ... تنبّه مسلوب الفؤاد متيّما
ولكنّ صعلوكاً يساور همّه ... ويمضي إلى الهيجاء ليثاً مصمّما
فذلك إن يلق المنيّة يلقها ... حميداً وإن يستغن يوماً فربّما
قال: وتغنت الجارية:
إذا كنت ربّاً للقلوص فلا يكن ... رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب
قال: وغنت الجارية، بشعر عمرو بن معدي كرب، وهو:
ألم ترني إذ ضمّني البلد القفر ... سمعت نداء يصدع القلب يا عمرو
أغثنا فإنّا عصبة مذحجيّة ... نراد على وفر وليس لنا وفر
وأظنه أغفل الثانية، فغنت الثالثة، بهذه الأبيات:
فلمّا وقفنا للحديث وأسفرت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا
تبالهن بالعرفان لما عرفنني ... وقلن امرؤ باغ أضلّ وأوضعا
فلمّا تواضعن الأحاديث قلن لي ... أخفت علينا أن نغرّ ونخدعا
قال: فتوقعت مجيء الخادم، فقلت للرجل: بأبي أنت، خذ العود، وشد وتركذا، وارفع الطبقة، وحط دساتن كذا، ففعل ما أمرته.
وخرج الخادم، فقال لي: تغن عافاك الله.
فغنيت بصوت الرجل الأول، على غير ما غنى، فإذا جماعة من الخدم يحضرون حتى استندوا إلى الأسرة، فقالوا: ويحك لمن هذا الغناء ؟ فقلت: لي.
فانصرفوا وعاد إلي خادم، فقال: كذبت، هذا لابن جامع، فسكت.
ودار الدور الثاني، فلما انتهى إلي، قلت للجارية التي تلي الرجل، خذي العود، فعلمت ما أريد، فأصلحته على غنائها، فغنيت به، فخرج الخدم، وقالوا: ويحك، لمن هذا الغناء ؟ فقلت: لي.
فرجعوا، ثم عاد ذلك الخادم من بينهم، فقال: كذبت، هذا لابن جامع.
ودار الدور، فلما انتهى إلي الغناء، قلت للجارية الأخرى، سوي العود على كذا، فعلمت ما أريد، وخرج الخادم فقال لي تغن، فغنيت هذا الصوت، وهو لا يعرف إلا بي، وهو:
عوجي عليّ فسلّمي جبر ... فيم الوقوف وأنتم سفر
ما نلتقي إلاّ ثلاث منى ... حتّى يفرّق بيننا النّفر
فتزلزلت عليهم الدار، وخرج الخادم، فقال: ويحك، لمن هذا الغناء ؟ فقلت: لي.
فمضى، ثم عاد، فقال: كذبت، هذا لابن جامع.
قلت: فأنا ابن جامع.
فما شعرت إلا وأمير المؤمنين، وجعفر بن يحيى، قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم.
فقال لي الفضل بن الربيع: هذا أمير المؤمنين، قد أقبل إليك، فلما صعد السرير، وثبت قائماً.
فقال: ابن جامع ؟ فقلت: ابن جامع، جعلت فداك، يا أمير المؤمنين.
فقال: متى كنت في هذه المدينة ؟ فقلت: دخلتها في الوقت الذي علم بي فيه أمير المؤمنين.
فقال: اجلس، ومضى هو وجعفر، فجلسا في تلك المجالس.
فقال: ابشر، وابسط أملك، فدعوت له.
فقال: غن يا ابن جامع، فخطر ببالي صوت الجارية السوداء، فأمرت الرجل بإصلاح العود على ما أردت من الطبقة، فعرف ما أريد، فوزنه وزناً.
فلما أخذت الأوتار والدساتين مواضعها، وتعاهدها، ابتدأت أغني بصوت الجارية، فنظر الرشيد إلى جعفر، فقال: هل سمعت كذا قط ؟ قال: لا والله، ولا خرق مسامعي مثله قط.

فرفع الرشيد رأسه إلى خادم كان بالقرب منه، فأتى بكيس فيه ألف دينار، فرمى به إلي، فصيرته تحت فخذي، ودعوت له.
فقال: يا ابن جامع، رد علي هذا الصوت، فرددته عليه، وتزيدت في غنائي.
فقال له جعفر: أما ترى كيف تزيد في الغناء، وهذا خلاف الأول، وإن كان اللحن واحداً.
فرفع الرشيد رأسه إلى الخادم، فأتى بكيس فيه ألف دينار، فرمى به إلي، فجعلته تحت فخذي الآخر.
ثم قال: تغن يا إسماعيل بما حضرك.
فجعلت أقصد الصوت بعد الصوت، بما كان يبلغني أنه يشتري عليه الجواري، فأغنيه، فلم أزل كذلك، إلى أن عسعس الليل.
فقال: أتعبناك يا إسماعيل هذه الليلة، فأعد علي الصوت، يعني صوت الجارية، فغنيته به، فرفع رأسه إلى الخادم، فوافى بكيس ثالث فيه ألف دينار.
فذكرت قول الجارية، فتبسمت، فلحظني، وقال: يا ابن الفاعلة، فيم تبسمت ؟ فجثيت على ركبتي، وقلت: يا أمير المؤمنين، الصدق منجاة.
قال: قل.
فقصصت عليه خبر الجارية، فلما استوفيته، قال: صدقت، قد يكون مثل هذا، وقام.
ونزلت من وراء الستر، لا أدري أين أمضي، فابتدرني فراشان، فصارا بي إلى دار قد أمر لي أمير المؤمنين بها، فيها من الفرش، والآلة، والخدم، جميع ما أريد، فدخلت فقيراً، وأصبحت من المياسير.
ذكر الأصبهاني: أن صوت إسماعيل الذي غناه، لا يعرف إلا به، وهو:
فلو كان لي قلبان عشت بواحدٍ ... وخلّفت قلباً في هواك يعذّب
ولكنّني أحيا بقلبٍ معذّبٍ ... فلا العيش يصفو لي ولا الموت يقرب
تعلّمت أسباب الرّضا خوف سخطها ... وعلّمها حبّي لها كيف تغضب
ولي ألف وجهٍ قد عرفت مكانه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب

ابن هرمة يتحدث عن أفضال عبد الواحد بن سليمان عليه

قال: قال رجل لابن هرمة: بما استحق منك عبد الواحد بن سليمان أن تقول فيه ؟:
أعبد الواحد المأمول إنّي ... أغصّ حذار سخطك بالقراح
وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمة الجناح
فقال: إن ذهبت أعدد صنائعه التي استحق بها مني هذا القول، طالت، ولكن أخبرك بأصغر صنيعة له عندي.
كنت منقطعاً إليه بالمدينة أيام كان يتولاها، فأغناني عن سواه، ثم عزل، فظننت أن الوالي سيحسن إلي، فلم يبرني بشيء، فأنفقت ما كان معي، حتى لم يبق لي شيء.
فقلت لأختي: ويحك، أما ترين ما أنا فيه من الشدة، وتعذر القوت ؟ قالت: بسوء اختيارك.
قلت: فبمن تشيرين ؟ فقالت: ما أعرف لك غير عبد الواحد بن سليمان.
فقلت: ومن لي به، وهو بدمشق، وأنا بالمدينة ؟ فقالت: أنا أعينك على قصدك إليه.
فقلت: افعلي.
فباعت حلياً كان لها، واشترت لي راحلة، وزودتني، فوافيت دمشق بعد اثنتى عشرة ليلة، فأنخت عشاءً على باب عبد الواحد، وعقلت راحلتي، ودخلت المسجد، فحططت فيه رحلي.
فلما صلى عبد الواحد، وجلس يسبح، حول وجهه إلى جلسائه، فنظر إلى رحلي، فقال: لمن هذا؟ فوثبت، وقبلت يده، وقلت: أنا يا سيدي، عبدك ابن هرمة.
فقال: ما خبرك يا أبا إسحاق ؟ فقلت: شر خبر، بعدك - أيها الأمير - تلاعبت بي المحن، وجفاني الصديق، ونبا بي الوطن، فلم أجد معولاً إلا عليك.
فوالله، ما أجابني إلا بدموعه، ثم قال: ويحك، أبلغ بك الجهد إلى ما ذكرت ؟ فقلت: إي والله، وما أخفيه عنك أكثر.
فقال: اسكن، ولا ترع.
ثم إنه نظر إلى فتية بين يديه، كأنهم الصقور، فوثبوا، فاستدعى أحدهم، وهمس إليه بشيء، فمضى مسرعاً، ثم أومأ إلى الثاني، فهمس إليه بشيء، وكذلك الثالث، فمضى.
ثم أقبل الأول، ومعه خادم على رأسه كيس، فصبه في حجري، فقال له أبوه: كم هذا ؟ فقال: ألف دينار وسبعمائة دينار، ووالله ما في خزانتك غيرها.
ثم أقبل الثاني، وبين يديه عبد على كتفه كارة، فصبها بين يديه، فإذا فيها حلي مخلع من بناته ونسائه.
فقال: والله، ما تركت لهن شيئاً، إلا أخذته.
وأقبل الثالث، ومعه غلامان، معهما كارتان عظيمتان من فاخر ثيابه، فوضع ذلك بين يدي.

ثم قال: يا ابن هرمه، أنا أعتذر إليك من قلة ما حبوتك به، مع بعد العهد، وطول الشقة، وسعة الأمل، ولكنك جئتنا في آخر السنة، وقد تقسمت أموالنا الحقوق، ونهبتنا أيدي المؤملين، فلم يبق عندنا غير هذه الصبابة، آثرناك بها على أنفسنا، وسللناها لك من أفواهنا، ولم قدمت قبل هذا الإعسار، لأعطيناك ما يكفيك، ولو علمنا بك، لأتاك عفواً، ولم تتجشم المشقة، ولم نحوجك إلى سوانا، وذلك منا لك أبداً، ما بقيت، فأقسم عليك، لما أصبحت إلا على ظهر راحلتك، وتداركت أهلك، فخلصتهم من هذه المحنة، فقمت إلى ناقتي، فإذا هي قد ضعفت.
فقال: ما أرى في ناقتك خيراً، يا غلام، أعطه ناقتي الفلانية، فجئ بها برحلها، فكانت - والله - أحب إلي من جميع ما أعطاني، ثقة ببلوغها، ثم دعا بناقتين أخريين، وأوقرهما من المال، والثياب، وزاداً يكفيني لطريقي، ووهب لي عبدين.
وقال: هذان يخدمانك في السقي والرعي، فإن شئت بعتهما، وإن شئت أبقيتهما، أفتلومني أني أغص حذار سخطه بريقي ؟ قال: لا والله.

القائد هرثمة بن أعين يتحدث عما أمره به الهادي في ليلة موته

حدثني علي بن هشام، عن محمد بن الفضل: أن هرثمة بن أعين، قال: كنت اختصصت بموسى الهادي، وكنت - مع ذلك - شديد الحذر منه، لإقدامه على سفك الدماء.
فاستدعاني نصف نهار، في يوم شديد الحر، قبل أكلي، فتداخلني منه رعب، وبادرت فدخلت عليه، وهو في حجرة من دور حرمه، فصرف جميع من كان بحضرته، وقال لي: اخرج وأغلق الباب، وعد إلي، فازداد جزعي، ففعلت، وعدت إليه.
فقال لي: قد تأذيت بهذا الكلب الملحد، يحيى بن خالد، ليس له فكر غير تضريب الجيش، واجتذابهم إلى صاحبه هارون، يريد أن يقتلني، ويسوق إليه الخلافة، وأريد أن تمضي الليلة إلى هارون، وتقبض عليه، وتذبحه، وتجيني برأسه، إما في داره، وإما أن تخرجه برسالتي تستدعيه إلى حضرتي، ثم تعدل به إلى دارك، فتقتله، وتجيني برأسه.
فورد علي أعظم وارد، فقلت: تأذن يا أمير المؤمنين في الكلام ؟ فقال: قل.
فقلت: أخوك، وابن أبيك، وله بعدك العهد، فكيف تكون صورتنا، أولاً عند الله، ثم عند الجيش؟ فقال: إنك إن فعلت هذا، وإلا ضربت عنقك الساعة.
فقلت: السمع والطاعة.
فقال: وأريد إذا فرغت منه هذه الليلة، أن تخرج من في الحبس من الطالبيين، فتضرب رقاب أكثرهم، وتغرق الباقين.
فقلت: السمع والطاعة.
قال: ثم ترحل إلى الكوفة، فتجمع من تقدر عليه من الجيش، فتخرج من بها من العباسيين، وشيعتهم، وعمالنا، والمتصرفين، ثم تضرمها بالنار، حتى لا يبقى فيها جدار.
فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا أمر عظيم.
فقال: هؤلاء أعداؤنا، وشيعة آل أبي طالب، وكل آفة ترد علينا، فهي من جهتهم، ولا بد من هذا.
فقلت: السمع والطاعة.
فقال: لا تبرح من مكانك إلى نصف الليل، لتمضي إلى هارون.
فقلت: السمع والطاعة.
ونهض عن موضعه، ودخل إلى دور النساء، وجلست مكاني، لا أشك أنه قد قبض علي ليقتلني، ويدبر هذه الأمور على يد غيري، لما أظهرت له من الجزع عند كل باب منها، والتخطئة لرأيه، والامتناع عليه، ثم الإجابة، وقد علم الله تعالى، أني ما أجبته إلا على أن أخرج من حضرته، فأركب فرسي من بابه، وألحق بطرف من الأرض، وأفارق جميع نعمتي، فأكون بحيث لا يصل إلي، حتى أموت، أو يموت.
فلما اعتقلني، ودخل دار الحرم، لم أشك في أنه قد فطن لغرضي، وأنه سيقتلني، لئلا يفشو السر، فوردت علي شدة شديدة، وغلبت علي، فطرحت نفسي في الحر مغموماً، جائعاً، على عتبة المجلس، ونمت.
فما انتبهت إلا بخادم قد أيقظني، وقال: أجب أمير المؤمنين، فنظرت الوقت، فإذا هو نصف الليل.
فقلت: إنا لله، عزم والله على قتلي، فمشيت معه، وأنا أتشاهد، إلى ممرات سمعت منها كلام النساء.
فقلت: عزم على قتلي بحجة، يقول: من أذن لك في الدخول إلى حرمي، ويعتل علي بذلك، فوقفت.
فقال لي الخادم: ادخل.
فقلت: لا أدخل.
فقال لي: ادخل، ويحك.
فقلت: هوذا أسمع صوت الحرم، ولا يجوز لي أن أدخل.
فجذبني، فصحت: والله، لا دخلت، ولو ضربت عنقي، أو أسمع كلام أمير المؤمنين، بالإذن لي.
وإذا امرأة تصيح: ويلك يا هرثمة، أنا الخيزران، وقد حدث أمر عظيم، استدعيتك له، فادخل.

فتحيرت، ودخلت، وإذا ستارة ممدودة، فقيل لي من ورائها: إن موسى قد مات، وأراحك الله منه، وجميع المسلمين، فانظر إليه، فأتيته، فإذا هو مسجى على فراشه، فمسست قلبه، ومجسه، ومناخره، فإذا هو ميت بلا شك.
فقلت: ما كان خبره ؟ فقالت لي الخيزران: كنت بحيث أسمع خطابه لك في أمر ابني هارون، وأمر الطالبيين، وأهل الكوفة، فلما دخل علي، استعطفته، وسألته أن لا يفعل شيئاً من ذلك، فصاح علي، فلم أزل أرفق به، إلى أن كشفت له ثديي، وشعري، وبكيت، وتمرغت بين يديه، وناشدته الله أن لا يفعل، فانتهرني، وقال: والله، لئن لم تمسكي، لأضربني عنقك الساعة، فخفته، وقمت، فصففت قدمي في المحراب، أصلي، وأبكي، وأدعو عليه.
فلما كان منذ ساعة، طرح نفسه على فرشه لينام، فشرق، فتداركناه بكوز ماء، فازداد شرقه، إلى أن تلف، فامض إلى يحيى بن خالد، وعرفه ما جرى، وامضيا إلى هارون، وجيئا به قبل انتشار الخبر، وجددا له البيعة على الناس.
فخرجت وجئت بالرشيد، فما أصبحنا إلا وقد فرغنا من بيعته، واستقام أمره، وتوطأت الخلافة له، وكفاني الله تعالى، والناس، ما كان أظلنا من مكروه موسى، وكان ذلك سبب اختصاصي العظيم بالرشيد، وتضاعف نعمتي ومحلي عنده.

دهاء عبدون أخي صاعد بن مخلد

حدثني علي بن هشام قال: كان في يد صاعد بن مخلد ضمانات كثيرة، وكانت معاملته مع أبي نوح عيسى بن إبراهيم، وكان صاعد من وجوه الناس.
فحضر صاعد بين يدي أبي نوح، يحاسبه في أموال وجبت عليه، فجرت بينهما مناظرات، فشتم فيها أبو نوح صاعداً، فرد عليه صاعد، مثل ما قاله له.
فاستعظم الحاضرون ذلك، واستخفوا بصاعد، وقالوا له: يا مجنون، ما هذا الفعل ؟ قتلت نفسك، ثم أقاموه، وخلصوه من أبي نوح، وقالوا: هذا مجنون، لم يدر ما خرج من رأسه.
فانصرف إلى منزله، متحيراً، لا يدري ما يصنع فيما نزل به، فحدث أخاه عبدون بما جرى.
فقال له: إن لم تطعني، قبض عليك في غد، وطالبك من المصادرة بما لا يفي به حالك، ولا حال جميع أهلك، وقتلك - بلا شك - تشفياً.
قال له صاعد: فما الرأي ؟ قال: كم عندك من المال، واصدقني ؟.
قال: خمسون ألف دينار.
قال: أتطيب نفسك أن تتعرى عنها، وتحرس دمك، وما يبقى من حالك وضياعك ؟ أم لا تسمح بذلك، فتؤخذ منك تحت المقارع، وتذهب النفس والنعمة كلها ؟.
فقال له: قد تعريت عنها، كي تبقى نفسي.
قال: فادفع إلي منها ثلاثين ألف درهم، ففعل.
فحملها عبدون، وأتى حاجب موسى بن بغا، فقال له: خذ هذه العشرة آلاف درهم، وأوصلني إلى فلان الخادم، وكان هذا خادمه الذي يتعشقه موسى، ويطيعه في كل أموره، وموسى إذ ذاك هو الخليفة، وكتبته كالوزارة، والأمور في يده، والخليفة في حجره.
قال: فأخذ الحاجب ذلك، وأوصله إلى الخادم، فأحضره العشرين ألف درهم، وقال: خذ هذه، وأوصلني إلى الأمير الساعة، وأعني عليه في حاجة أريد أن أسأله إياها، ومشورة أشير بها عليه، فأوصله الخادم إليه.
فلما مثل بين يديه، سعى إليه بكتابه، وقال له: قد نهبوك، وأخذوا مالك، وأخربوا ضياعك، وأخي يجعل كتابتك أجل من الوزارة، ويغلب لك على الأمور، ويوفر عليك كذا، ويحمل إليك الليلة، من قبل أن ينتصف الليل، خمسين ألف دينار عيناً، هدية لك، لا يريد عنها مكافأة، ولا يرتجعها من مالك، وتستكتبه، وتخلع عليه.
فقال موسى: أفكر في هذا ؟.
فقال: ليس في هذا فكر، وألح عليه.
فقال الخادم: في الدنيا أحد جاءه مثل هذا المال، فرده ؟ وكاتب بكاتب، فأجابه موسى، وأنعم له.
فقال له عبدون: فتستدعي أخي الساعة، وتشافهه بذلك، فأنفذ إليه، فأحضره، وقرر عليه ذلك، وبات عبدون في الدار لتصحيح المال، فوفاه.
وبكر صاعد، فخلع عليه لكتابته، وأركب الجيش كله في خدمته، وانقلبت سامراء، بظهور الخبر.
فبكر بعض المتصرفين إلى الحسن بن مخلد، وكان صديقاً لأبي نوح، فقال له: قد خلع على صاعد.
فقال: لأي شيء ؟ فقال: تقلد كتابة موسى بن بغا، فاستعظم ذلك.
وركب في الحال، إلى أبي نوح، وقال له: عرفت خبر صاعد ؟.
فقال: نعم، الكلب، قد بلغك ما عاملني به، والله لأفعلن به، ولأصنعن.
فقال له: أنت نائم ؟ ليس هذا أردت، قد ولي الرجل كتابة الأمير موسى بن بغا، وخلع عليه، وركب معه الجيش بأسرهم إلى داره.

فقال أبو نوح: ليس هذا ما ظننته، بات خائفاً منا، فأصبحنا خائفين منه، فما الرأي عندك ؟ قال: أن أصلح بينكما الساعة.
فركب الحسن بن مخلد إلى صاعد، فهنأه، وأشار عليه أن يصالح أبا نوح، وقال له: أنت بلا زوجة، وأنا أجعلك صهره، وتعتضد به، وإن كنت قد نصرت عليه، فهو من تعلم موضعه، ومحله، ومحل مصاهرته ومودته، ولم يدعه، حتى أجاب إلى الصلح والمصاهرة.
فقال له: فتركب معي إليه، فإنه أبو البنت، والزوج يقصد المرأة، ولولا ذاك لجاءك.
فحمله من يومه إلى أبي نوح، واصطلحا، ووقع العقد في الحال بينهما في ذلك المجلس، وزوج أبو نوح ابنته الأخرى بالعباس بن الحسن بن مخلد، فولدت له أبا عيسى المعروف بابن بنت أبي نوح، صاحب بيت مال الإعطاء، ثم تقلد زمام ديوان الجيش لعمه سليمان بن الحسن، فكانت كتابة صاعد لموسى، ومصاهرته لأبي نوح، أول مرتبة عظيمة بلغها، وتقلبت به الأحوال، حتى بلغ الوزارة.
زور مناماً فجاء مطابقاً للحقيقة
قال رجل من شيوخ الكتاب، يقال له عباد بن الحريش: صحبت علي بن المرزبان، وهو يتقلد شيراز، من قبل عمرو بن الليث الصفار، فصادر المتصرفين على أموال ألزمهم إياها، فكنت ممن أخذ خطه عن العمل الذي توليته، بثمانين ألف درهم، فأديت منها أربعين ألفاً، ودرجت حالي، حتى لم يبق لي شيء في الدنيا غير داري التي أسكنها، ولا قدر لثمنها فيما بقي علي، فلم أدر ما أصنع.
وفكرت، فوجدت علي بن المرزبان، رجلاً حراً سليم الصدر، فرويت له رؤيا، أجمعت على أن ألقاه بها، وأجعلها سبباً لشكوى حالي إليه، والتوصل إلى الخلاص، وكنت قد حفظت الرؤيا.
فاحتلت خمسين درهماً، وبكرت إليه قبل طلوع الفجر، فدققت بابه.
فقال حاجبه، من خلف الباب: من أنت ؟.
فقلت: عباد بن الحريش.
فقال: في هذا الوقت ؟ قلت: مهم، ففتح الباب.
فشكوت إليه حالي، وقلت: هذه خمسون درهماً، لا أملك غيرها، خذها، وأدخلني عليه، قبل أن يتكاثر الناس عليه.
فدخل، فاستأذن لي، وتلطف، إلى أن أوصلني إليه، وهو يستاك.
فقال: ما جاء بك في هذا الوقت ؟ فدعوت له، وقلت: بشارة رأيتها البارحة.
فقال: ما هي ؟ فقلت: رأيتك في النوم، كأنك تجيء إلى شيراز، من حضرة الأمير، وتحتك فرس أشهب عال، لم تر عيني قط أحسن منه، وعليك السواد، وقلنسوة الأمير، وفي يدك خاتمه، وحولك مائة ألف إنسان، ما بين فارس وراجل، وقد تلقوك، وأنا فيهم، إلى العقبة الفلانية، وقد لقيك أمير البلد، فترجل لك وأنت تجوز، وطريقك كله أخضر، مزهر بالنور، والناس يقولون: إن الأمير، قد استخلفك على جميع أمره.
فقال: خيراً رأيت، وخيراً يكون، فما تريد ؟ فشكوت إليه حالي، وذكرت له أمري.
فقال: أنظر لك بعشرين ألف، وتؤدي عشرين ألف درهم.
فحلفت له بأيمان البيعة، أنه لم يبق لي إلا مسكني، وثمنه شيء يسير، وبكيت، وقبلت يده، واضطربت بحضرته، فرحمني، وكتب إلى الديوان بإسقاط ما علي، وانصرفت.
فلم تمض إلا شهور، حتى كتب عمرو بن الليث، إلى علي بن المرزبان، يستدعيه، ويأمره بحمل ما اجتمع له من المال صحبته.
وكان قد جمع من الأموال، ما لم يسمع أنه اجتمع قط لأحد من مال فارس، مبلغه ستون ألف ألف، فحملها معه إلى نيسابور، وخرج عمرو، فتلقاه، وجميع قواده.
فأعظم الأموال، واستخلفه على فارس وأعمالها، حرباً، وخراجاً، وخلع عليه سواداً، وحمله على فرس أشهب عال، ودفع إليه خاتمه، ورده إلى فارس.
فوافى في وقت الربيع، ولم يحل الحول على رؤياي، وخرج أمير البلد، يستقبله على ثلاثين فرسخاً، وخرجت فلقيته على العقبة التي ذكرتها في المنام الموضوع، والدنيا على الحقيقة خضراء بأنوار الربيع، وحوله أكثر من مائة ألف فارس وراجل، وعليه قلنسوة عمرو بن الليث، وفي يده خاتمه، وعليه السواد، فدعوت له.
فلما رآني تبسم، وأخذ بيدي، وأحفى بي السؤال، ثم فرق الجيش بيننا، فلحقته إلى داره، فلم أستطع القرب منه لكثرة الدواب، فانصرفت، وباكرته في السحر.
فقال لي الحاجب: من أنت ؟.
فقلت: عباد بن الحريش، فأدخلني عليه، وهو يستاك.
فضحك إلي، وقال: قد صحت رؤياك.
فقلت: الحمد لله.
فقال: لا تبرح من الدار حتى أنظر في أمرك.

وكان باراً بأهله، ورسمه إذا ولي عملاً، أن لا ينظر في شيء من أمر نفسه، حتى ينظر في أمر أهله، فيصرف من صلح منهم للتصرف، فإذا فرغ، عدل إلى الأخص، فالأخص من حاشيته، فإذا فرغ من ذلك، نظر في أمر نفسه.
فجلست في الدار إلى العصر، وهو ينظر في أمر أهله، والتوقيعات تخرج بالصلات والأرزاق، وكتب التقليدات، إلى أن صاح الحاجب: عباد بن الحريش، فقمت إليه، فأدخلني عليه.
فقال: إني ما نظرت في أمر أحد غير أهلي، فلما فرغت منهم، بدأت بك قبل الناس كلهم، فاحتكم ما تريد ؟.
فقلت: ترد علي ما أخذت مني، وتوليني العمل الذي كان بيدي.
فوقع لي بذلك، وقال: امض، فقد أوغرت لك العمل، فخذ ارتفاعه كله.
فكان يستدعيني كل مدة، ولا يأخذ مني شيئاً، وإنما يكتب لي روزات من مال العمل، ويصلح لي حسبانات يخلدها الديوان، فأرجع إلى العمل.
فكنت على ذلك إلى أن زالت أيامه، فرجعت إلى شيراز وقد اجتمع لي مال عظيم، صودرت على بعضه، وجلست في بيتي، وعقدت نعمة ضخمة، ولم أتصرف إلى الآن.

شر السلطان يدفع بالساعات

حدثني ابن أبي علان، وقد جرى حديث السلطان، وأن شره يدفع بالساعات، قال: ورد علينا أبو يوسف البريدي، كاتب السيدة، يطالبني، أنا وأبا يحيى الرامهرمزي، أن نضمن منه ضياع السيدة، وشدد علينا، ونحن ممتنعون. إلى أن أخلى لنا مجلسه يوم خميس، وناظرنا مناظرة طويلة، وشدد علينا، حتى كدنا أن نجيبه، وكان علينا في ذلك ضرر كبير، وخسران ظاهر، لو أجبناه.
فقلت لأبي يحيى: اجتهد أن تدفع المجلس اليوم، لنفكر إذا انصرفنا، كيف نعمل.
وكان أبو يوسف محدثاً طيب الحديث، فجره أبو يحيى إلى المحادثة، وسكت له يستمع.
وكانت عادة أبي يوسف في كلامه، أن يقول في كل قطعة من حديثه: أفهمت ؟ فكان كلما قال ذلك لأبي يحيى، قال له: لا، فأعاد أبو يوسف الحديث، ويخرج منه إلى حديث آخر.
فلم يزل كذلك إلى أن حميت الشمس، وقربت من موضعنا، فرجع أبو يوسف إلى ذكر الضمان، وطالبنا بالعقد.
فقلت: إنه قد حمي الوقت، وهذا لا يتقرر في ساعة، ولكن نعود غداً، ورفقنا به، فقال: انصرفا، فانصرفنا.
واستدعانا من غد، فكتبنا إليه: هذا يوم جمعة، يوم ضيق، ويحتاج فيه إلى دخول الحمام، والصلاة، وقل أمر يتم قبل الصلاة، ولكنا نبكر يوم السبت.
فلما كان يوم السبت، صرنا إليه، وقد وضعنا في أنفسنا الإجابة، فحين دخلنا عليه، ورد عليه كتاب فقرأه، وشغل قلبه، فقال: انصرفا اليوم.
فانصرفنا، ورحل من الغد عن الأهواز، لأن الكتاب، كان يتضمن صرفه، فبادر قبل ورود الصارف، وكفينا أمره.
كيفية إغراء العمال بأخذ المرافقوقال: ورد علينا في وقت من الأوقات، بعض العمال متقلداً للأهواز، من قبل السلطان، فتتبع رسومنا، ورام نقض شيء منها.
فكنت أنا وجماعة من التناء في المطالبة، وكان فيها ذهاب غلاتنا في تلك السنة، لو تم علينا، وذهاب أكثر قيمة ضياعنا.
فقال لي الجماعة: ليس لنا غيرك، تخلو به، وتبذل له مرفقاً، وتكفيناه.
فجئته، وخلوت به، وبذلت له مرفقاً جليلاً، فلم يقبله، ودخلت عليه بالكلام من غير وجه، فما لان، ولا أجاب.
فلما يئست منه، وكدت أن أقوم، قلت له: يا هذا الرجل، أنت مقيم من هذا الأمر، على خطأ شديد، لأنك تظلمنا، وتزيل رسومنا، من حيث لا يحمدك السلطان، ولا تنتفع أنت أيضاً بذاك.
ومع هذا فأخبرني، هل تأمن أن تكون قد صرفت، وكتاب صرفك في الطريق، يرد عليك بعد يومين أو ثلاثة، فتكون قد أهلكتنا، وأثمت في أمورنا، وفاتك هذا المرفق الجليل، ولعلنا نحن نكفى، ويجيء غيرك، فلا يطالبنا، أو يطالبنا فنبذل له نحن هذا المرفق، فيقبله، ويكون الضرر يدخل عليك.
فحين سمع هذا وافق، كأنه قد علم من أمره ضعفاً ببغداد، وتلوناً، وأني قد أحسست بانحلال أمره، وأن لي ببغداد من يكاتبني بالأخبار.
فأخذ يخاطبني مخاطبة من أين وقع إلي هذا، فقويته في نفسه، فأجاب إلى أخذ المرفق، وإزالة المطالبة.
فسلمت إليه رقاعاً إلى الصيارف بالمال، وأخذت منه حجة بزوال المطالبة، فانصرفت وقد بلغت ما أردت.
فلما كان بعد خمسة أيام، ورد عليه كتاب الصرف، فدخلت إليه، فأخذ يشكرني ويخبرني بما ورد عليه، فأوهمته أني كنت قلت له ذلك عن أصل، وكفيناه.
الصوفي المتوكل وجام فالوذج حارحدثني ابن سيار، عن شيخ من الصوفية، قال:

صحبت شيخاً من الصوفية، وجماعة منهم، في سفر، فجرى ذكر التوكل، والأرزاق، وضعف النفس.
فقال ذلك الشيخ: علي، وعلي، وحلف بأيمان مغلظة، لا ذقت شيئاً، أو يبعث الله عز وجل، إلي، جام فالوذج حار، ولا آكله إلا بعد أن يحلف علي، أو يجرى علي مكروه، وكنا نمشي في الصحراء.
فقالت الجماعة: أنت جاهل، ونحن نمشي، حتى انتهينا إلى القرية، وقد مضى عليه يومان وليلتان، ولم يطعم شيئاً، ففارقته الجماعة، غيري.
فطرح نفسه في مسجد في القرية، وقد ضعفت قوته، وأشرف على الموت، فأقمت عنده.
فلما كان في ليلة اليوم الثالث، وقد انتصف الليل، وكاد يتلف، دق علينا باب المسجد، ففتحته، فإذا بجارية سوداء ومعها طبق مغطى، فلما رأتنا، قالت: أنتم من أهل القرية، أم غرباء ؟.
فقلنا: غرباء.
فكشفت عن جام فالوذج حار.
فقالت: كلوا.
فقلت له: كل.
فقال: لا أفعل.
فقلت: والله، لا أكلت أو تأكل، ووالله لتأكلن، لأبر قسمه.
فقال: لا أفعل.
فشالت الجارية يدها، فصفعته صفعة عظيمة، وقالت: والله، لئن لم تأكل، لأصفعنك هكذا، إلى أن تأكل.
فقال: كل معي، فأكلت معه، فنظفنا الجام.
فلما أخذته لتمضي، قلت لها: بالله، حدثينا بخبر هذا الجام.
قالت: نعم، أنا جارية رئيس هذه القرية، وهو رجل حديد، طلب منا منذ ساعة، فالوذج حار، فقمنا لنصلحه، وهو شتاء وبرد، فإلى أن نخرج الحوائج، ونعقد الفالوذج، تأخر عليه، فطلبه، فقلنا: نعم، فحلف بالطلاق، أنه لا يأكله، ولا أحد من أهل داره، ولا أحد من أهل القرية، إلا غريب.
فأخذته، وجعلت أدور في المساجد، إلى أن وجدتكما، ولو لم يأكل هذا الشيخ، لقتلته صفعاً، ولا تطلق ستي.
فقال لي الشيخ: كيف ترى، إذا أراد أن يفرج ؟.

سخاء الأمير سيف الدولة

وحدثني عبد الله بن معروف، قال: دخلت حلب إلى أبي محمد الصلحي، وأبي الحسن المغربي، أسلم عليهما، وكانا في صحبة سيف الدولة، وهما في دار واحدة نازلان لضيق الدور.
وكان وكيل كل واحد منهما يبكر فيقيم لهما جميع ما يحتاجان إليه من المائدة والوظائف، فإذا كان من الغد، بكر وكيل الآخر، فأقام لهما، ولغلمانهما، من المائدة والوظائف ما يحتاجون إليه على هذا.
فلما دخلت إليهما، وجلست، دخل شيخ ضرير، فسلم، وجلس، ثم قال: إن لي بالأمير سيف الدولة، حرمة واختصاص، أيام مقامه بالموصل، وقد لحقتني محن وشدائد، أملته لكشفها، وقد قصدته، وهذه رقعتي إليه، فإن رأيتما أن تتفضلا بإيصالها إليه، فعلتما، وأخرج رقعة طويلة جداً.
فلما رأياها، قالا له: هذه عظيمة، ولا ينشط الأمير لقراءتها، فغيرها، واختصرها، وعد في وقت آخر، فإنا نعرضها عليه.
فقال: الذي أحب، أن تتفضلا بعرض هذه الرقعة.
فدافعاه عن ذلك، فقام يجر رجليه، منكسر القلب، فتداخلتني رحمة له، وركبت، ودخلت على سيف الدولة، وهو جالس.
وكان رسمه أن لا يصل إليه أحد، إلا برقعة يكتبها الحاجب، باسم من حضر، فإذا قرأ الرقعة، إن شاء أذن له، وإن شاء صرفه.
فلما أستقررت عرض الحاجب عليه رقعة فيها: فلان بن فلان، الموصلي الضرير.
فقال له: هذا في الدنيا ؟ أين هو ؟.
فقيل: بالباب.
فقال: يدخل، فما أظنه - مع ما أعرفه من زهده في الطلب، وقصد الملوك - قصدنا إلا من شدة، فدخل الشيخ الذي رأيته عند الصلحي والمغربي.
فلما رآه استدناه، وبش له، وقال له: يا هذا، أما سمعت بأنا في الدنيا ؟ أما علمت مكاننا على وجه الأرض ؟ أما حان لك أن تزورنا إلى الآن، مع ما لك بنا من الحرمة والسبب الوكيد ؟ لقد أسأت إلى نفسك، وأسأت الظن بنا.
فجعل يدعو له، ويشكره، ويعتذر، فقربه، وجلس ساعة، ثم سلم إليه تلك الرقعة بعينها، فأخذها من يده، وقرأها.
ثم استدعي يونس بن بابا، وكان خازنه، فحضر، فأسر إليه شيئاً.
ثم استدعى رئيس الفراشين، فخاطبه سراً.
واستدعى خادماً له، فخاطبه بشيء.
واستدعى صاحب الإصطبل، فأمره بشيء، فانصرفت الجماعة.
وعاد ابن بابا، فوضع بين يديه صرتين فيهما خمسمائة دينار، وثياباً كثيرة صحاحاً، من ثياب الشتاء والصيف، وطيباً كثيراً.
ثم جاء عريف الفراشين ببسط وآلة وفرش تساوي ألوف دراهم، فصار ذلك كالتل بين يديه.
وكان يعجبه إذا أمر لإنسان بشيء أن يكون بحضرته مجتمعاً، فيراه بين يديه، ثم يهبه له.

فاجتمع ذلك، والضرير لا يعلم، وعنده أنه قد تغافل عنه، فهو في الريب.
ثم حضر صاحب الكراع، ومعه بغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم، ومركب ثقيل.
وجاء غلام أسود عليه ثياب جدد، فسلمت إليه البغلة، فأمسكها في الميدان أسفل الدكة التي عليها الأمير.
فقال للغلام: كم جرايتك في السنة ؟.
قال: عشرون ديناراً.
فقال: قد جعلتها ثلاثين، وخدمة هذا الشيخ خدمة لنا، فلا تقصر فيها، ولا ينكسر قلبك بخروجك عنا من دارنا، وأعطوه سلفاً لسنة، فدفع إليه ذلك في الحال.
ثم قال: فرغوا الدار الفلانية، له، ويحدر زورق من تل فافان إلى الموصل، فيه كران حنطة، وكر شعير، وفواكه الشام ومآكلها، فعملوا بهذا ثبتاً، ففعل ذلك.
ثم استدعى أبا إسحاق بن شهرام، كاتبه، المعروف بابن ظلوم المغنية، وكان يكتب له، ويترسل إلى ملك الروم، ويبعثه في صغير أموره وكبيرها فساره بشيء، وكان صاحب سره.
فابتدأ ابن شهرام يعتذر إلى الضرير، عن سيف الدولة، باعتذار طويل، وأنك قصدتنا في آخر وقت، وقد نفدت غلاتنا وتقسمت أموالنا الحقوق، والزوار، والجيوش، وببابنا خلق من الرؤساء، ونحتاج أن نواسيهم، ولولا ذلك لأوفينا على أملك، وقد أمرنا لك بكذا وكذا، وجعل ابن شهرام يقرأ عليه ما في الثبت، وسيف الدولة يسمع.
فقلت له: لا تورد على الشيخ هذه الجائزة جملة، عقيب اليأس الذي لحقه، فتنشق مرارته.
فلما استوفى، بكى الشيخ بكاءً شديداً، وقال: أيها الأمير، لقد زدت - والله - على أملي بطبقات، وأوفيت على غناي بدرجات، وقضيت حقي، وما هو أعظم من حقي، وما أحسن أن أشكرك، ولكن الله تعالى، يتولى مكافأتك، فمن علي بتقبيل يدك، فأذن له، فقبلها.
فجذبه سيف الدولة، وساره بشيء، فضحك، وقال: إي والله، أيها الأمير.
فاستدعى خادماً للحرم، وساره بشيء، وقام الشيخ إلى داره التي أخلاها له، وقال له: أقم فيها إلى أن أنظر في أمرك، وتخرج إلى عيالك.
فسألت الخادم عما ساره به، فقال: أمرني أن أخرج إليه جارية، من وصائف أخته، في نهاية الحسن، في ثياب وآلة قيمتها عشرة آلاف درهم، قال: فحملتها إليه.
قال ابن معروف: فقمت قائماً، وقلت: أيها الأمير، ما سمع بهذا الفعل عن أحد من أهل الأرض قديماً، ولا حديثاً.
فقال: دعني من هذا، ما معنى قولك لابن شهرام، لا تورد عليه هذا كله مع اليأس، فتنشق مرارته ؟.
فقلت: نعم، كنت منذ ساعة عند أبي محمد الصلحي وأبي الحسن المغربي، فجرى كذا وكذا، وقصصت عليه قصة الضرير معهما، وأنه انصرف أخزى منصرف، ثم جاء بعد اليأس، فعاملته بهذا الفعل العظيم.
فقال: أحضروا الصلحي والمغربي، فأحضرا.
فقال لهما: ويحكما، ألم أحسن إليكما ؟ وأنوه باسمكما ؟، وأرفع منكما ؟، وأصطنعكما ؟ وعدد أياديه عليهما.
فقالا: بلى، وأخذا يشكرانه.
فقال: ما أريد هذا، أفمن حقي عليكما، أن تقطعا عني رجاء مؤملي وقاصدي، وتنسباني عندهم إلى الضجر برقاعهم ؟ ما كان عليكما لو أخذتما رقعة الضرير، فأوصلتماها إلي ؟ فإن جرى على يدي شيء، كنتما شريكاي فيه، وإن ضجرت، كان الضجر منسوباً إلي دونكما، وكنتما بريئين منه، وقد قضيتما حق قصده، فلا حقه قضيتما، ولا حق الله فيما أخذه على ذوي الجاه، وأسرف في توبيخهما، كأنهما قد أذنبا ذنباً.
فجعلا يعتذران إليه، ويقولان: ما أردنا إلا التخفيف عنه من قراءة شيء طويل، لينقلها إلى أخف منها، ولو علمنا أنه أيس، لأخذنا رقعته وعرضناها.
فدعت الجماعة له، وحلفت أن هذا التأنيب في الجود، أحسن من الجود، ورفقوا به حتى انبسط في الحديث.

ألمعية المأمون وذكاؤه

قال: دعا المأمون يوماً بأبي عباد، فدفع إليه كتاباً مختوماً، وأمره أن يأتي عمرو بن مسعدة، فيناظره على ما فيه باباً، باباً، ويأخذ تحت كل باب خطه فيه، ويختمه بخاتمه، وخاتم عمرو، ويحتفظ به إلى أن يسأله عنه، ولا يذكره ابتداءاً، وأكد على ذلك.
قال: فعلمت أنها وقيعة، وقد كنت شاركت عمراً في أشياء، فصارت إلينا منها أموال، فخفت أن تكون مذكورة في الكتاب.
فقصدت عمراً، فوجدته في بستان أحمد بن يوسف، يلعب بالشطرنج مع بعض أصحابه، فعرفته أني محتاج إلى الخلوة معه.
فقال: دعني الساعة، فقد استوى لي هذا الدست.

فضاق صدري، وقلبت الشطرنج، وقلت: قد سال السيل، وهلكنا وأنت غافل، إقرأ هذا الكتاب، فقرأه، فطالبته أن يكتب خطه، تحت كل فصل منه، بحجته.
فضحك، وقال: ويحك، أما تستحي، تخدم رجلاً طول هذه المدة، ولا تعرف أخلاقه، ولا مذهبه؟.
فقلت: يا هذا، أخبرني عنك، إن أقدمت على جحد ما في هذا الكتاب، لتعذر حجة ما شاركتك فيه، أما أنا فوالله أجحد، ولكن أصبر لأمر الله تعالى.
قال: فتحب أن اطلعك على ما هو أشد عليك من هذا ؟.
قلت: وما هو ؟.
فقال: كتاب دفعه إلي أمير المؤمنين منذ سنة، وأمرني فيه بمثل ما أمرك في هذا، فعرفت ضيق صدرك، فلم أذكره لك.
فكدت أموت إلى أن فرغ من كلامه، فقلت له: أرني اياه، فأحضره، وقرأته، وأنا أنتفض، وعمرو يضحك.
فلما فرغت منه، قلت: عند الله أحتسب نفسي ونعمتي.
فقال: أنت والله مجنون.
فقلت: دعنا من هذا، ووقع تحت كل فصل.
فنظر إلى جملة ما نسب إليه في الكتاب، فوجده أربعين ألف ألف درهم، فوقع في آخره: لو قصرت همتنا في هذا القدر وأضعافه، لوسعتنا منازلنا، وما يفي هذا، بدلجة في برد، أو روحة في حر، وأرجو أن يطيل الله بقاء أمير المؤمنين، ويبلغنا فيه ما نؤمله به، وعلى يده.
وكان جملة ما رفع علي، سبعة وعشرون ألف ألف درهم.
فقال: يا هذا، إن صاحبنا ليس ببخيل، ولكنه رجل يكره أن يطوى معروفه، وإنما أراد أن يعلمنا أنه قد علم بما صار إلينا، فأمسك عنه على علم.
ثم ختم الكتاب بخاتمه، وخاتمي، وانصرفت وأنا في الموت، فلم ألبث أن كتبت وصيتي، وأحكمت أمري، وكنت سنة مغموماً، وذاب جسمي.
فقال لي المأمون يوماً: يا أبا عباد، قد أنكرت حالك، أتشكو علة ؟ فقلت: لا، يا أمير المؤمنين، ولكني منذ سنة، حي كميت، لأجل الكتاب الذي دفعه إلي أمير المؤمنين، لأناظر عليه عمرو بن مسعدة.
فقال: أمسك عني، حتى أعيد عليك جميع ما جرى بينكما، فحدثني بجميع ما دار بيننا، كأنه كان ثالثنا.
فقلت: لقد استقصى لك الذي وكلته بخبرنا، والله، ما خرم منه حرفاً.
فقال: والله، ما وكلت بكما أحداً، ولكن ظناً ظننته، وعلمت أنه لا يدور بينكما غيره، ولقد عجبت من غير عجب، لأن عقول الرجال يدرك بعضها بعضاً، وهذا عمرو بن مسعدة، أعرف بنا منك، وأوسع صدراً، وأبعد همة، وما أردت بما فعلت، إلا أن تعلما أني قد عرفت ما صار إليكما، وتستكثرانه، فأحببت أن أزيل عنكما غم المساترة، وثقل المراقبة، وأني لمتذمم لكما، خجل من ضعف أثري عليكما.
فسررت، وصرت كأني أطلقت من عقال، فشكرته ودعوت له.
ثم قلت: ما أصنع بذلك الكتاب ؟.
قال: خرقه إلى لعنة الله، وامض مصاحباً، آمناً، في ستر الله عز وجل.

الشطرنج

الشطرنج: لعبة مشهورة، تشحذ اللب، وتدرب على الفكر، وتعلم شدة البصيرة، وهي معرب: شطرنك، بالفارسية، أي ستة ألوان، لأن القطع في اللعب هي ست، وهي: الشاه، والفرزان ويسمى في بغداد الوزير أو الفرز، والفيل، والفرس، والرخ، والبيدق.
وقد اختلف المؤرخون فيمن وضع الشطرنج، فاليونان ينسبونه إلى يوناني، والهنود ينسبونه إلى هندي، والفرس إلى فارسي، ويروى أن ملوك الهند كانوا إذا تنازعوا على كورة أو مملكة، لعبوا الشطرنج، فيأخذها الغالب من دون قتال.
وكانت لعبة الشطرنج في العصور الوسطى، لعبة الأشراف، في الشرق والغرب، وقد جاء في التاريخ، أن هارون الرشيد أهدى إلى شارلمان رقعة شطرنج، وكان المأمون يحب لعب الشطرنج حباً شديداً، ويقول إنه يشحذ الذهن تاريخ الخلفاء 324.
ومن الذين اشتهروا بإتقان لعب الشطرنج أبو بكر الصولي، وقد أعجب به من الخلفاء المكتفي، والراض، وأصبح مضرب المثل في الشطرنج، وكان لفرط إتقانه، يلاعب بالشطرنج، وهو مستدبر الرقعة، راجع ما قاله فيه ابن الرومي في الغيث المسجم 2 - 50 و 51. وكذلك كان سعيد بن جبير، أحد أعلام التابعين، يلعب الشطرنج إستدباراً وفيات الأعيان 2 - 374.
وللعبة الشطرنج اليوم ببغداد سوق رائجة، ولها هواة كثيرون، وأحذق من شاهدت من البغداديين فيها، القاضي محمود خالص، الذي كان رئيساً لمحكمة التمييز في العراق، وهو شخص نادر المثال في الفضل والخلق الكريم، جامع لجميع الصفات الحسنة، وقد تعدت شهرته في لعب الشطرنج حدود العراق، فكان زوار العراق، من علية القوم، يجتمعون به، ويلعبون معه الشطرنج.

ومن لطيف الإشارات إلى لعب الشطرنج قول الخباز البلدي، في فتية أسكرتهم الخمر الديارات 184، 185:
مشوا إلى الراح مشي الرخ وانصرفوا ... والراح تمشي بهم مشي الفرازين
وسئل أبو الطيب الصعلوكي ت 404 عن الشطرنج، فقال: إذا سلم المال من الخسران، والصلاة من النسيان، فذاك أنس بين الإخوان شذرات الذهب 3 - 173 وخالفه في ذلك ابن تيمية ت 728 فقال: اللعب بالنرد خير من اللعب بالشطرنج، لأن لاعب النرد يعترف بالقضاء والقدر، والشطرنج لاعبه ينفي ذلك الغيث المسجم 2 - 52.
وحكي أن بعضهم كان إذا لعب الشطرنج، تضارب مع خصمه، فوصف أمره لبعض الظرفاء، فقال: أنا التزم ألعب معه، وما تحصل بيننا مضاربة، ولعبا، فقال له أثناء اللعب: شاه أستر، فقال له: أنت قواد، فتعجب منه، وقال: يا أخي، ما الذي قلت لك حتى تغضب ؟ فقال: قلت: أستر، وتصحيفها: أشتر، وهي بالفارسية، تعني الجمل، وتصحيف الجمل، حمل، والحمل نجم في السماء، يقارنه الجدي، والجدي الكبش، والكبش له قرون، وذو القرون هو القواد، فقال له: يا أخي، ما رأيت أحداً قبلك يخاصم ويضارب بتصحيف وتفسير تحفة المجالس 345.
وجاء في مطالع البدور 1 - 77: سأل بعض الأكابر إنساناً: هل تعرف اللعب بالشطرنج ؟، فقال: لا والله يا مولانا، ولكن لي أخ اسمه عز الدولة، وهو أخي لأمي، أكبر مني بسنتين، أو أكثر بشيء يسير، وكان قد حصل بيني وبينه خصومة غاظته، فسافر من مدة عشرة أعوام، وسكن مدينة قوص، وبلغني أنه فتح دكان عطارة، وإلى الآن ما ورد على المملوك منه كتاب، وهو أيضاً مثلي ما يعرف يلعب بالشطرنج.
للتفصيل راجع دائرة المعارف الإسلامية 13 - 294 - 296 ومطالع البدور 1 - 75 - 81 ووفيات الأعيان 4 - 356 - 361 ونشوار المحاضرة القصة 2 - 136 ومروج الذهب 2 - 562 - 564 والغيث المسجم للصفدي 2 - 51 ومحاضرات الأدباء 2 - 725 - 728.

الحسين بن الضحاك يعيش ببقايا هبات الأمين

أخبرني الصولي، قال: حدثني أبو أحمد، قال: كان أبي صديقاً للحسين بن الضحاك، وكان يعاشره، فحملني معه يوماً، وجعل يحادثه، إلى أن قال: يا أبا علي، قد تأخرت أرزاقك، وانقطعت موادك، ونفقتك كبيرة، فكيف تمشي أمورك ؟.
فقال له: والله يا أخي، ما قوام أمري، إلا ببقايا هبات الأمين، وهبات جاريته، فإني حظيت منهما، بأمر طريف، على غير تعمد.
وذلك أن الأمين دعاني يوماً، فقال لي: يا حسين، إن جليس الرجل، عشيره، وثقته، وموضع سره وأنسه، وإن جاريتي فلانة، أحسن الناس وجهاً وغناءً، وهي مني بمحل نفسي، وقد كدرت علي صفو الحياة، ونغصتها علي، بعجبها بنفسها، وبتجنيها علي وإدلالها، لما تعلمه من حبي لها، وإني محضرها، ومحضر صاحبة لها ليست منها في شيء، لتغني معها، فإذا غنت، أومأت إليك، على أن أمرها أبين من أن يخفى عليك، فلا تستحسن غناءها، ولا تشرب عليه، وإذا غنت الأخرى، فاشرب، واطرب، واستحسن، وشق ثيابك، وعلي، بكل ثوب، مائة ثوب.
فقلت: السمع والطاعة، لأمير المؤمنين.
فجلس في حجرة خلوته، وأحضرني، وسقاني أرطالاً، فغنت المحسنة، وقد أخذ مني الشراب، فما ملكت نفسي أن استحسنت، وطربت، فأومأ إلي، وقطب في وجهي.
ثم غنت الاخري، فجعلت أتكلف القول، وأفعله.
ثم غنت المحسنة ثانية، فأتت بما لم أسمع مثله حسناً قط، فما ملكت نفسي أن صحت، وطربت، وشربت، وهو ينظر إلي، ويعض شفتيه غيظاً علي، وقد زال عقلي، فما أفكر فيه، حتى فعلت ذلك مراراً، وكلما زاد شربي، ذهب عقلي.
فأمر بجر رجلي، وصرفي، وأمر أن لا أدخل عليه، فجاءني الناس يتوجعون لي، ويسألون عن قصتي، فقلت: حمل علي النبيذ، فأسأت أدبي، فمنعني من الدخول إليه.
ومضى لما أنا فيه شهر، وقد استمرت علي المحنة.
فبينما أنا كذلك، إذ جاءتني البشارة، بأنه قد رضي عني، وأمر باحضاري، فحضرت، وأنا خائف، فلما وصلت إليه، أعطاني يده فقبلتها، فضحك إلي، ثم قام وقال: اتبعني.
فتبعته، فدخل تلك الحجرة بعينها، ولم يحضر غيري، وغيره، وغير المحسنة التي نالني من أجلها ما نالني، وأحضر الشراب، فغنت، فسكت.
فقال: قل ما شئت، ولا تخف، فلقد خار الله لك في خلافي، وجرى القدر بما تحب.

إعلم أن هذه الجارية، عادت إلى الحال التي أحبها منها، وأرضتني في أفعالها، واصطلحنا، فأذكرتني بك، وسألتني الرضا عنك، والإحسان إليك، وقد فعلت، وأمرت لك بعشرة آلاف دينار، ووصلتك هي بدون ذلك، ولو كنت فعلت ما أمرتك، حتى تعود إلى مثل هذه الحال، ثم تحقد عليك، فتسألني أن لا تصل إلي قط، لأجبتها.
فدعوت له، وشكرته، وحمدت الله على توفيقه إياي، وزدت في الاستحسان والسرور إلى أن انصرفت، وحمل معي المال.
فما كان يمضي أسبوع إلا أتتني ألطافها، وصلاتها، من الجوهر والثياب، بغير علم الأمين. وما جالسته يوماً، إلا سألته أن يصلني بشيء.
فجميع ما أنفقه إلى الساعة، من فضل ما وصلني منها.

من مكارم البرامكة

ذكر سعيد بن سليمان الباهلي، قال: أضقت إضاقة شديدة، وكثر علي الغرماء، فاستترت مدة، ثم صرت إلى عبد الله بن مالك، فشكوت إليه حالي، وشاورته في أمري.
فقال: لست أعرف لك غير قصد البرامكة، ومسألتهم في إصلاح ما اختل من أمرك.
فقلت: ومن يحتمل تيههم وصلفهم ؟.
قال: تحتمله، في جنب ما تقدر من صلاح حالك.
قال: فصرت إلى جعفر والفضل ابني يحيى، فشكوت إليهما أمري.
فقالا: نكفيك، إن شاء الله.
فانصرفت إلى عبد الله بن مالك، فعرفته ما جرى.
فقال: أقم عندي، ولا ترجع إلى منزلك، وتقاسى غرماءك، فأقمت عنده.
فصار إلي غلام لي، فقال: يا مولاي، رحبتنا مملوءة بالجمال عليها المال، ورجل مع الجمال، معه رقعة يزعم أنها من الفضل وجعفر، وأنه رسولهما.
فقال لي عبد الله: أرجو أن يكون قد فرج الله عنك.
فصرت إلى منزلي، وإذا رسول جعفر والفضل، ومعه رقعة يذكران فيها: أنهما عرفا أمير المؤمنين خبري، وأن علي ثمانمائة ألف درهم، ديناً، فأمر بحملها إلي.
ثم قالا له: فإذا قضى دينه، يرجع إلى الدين ؟ - فأمر لي بثمانمائة ألف درهم أخرى، لنفقتي.
وأنهما أضافا إليها من أموالهما، ألفي ألف درهم، فحملاها مع ذلك.
فاستوفيت من رسولهما، ثلاثة آلاف ألف، وستمائة ألف درهم.
وقد ذكر أبو الحسين القاضي، هذا الخبر في كتابه، على قريب من هذا اللفظ والمعنى، بغير إسناد، ولم يذكر فيه مبلغ المال، ولا حال الاستتار.
المأمون يهب أحد كتابه اثني عشر ألف ألف درهموجدت في كتاب عتيق فيه أخبار جمعها يعقوب بن بيان الكاتب: حدثني أبو القاسم علي بن داود بن الجعد، قال: حدثني يزيد بن دينار بن عبد الله، قال: حدثني أبي، عن يحيى بن خاقان، قال: كنت كاتب الحسن بن سهل، فقدم المأمون مدينة السلام، فقال لي: يا يحيى، خلوت بالسواد، ولعبت بالأموال التي لي، واحتجنتها، واقتطعتها.
فقلت: يا أمير المؤمنين، إنما أنا كاتب الرجل، والمناظرة في الأموال، والأعمال، مع صاحبي، لا معي.
فقال: ما أطالب غيرك، ولا أعرف سواك، فصالحني على مائة ألف ألف درهم.
قال: فضحكت.
فقال: يا يحيى، أجد وتهزل ؟.
فقلت: لا، يا أمير المؤمنين، إنما ضحكت تعجباً، وبالله، ما أملك إلا سبعمائة ألف درهم.
فقال: دع هذا عنك، واعطني خمسين ألف ألف درهم.
قال: فما زلت أجاذبه، ويجاذبني، إلى أن بلغ اثنا عشر ألف ألف درهم، فلما بلغ إليها، قال: نفيت من الرشيد، إن نقصتك شيئاً منها.
فقلت: السمع والطاعة.
قال: أقم لي ضميناً، إن لم تف لي بها، طالبته.
قلت: صاحبي يا أمير المؤمنين يضمنني.
فقال: أتراني إن دافعت الاداء، أطالب الحسن بن سهل عنك ؟ هذا ما لا يكون.
فقلت: عبد الله بن طاهر.
فقال: عبد الله بن طاهر، سبيله سبيل صاحبك.
قلت: فحميد.
قال: وهذه سبيله.
قلت: ففرج مولاك يا أمير المؤمنين.
قال: مليء - والله - وثقة، ثم التفت إلى فرج، فقال: أتضمنه يا فرج ؟.
قال: نعم، يا أمير المؤمنين، قد ضمنته.
فقال: أنا والله محرجه بالإلحاح في المطالبة، حتى يهرب، أو يستتر، ثم آخذك بالمال، فتؤديه، فإنك ملي به.
فقال فرج: صاحبي ثقة، وهو لا يخفرني، إن شاء الله.
قال يحيى: فكتبت إلى الحسن بن سهل، وعبد الله بن طاهر، وحميد، ودينار بن عبد الله، وغسان، ورجال المأمون، أسألهم إعانتي في المال.
قال: فحملوا لي ذلك عن آخره، حمل كل إنسان منهم، على قدره، قال يحيى: فكتبت رقعة إلى المأمون، أعرفه أن المال قد حضر، وأسأله أن يأمر من يقبضه.

قال: فأحضرني، فلما وقعت عينه علي، قال لي: يا خائن، الحمد لله الذي بين لي خيانتك، وأظهر لي كذبك، ألم تذكر أنك لا تملك إلا سبعمائة ألف درهم ؟ فكيف تهيأ لك أن حملت في عشرة أيام إثني عشر ألف ألف درهم ؟ قال: فقلت: حملت، يا أمير المؤمنين من هذه الجريدة، ودفعت إليه جريدة بأسماء من حمل إلي المال، ومبلغ ما حمل كل واحد منهم.
قال: فقرأ الجريدة، ثم أطرق ملياً، ورفع رأسه، فقال: لا يكون أصحابنا، أجود منا، هذا المال قد وهبناه لك، وأبرأنا ضمينك.
قال يحيى: فانصرفت، فرددت المال إلى أصحابه، فأبوا أن يقبلوه، وقالوا: قد وهبناه لك، فاصنع به ما أحببت.
قال: فحلفت، أن لا أقبل منه درهماً، وقلت لهم: أخذته في وقت حاجتي، ورددته عند استغنائي عنه، وقبولي إياه في هذا الوقت ضرب من التغنم.
فرددته عليهم.

ما بقي له غير درهمين ثم جاءه الفرج

ووجدت في هذا الكتاب، عن يعقوب بن بيان: حدثني بعض أصحابنا، وهو عندي ثقة، وقد تجارينا لزوم المتعطلين، أبواب المتشاغلين، وتعذر الشغل عليهم، بعد أن قلنا جميعاً: إن الأرزاق مقسومة، وإن الله تعالى إذا أذن فيها سهلها، قال: فحدثني عمرو بن حفص، عن أبيه، قال: كان أبي حفص، قد صحب بعض عمال فارس، إلى فارس، فأقام على بابه ستة أشهر، يلقاه كل يوم فيها، فلا يكلمه العامل فيها بشيء، وينصرف أبي إلى منزله.
قال: فنفدت نفقته، وباع كل ما كان معه، حتى قال له غلامه يوماً: ما بقي إلا الدابة، والبغل، ودرهمان.
قال: فقال له: اشتر لنا بالدرهمين خوخاً، فإنه أرخص من الخبز، لنتقوته، إلى أن يفرج الله - عز وجل - عنا.
قال: ففعل الغلام ذلك، وأكل حفص من الخوخ شيئاً ونام، فما استيقظ إلا بدق الباب، وإذا رسول العامل يأمره بالحضور، فركب، فوجد العامل قاعداً في داره على كرسي ينتظره.
فلما دخل، قال العامل: لا جزاك الله خيراً عني، ولا عن نفسك.
قال: ولم ذاك، أصلحك الله ؟.
قال: أتستقيم على بابي ستة أشهر، لم تر على نفسك أن تريني وجهك يوماً واحداً ؟.
فقال: أعزك الله، أنا في مجلسك كل يوم.
قال: والله، ما وقعت لي عليك عين، ولا خطرت ببالي إلا الساعة، فإني ذكرتك، فعلمت طول مقامك في العطلة والغربة.
ودعا بكاتبه، فكتب كتبي على فسا ودرابجرد، وخرجت من يومي إلى العمل، فحصلت منه، في مديدة قريبة، سوى نفقتي، ستمائة ألف درهم.
سبب توبته عن النبيذحدثني علي بن محمد الأنصاري، وعبيد الله بن محمد العبقسي، واللفظ له، قالا: حدثنا أبو الفتح القطان: أن رجلاً من أولاد التجار، زالت نعمته، وصار بواباً لأبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي العلوي، نقيب الطالبيين، أيده الله، ببغداد، قال: حدثني خالي، وكان صيرفياً، قال: كنت وجماعة من إخواني، عند بعضنا مجتمعين نشرب، وعندنا غلام أمرد، ونحن نأكل بطيخاً، وفي يد كل واحد منا سكيناً.
فأخذ الغلام يمزح مع واحد منا في يده سكين ليأخذها منه، فرمى بالسكين، كالضجر من مجاذبته إياها، فوقعت في قلب الغلام، فتلف في الحال، فقمنا لنهرب.
فقال صاحب البيت: ما هذه فتوة، إما أن نبتلى كلنا، أو نتخلص كلنا.
فأغلقنا باب الدار، وشققنا بطن الغلام، فألقينا ما فيه في المستراح، وفصلنا أعضاءه، فأخذ كل منا عضواً، وخرجنا متفرقين، لنلقي ذلك بحيث يخفى خبره.
فوقع معي الرأس، فلففته في فوطة، وجعلته في كمي.
فلما مشيت، استقبلني رجالة المحتسب، فقبضوا على كمي، وقالوا: قد أمرنا المحتسب بختم كل كيس نجده، حتى يفتح بحضرته، ويخرج ما فيه، وتؤخذ منه الزائفة.
فرفقت بهم، وبذلت لهم دراهم كثيرة، فلم يجيبوا، ومشوا بي معهم، وأمسكوني يريدون المحتسب.
فنظرت، فإذا أنا هالك، وفكرت في الحيلة والخلاص، فلم تتجه، حتى رأيت درباً ضيقاً لطيف الباب، كأنه باب دار، وأنا أعرفه منفذاً.
فقلت لهم: أنتم تريدون ختم كيسي، فما معنى تشبثكم بيدي وكمي كأنني لص ؟ أنا معكم إلى المحتسب، فخلوا عن يدي، ففعلوا، وأطافوا بي.
فلما صرت على باب الدرب، سعيت، فدخلته، وأغلقت بابه، واستوثقت منه، وسعيت إلى آخره، فإذا بئر كنيف قد فتحت لتنقى، وتركت مفتوحة، فألقيت الفوطة بما فيها في البئر، وخرجت أسعى من طرف الدرب الآخر، حتى بلغت منزلي، وحمدت الله تعالى على الخلاص من الهلكة.
وتبت عن النبيذ.

حلف بالطلاق لا يحضر دعوة ولا يشيع جنازة

حدثني عبيد الله بن محمد، قال: حدثنا أبو أحمد الحسين بن موسى الموسوي العلوي النقيب، قال: حدثني شيخ كان يخدمني، وقد تجارينا أحاديث الناس، فقال: إنه حلف بالطلاق، ألا يحضر دعوة، ولا يشيع جنازة، ولا يودع وديعة، فسألته عن ذلك.
فقال: كنت انحدرت إلى البصرة من بغداد، فصعدت إلى بعض مشارع البصرة عشاءً، فاستقبلني رجل، فكناني بغير كنيتي، وبش في وجهي، وأحفى، وجعل يسألني عن قوم لا أعرفهم، ويحلف علي في النزول عنده.
وكنت غريباً، لا أعرف مكاناً، فقلت: أبيت عنده الليلة إلى غد، فأطلب موضعاً.
فموهت عليه في القول، فجذبني إلى منزله، وكان معي رجل صالح، وفي كمي دراهم كثيرة.
فدخلت إليه، فإذا عنده دعوة، والقوم على نبيذ، وقد خرج لحاجة، فشبهني بصديق له، وتموه عليه أمري لسكره.
وكان فيمن عنده، رجل له غلام أمرد، فلما أخذوا مضاجعهم للنوم، أرقت من بينهم.
فلما كان بعد ساعة، رأيت واحداً من الجماعة، قد قام إلى الغلام الأمرد، ففسق به، ورجع إلى موضعه، وكان قريباً من صاحب الغلام.
واستيقظ في الحال صاحب الغلام، فتقدم إلى غلامه ليفسق به.
فقال له: ما تريد ؟ ألم تكن الساعة عندي، وفعلت بي كذا وكذا ؟ فقال: لا.
فقال: قد جاءني الساعة من فعل بي، وظننته إياك، فلم أتحرك، ولم أظن أن أحداً يجسر عليك.
فنخر الرجل، وجرد سكيناً من وسطه، وقام، وأنا أرعد، فلو كان دنا مني، حتى يجدني أرعد، لقتلني، وظن أني صاحب القصة.
فلما أراد الله عز وجل، من بقاء حياتي ما أراد، بدأ بصاحبه، فوضع يده على قلبه، فوجده يخفق، وقد تناوم عليه، يرجو بذلك السلامة، فوضع السكين في قلبه، وأمسك فاه، فاضطرب الرجل، وتلف.
فأخذ الرجل بيد غلامه، وفتح الباب، وانصرف.
فورد علي أمر عظيم.
وقلت: أنا غريب، وينتبه صاحب البيت، فلا يعرفني، ولا يشك في إني صاحب الجناية، فأقتل.
فتركت رحلي، وأخذت ردائي، ونعلي، وطلبت الباب، فلم أزل أمشي، لا أدري أين أقصد، والليل منتصف، وخفت العسس، فرأيت أتون حمام لم يوقد بعد.
فقلت: أختبيء فيه، إلى أن يفتح الحمام، فأدخله، فجلست في كسر الأتون.
فما لبثت حيناً، حتى سمعت وقع حافر، وإذا برجل يقول: قد رأيتك يا ابن الفاعلة، ودخل الاتون، وأنا كالميت من الفزع، لا أتحرك، فلما لم يجد حساً، أدخل رأسه، ويده، يومئ بسيف معه في الأتون، وأنا بعيد عن أن ينالني السيف، صابر، مستسلم.
فلما لم يحس أحداً، خرج إلى بابه، وإذا معه جارية، فأدخلها الأتون، فذبحها، وتركها ومضى.
فرأيت بريق خلخالين في رجليها، فانتزعتهما منها، وخرجت، وما زلت أمشي في الطريق متحيراً، إلى أن صرت إلى باب حمام قد فتح، فدخلته، وخبأت ما معي في ثيابي، عند الحمامي.
وخرجت وقد أصبحت، فضممت الخلخالين إلى ما معي، وطلبت الطريق، فعرفت أني بالقرب من دار صديق لي، فطلبتها، فدققت بابه، ففتح لي، وسر بمقدمي، وأدخلني.
فدفعت إليه منديلي الذي كان فيه دراهمي والخلخالين، ليخبئهما، فلما نظر إليهما تغير وجهه.
فقلت: مالك ؟.
فقال: من أين لك هذان الخلخالان ؟ فأخبرته بخبري كله في ليلتي، فدخل مسرعاً إلى دار حرمه، وخرج إلي.
فقال: أتعرف الرجل الذي رأيته قتل الجارية ؟.
قلت: أما بوجهه فلا، لأن الليل والظلمة كانت حائلة بيننا، ولكن إن سمعت كلامه عرفته.
فأعد طعاماً، وغدا في أمره، وعاد بعد ساعة، ومعه رجل شاب من الجند، فكلمه، وغمزني عليه.
فقلت: نعم، هذا هو الرجل.
ثم أكلنا، وحضر الشراب، فحمل عليه بالنبيذ، فسكر، ونام موضعه، فأغلق باب الدار، وذبح الرجل.
وقال لي: إن المقتولة أختي، وكان هذا قد أفسدها، ونمى الخبر إلي منذ أيام فلم أصدق، إلا أني طردت أختي، وأبعدتها عني، فمضت إليه، ولست أدري ما كان بينهما، حتى قتلها، وإنما عرفت الخلخالين ودخلت فسألت عنها.
فقيل لي: هي عند فلان.
فقلت: قد رضيت عنها، فوجهوا، فردوها، فلجلجوا في القول، فعلمت أن الرجل قد قتلها كما ذكرت، فقتلته، فقم حتى ندفنه.
فخرجنا ليلاً، أنا والرجل، حتى دفناه، وعدت إلى المشرعة، هارباً من البصرة، حتى دخلت بغداد.
وحلفت ألا أحضر دعوة أبداً، ولا أودع وديعة أبداً.

وأما الجنازة، فإني خرجت ببغداد، نصف النهار، في يوم حار، لحاجة فاستقبلتني جنازة يحملها نفسان.
فقلت: غريب، فقير، أحملها معهما فأثاب، فدخلت تحتها، بدلاً من أحد الحمالين.
فحين استقرت على كتفي، افتقدت الحمال، فلم أجده، فصحت: يا حمال، يا حمال.
فقال الآخر: إمش، واسكت، قد انصرف الحمال.
فقلت: الساعة، والله، أرمي بها.
فقال الحمال: والله، لئن فعلت لأصيحن.
فاستحييت، وقلت: ثواب، فحملناها إلى مسجد الجنائز، فلما حططنا الجنازة في مسجد الجنائز، هرب الحمال الآخر.
فقلت: ما لهؤلاء الملاعين، والله، لأُتمن الثواب، فأخرجت من كمي دراهم، وصحت: يا حفار، أين قرب هذه الجنازة ؟.
فقال: لا أدري.
فقلت: أحفر، فأخذ مني درهمين، وحفر قبراً.
فلما صوبت عليه الجنازة، ليأخذ الميت فيدفنه، وثب الحفار من القبر فلطمني، وجعل عمامتي في رقبتي، وصاح: يا قوم قتيل، فاجتمع الناس، فسألوه.
فقال: هذا الرجل، جاء بهذا الميت، بلا رأس، لأدفنه، وحل الكفن، فوجدوا الأمر على ما قاله الحفار.
فدهشت، وتحيرت، وجرى علي من مكروه العامة، ما كادت نفسي تتلف معه.
ثم حملت إلى صاحب الشرطة، وأخبر الخبر، فلم يرد شاهداً علي، فجردت للسياط، وأنا ساكت باهت.
وكان له كاتب عاقل، فحين رآني، ورأى حيرتي، قال له: أنظرني، حتى أكشف حال هذا الرجل، فإني أحسبه مظلوماً، فأمهله.
فقام، وخلا بي، وساءلني، فأخبرته خبري، ولم أزد فيه ولم أنقص.
فنحى الميت عن الجنازة، وفتشها، فوجد عليها مكتوباً: أنها للمسجد الفلاني، في الناحية الفلانية.
فأخذ معه رجاله ومضى، فدخل المسجد متنكراً، فوجد فيه خياطاً، فسأله عن جنازة هناك، كأنه يريد أن يحمل عليها ميتاً له.
فقال الخياط: للمسجد جنازة، إلا أنها قد أخذت منه الغداة، لحمل ميت، ولم ترد.
قال: من أخذها ؟.
قال: أهل تلك الدار، وأومأ إليها.
فكبسها الكاتب برجالة الشرطة، فوجد رجالاً عزاباً، فقبض عليهم، وحملهم إلى الشرطة، وأخبر صاحب الشرطة بالخبر.
وقرر القوم، فأقروا أنهم تغايروا على غلام أمرد كان معهم، فقتلوه، وطرحوا رأسه في بئر حفروها في الدار، وحملوه على تلك الصورة، وأن الحمالين كانا من جملة القوم، وعلى أصلٍ هربا.
فضربت أعناق القوم، وخلي سبيلي.
فهذا سبب يميني في ألا أحضر جنازة.

ابن قمير الموصلي وقع في ورطة وتخلص منها

وحدثني عبيد الله بن محمد الصروي، قال: حدثني ابن قمير، مجلد الكتب - كان - بالموصل، قال: أعطاني أبو عبد الله بن أبي العلاء بن حمدان، دفتراً، أجلده، وأكد علي الوصية في حفظه، فأخذته منه، ومضيت إلى دكاني.
وكان طريقي على دجلة، فنزلت إلى مشرعة أتوضأ، فسقط الدفتر من كمي في الماء، فتناولته عجلاً قبل أن يغرق، وقد ابتل، فقامت قيامتي، ولم أشك أنه سيجري علي مكروه شديد من أبي عبد الله، من ضرب، وحبس، وأخذ مال، فعملت على الهرب من الموصل.
ثم قلت: أجففه، وأجلده، وأجتهد في أن أسلمه إلى غلام له، وهو لا يعلم، واستتر، فإن ظهر الحديث، هربت، وإن كفى الله تعالى ذلك، وتمت عليه الحيلة ظهرت.
فحللته، وجففته، وثقلته، حتى رجع واستوى، أكثر ما يمكن من مثله، وجلدته، وتأنقت في التجليد.
فلما فرغت منه، جئت إلى الحاجب لأسلمه إليه من باب الدار وأمضي، فصادفت الحاجب جالساً في الدهليز، فسلمت إليه الدفتر.
فقال: ادخل إليه، وادفعه من يدك إلى يده، فلعله يتوقعك، ولعله يأمر لك بشيء.
فقلت: لا أريد، فإني مستعجل.
فقال: لا يجوز، ولم يدعني حتى دخلت إليه، فلم أشك أن ذلك من سوء الاتفاق علي، المؤدي إلى المكروه، ومشيت في الصحن وأنا في صورة عظيمة من الهم.
فوجدت أبا عبد الله جالساً على بركة ماء في صحن داره، والغلمان قيام على رأسه، فأخرجت الدفتر من كمي.
فقال لأحد غلمانه: خذه من يده، وهاته.
فجاء الغلام من جانب البركة، وأنا من الجانب الآخر، ومد يده ليأخذه، فأعطيته إياه، فلم يتمكن في يده، حتى سقط الدفتر في البركة، وغاص إلى قعرها.
فجن أبو عبد الله، وشتم الغلام، وقال: مقارع، مقارع.
فحمدت الله عز وجل، على استتار أمري من حيث لا أحتسب، وكفايتي ما كنت أخافه.
وخرجت، والغلام يضرب.
واسطي أتلف ماله وافتقر ثم صلح حاله بعد أهوال

حدثني عبيد الله بن محمد الصروي، قال: حدثني أبي، قال: كان في جوارنا بواسط، شاب أتلف ماله في اللعب، فافتقر فقراً شديداً، ثم رأيته بعد ذلك بمدة، وقد أثرى، وصلحت حاله، وأقبل على شأنه.
فقلت له: ما سبب هذا ؟، فدافعني.
ثم قال: أحدثك، وتكتم علي ؟.
فقلت: نعم.
فقال: إن الفقر بلغ بي إلى حال تمنيت معها الموت، وولدت امرأتي ذات ليلة، وكانت ليلة العيد، فلم يكن معي ما أشتري لها ما يمسك رمقها، فخرجت على وجهي، أطلب من أتصدق منه شيئاً أعود به إلى امرأتي.
فأفضيت إلى زقاق طويل لا أعرفه، فدخلت، فإذا هو لا ينفذ، وإذا فيه باب دار مفتوح، ومستراح.
فدخلت الدار بغير إذن، فإذا برجل يطبخ قدراً، فصاح علي، وقال: من أنت، ويلك ؟، فقصصت عليه خبري.
فقال: إمض إلى ذلك البيت، واجلس إلى أن أفرغ من القدر، فأعطيك منها مع الخبز شيئاً تحمله إلى امرأتك، ونفقة تكفيك أياماً.
فدخلت البيت، فرمى إلي كساءً، وقال: تغط به، ونم ساعة.
وكانت ليلة باردة، وكنت بقميص واحد، فتغطيت بالكساء، وانضجعت، ولم يدخل عيني النوم، لما بي من الجوع والغم.
فما لبثت أن جاء رجل عريان، فدخل وعلى رأسه شيء ثقيل، فقام الذي يطبخ، فأغلق الباب، وأنزل ما كان على رأسه.
وقال له: ويلك، غبت، حتى أيست منك.
فقال: كنت يومي وليلتي، مختبئاً خلف حطب لهم، حتى تمكنت من أخذ هذه البدرة، وما أدري أدنانير هي أم دراهم ؟، وأنا ميت جوعاً، فأطعمني شيئاً.
قال: فأخذ الرجل يغرف من القدر، ومضى العريان فلبس شيئاً، وجاء إلى الآخر، وقد غرف، فجعلا يأكلان، وقد خرجت نفسي فزعاً.
فلما أكلا، أخرجا شراباً، وجعلا يشربان، وأنا متحير لا أدري ما أصنع، ولست أجتريء أطلب من الرجل شيئاً.
وأقبل العريان يشرب أكثر من الآخر الذي كان يطبخ، وجعل الذي كان يطبخ، يقول له: استكثر من الشرب لتدفأ، إلى أن سكر العريان، ونام.
فقام الأول، فطاف في الدار، ثم جاءني، فكلمني، فسكت، خوفاً من أن يعلم أني قد علمت بقصتهما، فيقتلني، فظن أنني قد نمت.
فمضى إلى النائم، فذبحه، ثم أمسكه حتى مات، ثم لفه في كساء، وحمله على عاتقه، وخرج من الدار.
فقلت لنفسي: لأي شيء قعودي ؟.
فقمت، فجئت إلى البدرة، فجعلتها في الكساء الذي كان علي، وخرجت أسعى سعياً شديداً.
فلم أزل كذلك، حتى رأيت مسجداً قد فتحه إنسان، وخرج منه، وجلس يبول، فدخلته، وجاء الرجل الذي كان يبول، فدخله، وأغلق بابه.
وقال لي: أي شيء أنت ؟.
فقلت: غريب، جئت الساعة من السواد، ولم أجسر أن أتجاوز هذا الموضع، فأجرني، أجارك الله.
فقال: نم مكانك، فتركت البدرة تحت جنبي واتكأت عليها.
فلم ألبث حتى سمعت في الطريق صوت رجل يسعى سعياً شديداً، وإذا كلام صاحبي بعينه، وهو يقول: عملها ابن الزانية، ويلي على دمه.
فأبصرته من شباك المسجد، وإذا في يده خنجر مجرد، وهو يتردد ذاهباً وجائياً، وأعماه الله عن دخول المسجد، إلى أن مضى.
ولم أزل ساهراً لا يحملني النوم، خوفاً منه، وإشفاقاً على ما معي، إلى أن أضاء الصبح، وأذن في المسجد.
وخرجت كأني أتوضأ، وحملت ما معي، ومشيت، والناس قد كثروا في الطريق، حتى انتهيت إلى بيتي، فأخفيت ما جئت به، وأصلحت حالي، وحال زوجتي.
ثم خرجت إلى ضيعة - كانت لأبي - خراب، فأقمت بها مدة، حتى عمرتها بأكثر ذلك المال، وعلمت أنه لا يتفق مثل هذا الاتفاق أبداً، ولزمت شأني، وصلحت حالي.
قال: فقال أبي: ما حدثت بهذا الحديث حتى مات الرجل، ولا أسميه أبداً.

اللجاج شؤم

حدثني أبو الحسن محمد بن محمد بن جعفر الأنباري الشاهد ببغداد، أحد كتاب قضاتها، وخلفائهم، ويعرف أيضاً بصهر القاضي ابن سيار، الذي كان يخلف القاضي أبا القاسم التنوخي، رحمه الله، على أعمال نواحي واسط، وكور الأهواز، وخلف بعده عدة قضاة رؤساء، وكان من شيوخ غلمان أبي الحسن الكرخي، وقد رأيت أنا أبا الحسن هذا كثيراً عند أبي رضي الله عنه، ولم أسمع هذا الحديث منه، قال: حدثني شيخ من البصريين، أثق به، قال: عادلت فلاناً القاضي - ذكره ابن مرغول رحمه الله، وأنسيه محمد بن محمد - إلى الحج.
قال: وتشاجر رجلان، في الرفقة التي كنا فيها من القافلة.

قال: وجذبهما ذلك القاضي إليه، ولم يزل يتوسط بينهما ويترفق بهما، وقد استعمل كل واحد منهما اللجاج والمشاحنة، وأقاما عليها، وهو يصبر عليهما، ويقول: اللجاج شؤم، فلا تستعملانه ويكرر هذه اللفظة، إلى أن فصل بينهما.
فقال لي: أذكرني حديثاً في اللجاج، جرى على يدي، لك فيه، ولكل من سمعه، أدب.
قال: فأذكرته بعد وقت.
فقال: كنت أتولى القضاء، في البلد الفلاني، فتقدم إلي رجلان، فادعى أحدهما على الآخر عشرين ديناراً.
فقلت للمدعى عليه: ما تقول ؟.
فقال: له علي ذلك، إلا أني عبد لآل فلان، مكاتب، مأذون لي في التصرف، واتجرت، فخسرت، وليس معي ما أعطيه، وقد عاملني هذا الرجل سنين كثيرة، وربح علي أضعاف هذه الدنانير مراراً، فإن رأى القاضي أن يسأله الرفق بي، فإني عبد، وضعيف، ولا حيلة لي.
فسألته أن يرفق به، ويؤخره، فامتنع.
فقلت: قد سمعت.
فقال: ما لي حيلة.
فقال الرجل: احبسه لي.
فعاد العبد يسألني، فسألته أن لا يفعل، وبكى العبد، فرققت له، وسألت خصمه أن لا يحبسه، وأن ينظره.
فقال: لا أفعل.
فقال العبد: إن حبسني أهلكني، ووالله ما أرجع إلى شيء، وإنه ليضايقني، ويلج في أمري، وقد انتفع مني بأضعاف هذه الدنانير، وورث منذ أيام من أخي ألوف دنانير، فأشير علي بمنازعته إلى القاضي في الميراث، فلم أفعل.
قال: فحين قال ذلك، توجه لي وجه طمع في خلاصه من لجاج ذلك الغريم، وقد كان غاظني بلجاجه ومحكه.
فقلت: كيف ورث أخاك، وأردت منازعته ؟.
فقال: إن أخي كان عبداً له، مأذوناً له في التصرف، وكان يتجر ويتصرف، ويؤدي إليه ضريبته، وجمع مالاً وأمتعةً، بأكثر من ثلاثة آلاف دينار، ثم مات، ولم يخلف أحداً غيري، وأنا رجل ضعيف، مملوك، ولي ابنان طفلان من أمرأة حرة، وهما حران، فأنا أعولهما، وأعول نفسي، وزوجتي، وأؤدي إلى مولاي ضريبته فطمعت في أن أنازعه في الميراث، وآخذ شيئاً أعود به على نفسي، وأولادي، وعيالي، فقيل لي: إنك لا ترث، فلم أحب منازعته، صيانة له، وهو الآن يضايقني.
قال: فقلت للرجل: هو كما قال، إن أخاه كان عبدك، ومات، وخلف عليك تركة قيمتها ثلاثة آلاف دينار ؟.
قال: نعم.
فقلت له: ولهذا العبد طفلان حران ؟.
قال: نعم.
فقلت: قم، فأخره بالدنانير ولا تطالبه بها.
فقال: ما أبرح إلا بالدنانير، أو بحبسه.
فقلت: اقبل رأيي، ولا تلج.
فقال: لا أفعل.
فقلت: إنك متى لم تفعل، خرج من يدك مال جليل.
فقال: لا أفعل.
قال: فقلت للعبد: قد أذنت لك أن تتكلم عن ابنيك الطفلين، وهما - على مذهب عبد الله بن مسعود، وهو مذهبي - أحق بالميراث من مولاه، وإن كنت أنت حياً، فإنك بمنزلة الميت للعبودية، فطالبه عن ابنيك الحرين الطفلين بالتركة.
قال: فطالبه بها.
فأحضرت الشهود، فأعاد الخصومة، والدعوى، ولم أزل بالمولى، حتى أسمعت الشهود إقراره بما كان أقر به عندي، ثم حكمت للإبنين الطفلين بالتركة، وانتزعت جميعها من يده، وسلمت إليه منها عشرين ديناراً، لما أقر له العبد به، وجعلت ذلك ديناً عليه لابنيه.
وسلمت مقدار ثمن العبد، من مال الطفلين، إلى أمين من أمنائي، وقلت: اشتر أباهما من مولاه بهذه الدنانير، واعتقه عليهما، ففعل.
وجعلت باقي مال الطفلين في يد أبيهما، وأمين جعلته عليه مشرفاً، وأمرت الأب أن يتجر لهما بالمال، ويأخذ ثلث الربح، بحق قيامه، وحكمت بالجميع، وأشهدت على إنفاذي الحكم له الشهود.
فقام العبد، وهو فرحان، وقد فرج الله عنه، وآمنه أن يحبس، وعتقت رقبته، وصار موسراً.
وقام اللجوج خاسراً حائراً، وقد أخذ عشرين ديناراً، وأعطى ثلاثة آلاف دينار.

ابن الجصاص الجوهري يلتقط جواهره المبعثرة لم يفقد منها شيئا

ً
حدثني أبو علي بن أبي عبد الله بن الجصاص، قال: سمعت أبي يقول: إتفق أني كنت يوم قبض علي المقتدر جالساً في داري، وأنا ضيق الصدر، ضيقاً شديداً، لا أعرف سببه.
وكان من عادتي إذا لحقني مثل ذلك، أن أخرج جواهر عندي في درج معزولة لهذا، من ياقوت أحمر، وأزرق، وأصفر، وحباً كباراً ودراً فاخراً، يكون قيمة الجميع خمسين ألف دينار، وأكثر، وأستدعي صينية ذهب لطيفة، فأجعله فيها، وألعب به، وأقلبه، فيزول ضيق صدري.

فاستدعيت ذلك الدرج، فجاءوني به بلا صينية، فأنكرت ذلك، وأمرت بإحضارها، وفتحت الدرج، وفرغت ما فيه في حجري، ورددته على الخادم، وأنفذته يجيئني بالصينية، وأنا جالس في بستان، في صحن داري، في يوم بارد، طيب الشمس، وهو مزهر بصنوف الشقائق، والمناثير، وأنا ألعب بتلك الجواهر، إذ دخل الناس إلي بالصياح، والمكروه، والكبس، فقربوا مني.
فدهشت، ولم أحب أن يظهروا على ما في حجري، فنفضت جميعه في ذلك الزهر في البستان، ولم ينتبهوا له.
فأخذت، فحملت، وجرى علي ما جرى من المصادرة، وبقيت في الحبس المدة الطويلة، وتقلبت الفصول على البستان، فجف ما فيه، ولم يفكر أحد في قلعه، أو زراعته، وإثارته، وأغلقت الدار، فما قربها أحد من أصحابي، ولا أعدائي، بعد الذي أخذ منها، وفرغت، ووقع اليأس من وجود شيء فيها.
ثم سهل الله إطلاقي، فأطلقت، فحين جئت إلى داري، ورأيت الموضع الذي كنت جالساً فيه ذلك اليوم، ذكرت حديث الجوهر الذي كان في حجري، ونفضي إياه في البستان.
فقلت: ترى بقي منه شيء ؟.
ثم قلت: هيهات، هيهات، وأمسكت.
فلما كان في الغد، أخليت الدار، وقمت بنفسي ومعي غلام يثير البستان بين يدي، وأنا أفتش شيئاً، شيئاً، مما يثيره، وأجد الواحدة بعد الواحدة، من ذلك الجوهر، وكلما وجدت شيئاً، حرصت على الإثارة، وطلب الباقي، إلى أن أثرت جميع البستان، فوجدت جميع ذلك الجوهر، ما ضاع لي منه واحدة.
فأخذته، وحمدت الله، وعلمت أنه قد بقيت لي بقية من الإقبال صالحة.
الوزير ابن مقلة ينكب رجلاً ثم يحسن إليه
حدثني أبو محمد يحيى بن سليمان بن فهد رحمه الله، قال: حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن الخباز، قال: كان أبو علي بن مقلة، نكبني، وصادرني، لشيء كان في نفسه علي، فأفقرني، حتى لم يدع لي شيئاً على وجه الأرض.
وأطلقني من الحبس، فلزمت بيتي حزيناً، فقيراً، يتعذر علي القوت.
ثم لم أجد بداً من الاضطراب في معاشي، فأشير علي أن ألزم ابن مقلة، وأستعطفه، وقيل لي إنه إذا نكب إنساناً فخدمه، رق عليه.
قال: فلزمته مديدة، لا أراه يرفع إلي رأساً، ولا يذكرني.
قال: وكان يعرفني بحسن الثياب ونظافتها، والتفقد في أمر نفسي، أيام يساري.
واتفق أني حضرت داره في يوم جمعة، غدوة، ولم أكن دخلت الحمام قبل ذلك بأسبوع، ولا حلقت شعري، ولا غيرت ثيابي، وأنا وسخ الجسد والثياب، طويل الشعر، وإنما أخرت ذلك لإضاقتي عن مقدار ما أحتاج إليه، ولشغل قلبي أيضاً، وغمي بالفقر المدقع الذي دفعت إليه، وهوان نفسي علي.
فخرج ابن مقلة ليركب، فقمت إليه في جملة الناس، فدعوت له.
فحين رآني، تأملني طويلاً، ثم أومأ إلى خادم له بكلام لا أفهمه، وركب.
فجاءني الخادم، فقال: الوزير يأمرك أن لا تبرح من الدار، إلى أن يعود، وأخذني إلى حجرة، فأجلسني فيها.
فقامت قيامتي، وخفت أن يكون قدر أن تكون لي بقية حال، ويريد الرجوع علي بالمطالبة، وليس ورائي شيء، فأتلف.
فتداخلني من الجزع أمر عظيم، وحصلت في شدة كانت أشد علي مما مر بي، فلم يكن بأسرع من أن عاد.
فجاءني الخادم، فقال: قم إلى الوزير، فقد طلبك.
فجئت، حتى دخلت عليه، وهو خال وحده، وليس بين يديه غير أبي الحسين، ابنه، فرحب بي، وأكرمني، ورأيت من بره ما زال عني معه الخوف.
ثم قال: يا أبا علي، أعرفك نظيف الثوب، حسن القيام على نفسك، فلم أنت بهذه الصورة ؟.
قال: ففطنت أنه لما رآني على صورتي تلك، رق لي.
فقلت: أيها الوزير، لم يبق لي - والله - حال، وإنه ليتعذر علي ما أغير به هذا المقدار من أمري، وفتحت أبواب الشكاية، إلى أن بكيت.
فقال: إنا لله، إنا لله، ما ظننت أن حالك بلغت إلى هذا، ولقد أسأنا إليك.
قال: ثم مد يده إلى الدواة، فكتب لي على الجهبذ، بألف دينار صلة، ووقع توقيعاً آخر، بأن أبايع ضيعة من البيع بألفي دينار، بحيث أختار ذلك، ثم قال: خذ هذه الدنانير فاتجر بها، وأصلح منها حالك، وابتع بهذه الألفي دينار ضيعة من المبيع، تغل لك ألف دينار في السنة، واخترها، وشاور فيها، فإذا وقع اختيارك عليها، فأسمها لي، لأكتب بمبايعتك إياها، لتستكفي بغلتها سنتك، إلى أن أنظر لك بعد هذا، فأرد جاهك، فشكرته ودعوت له، ونهضت.
فقال: قف، فوقفت.

فقال لابنه أبي الحسين: بحياتي عليك، عاون أبا علي حتى يحصل له هذا كله في أسبوع، وفي دفعة واحدة، ولا ينمحق عليه.
قال: فوعدني أبو الحسين بذلك، وأمرني بالمصير إليه، فانصرفت.
ورحت إلى أبي الحسين، فأعانني، فحصل ذلك كله لي في أيام قليلة، وحصلت لي الضيعة، فاستغللتها في تلك السنة ألف دينار.
ولزمت أبا علي، فعوضني بمكاسب جليلة، عاد إلي منها أكثر مما خرج عن يدي بنكبته.

إبن عبدون الأنباري الكاتب يكسب في ليلة واحدة مائة ألف دينار

قال محمد بن عبدوس في كتاب الوزراء: حكي عن محمد بن خلف، المعروف بابن عبدون الأنباري الكاتب، إنه قال: بينما أنا يوماً أدرج في بعض سكك المدينة، وكانت حينئذ لا يدخلها راكباً إلا من له نباهة، إذ سمعت خلفي وقع حوافر، فنظرت فإذا يوسف بن الوليد الأنباري، وكانت بيني وبينه مودة وقرابة، فلم أسلم عليه.
فقال لي: من أين يا أبا عبد الله ؟.
فقلت: إني كسرت هذه السنة ثلاثة آلاف فرسخ، وانصرفت وأنا سبروت.
فقال لي: ثلاثة آلاف فرسخ ؟.
قلت: نعم، مضيت إلى مصر، فأخفقت، ثم مضيت إلى فارس، ثم إلى كرمان، ثم إلى خراسان، وانقلبت إلى أذربيجان، وانصرفت بغير شيء، وأنا أتمنى أن يهب الله تعالى قوتاً، فأتمونه في بلدي.
فقال لي: كم يكفيك من الرزق ؟.
فقلت: إن كان في بلدي، فخمسة عشر ديناراً في كل شهر، أتقوت بها أنا وعيالي، وهو ما لا فضل فيه لشهوة ولا نائبة.
فقال: كن معي.
فاتبعته، فصار بي إلى ديوان فيه كتاب، وحجرة لطيفة، فدخلتها، فإذا في صدرها الفضل بن مروان، وهو يكتب حينئذ للمعتصم، وهو أمير، فوصفني للفضل، ورغبه في استخدامي، فرمى إلي الفضل بكتاب.
وقال: أجب عنه بما يجب.
فاستعلمت منه الدعاء، وأجبت الرجل عن الكتاب، وعرضته عليه، فرضي خطي، ولفظي.
وقال لي: كم يكفيك في كل شهر من الرزق ؟.
فقال له يوسف: الذي ذكر إنه يقنعه خمسة عشر ديناراً في كل شهر.
فقال: هذا قوت، ولا بد من استظهار لنائبة، ولكن قد جعلتها ثلاثين ديناراً في كل شهر، فقبلت يده.
فقال: الزمني ليلك ونهارك، طلبتك أم لم أطلبك، فإن الملازمة رأس مال الكاتب.
قال: فلزمته كما رسم.
وكان صالح بن شيرزاد، يخلفه في دار المعتصم، وقد استولى على المعتصم بحيلته، وتلطفه، على حمارية كانت فيه، وكره ذلك الفضل بن مروان، واجتهد في قلعه، فلم يتمكن.
فقال لي يوماً، ما في نفسه من ذلك، وقال: أنا أحب أن أجعلك مكانه، إلا أني أتخوف أن تسلك مسلكه، فهل فيك خير ؟.
فقلت: قد عرفت أخلاقي وطبعي، فإن كنت عندك ممن يصلح للخير، وإلا فلا تثق إلي.
فكان في هذا التدبير، حتى حدث أمر القبط بمصر، فندب المأمون أخاه أبا إسحاق، لمحاربتهم، في سنة اثنتي عشرة ومائتين.
فخرج أبو إسحاق إلى مصر، ومعه الفضل بن مروان، واستخلف صالح بن شيرزاد بحضرة المأمون، فيما لا يضره أن يغلب عليه، وسله عن المعتصم، وجعلني مكانه، وشخصنا.
فكسبت مع المعتصم، في ليلة واحدة، مائة ألف دينار حلالاً طيباً، وذلك إن القتل كثر في أهل مصر، وجلا الباقون، وأشرف البلد على الخراب.
وشق ذلك على المأمون، وأنكره على أبي إسحاق، إنكاراً شديداً، فكان فيما رآه، تسكين الناس، وردهم إلى مصر.
فوردت علي في يوم واحد، كتب جماعة من رؤساء البلد، يسألون الأمان لهم.
فقلت للفضل في ذلك.
فقال: أجبهم إلى ما التمسوا، وأجب كل من سأل مثل ذلك.
فكتبت في ليلة، لمائة رجل، أماناً، فظهروا، وبعث إلي كل واحد منهم، من ثلاثة آلاف دينار، إلى ألف دينار، إلى خمسمائة دينار، وبعضهم لم يبعث إلي شيئاً.
فحصلت ما اجتمع لي، فكان مائة ألف دينار، وأحييت مائة إنسان، وفرجت عنهم، وعن أتباعهم، ومن يلوذ بهم، وكشفت كربة عظيمة عن أبي إسحاق.
الفضل بن سهل ومسلم بن الوليد الأنصاريأخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني، قال: أخبرني حبيب ابن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن سليمان، عن أبي الخطاب الأزدي، قال: كان مسلم بن الوليد، والفضل بن سهل، متجاورين في قنطرة البردان، وكانا صديقين.
قال مسلم: فأعسرت إعساراً شديداً، ولحقتني محنة، وولي الفضل بن سهل الوزارة بمرو، فتحملت إليه على مشقة.
فلما رآني رحب بي وأدناني، وقال: ألست القائل ؟

فأجر مع الدّهر إلى غاية ... ترفع فيها حالك الحال
فقلت: نعم.
قال: صرنا إلى هذه الحال، وصرت بنا إليها، وأمر لي بثلاثين ألف درهم، وولاني عملاً اخترته.
فانصرفت عني المحنة التي كنت أعانيها، وحصلت لي نعمة طائلة.
قرئ على أبي بكر الصولي وأنا أسمع، في كتابه، كتاب الوزراء، بالبصرة، في سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، حدثكم أحمد بن يزيد المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، فذكر بإسناده نحوه، إلا أنه ذكر في الشعر زيادة أربعة أبيات، لا تتعلق بكتابي هذا فأذكرها، وذكر أن الفضل ولى مسلماً بريد جرجان.

كيف طهر عثمان بن حيان المري المدينة من الغناء

أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي مصعب، عن عبد الرحمن بن المغيرة الحرامي الأكبر، قال: لما قدم عثمان بن حيان المري المدينة والياً عليها، قال له قوم من وجوه الناس: قد وليت المدينة على كثرة من الفساد، فإن كنت تريد أن تصلح، فطهرها من الغناء والزناء.
فصاح في ذلك، وأجل أهله ثلاثاً، يخرجون فيها من المدينة.
وكان ابن أبي عتيق غائباً، وكان من أهل الفضل والعفاف والصلاح، فلما كان في آخر ليلة من الأجل، قدم.
فقال: لا أدخل منزلي حتى أدخل على سلامة القس.
فقال لها، وقد دخل عليها: ما دخلت منزلي، حتى جئتكم أسلم عليكم.
قالوا: ما أغفلك عن أمورنا، فأخبروه الخبر.
فقال: اصبروا لي الليلة.
فقالوا: نخاف أن لا يمكنك شيء، ونؤذى.
فقال: إن خفتم شيئاً، فاخرجوا في السحر.
ثم خرج، واستأذن على عثمان بن حيان، فأذن له، فسلم عليه، وذكر غيبته، وأنه جاء ليقضي حقه، ثم جزاه خيراً على ما فعل من إخراج أهل الغناء والزناء.
وقال: أرجو أن لا تكون عملت عملاً، هو خير لك من ذلك.
قال عثمان: قد فعلت ما بلغك، وأشار علي به أصحابك.
قال: قد وفقت، ولكن ما تقول يرحمك الله في امرأة كانت هذه صناعتها، ثم تركتها، وأقبلت على الصيام والصدقة والخير، وإني رسولها إليك تقول: أتوجه إليك، وأعوذ بك أن تخرجني من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مسجده.
فقال: إني أدعها لك ولكلامك.
فقال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك، وتسمع كلامها، وتنظر إليها، فإن رأيت أن مثلها يسع أن تترك، تركتها.
قال: نعم.
فجاءه بها، وقال لها: احملي معك سبحة، وتخشعي، ففعلت.
فلما دخلت على عثمان، حدثته، فإذا هي من أعلم الناس بأمور الناس، فأعجب بها، وحدثته عن آبائه وأمورهم ففكه لذلك.
فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، فقرأت.
فقال لها: احدي له، ففعلت، فكثر عجبه بها.
فقال: كيف لو سمعتها في صناعتها، فلم يزل ينزله شيئاً شيئاً، حتى أمرها بالغناء، فقال لها ابن أبي عتيق، غني:
سددن خصاص البيت لما دخلنه ... بكلّ لبان واضح وجبين
فغنته، فقام عثمان بن حيان، فقعد بين يديها، ثم قال: لا والله، ما مثل هذه تخرج.
فقال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، يقولون أقر سلامة، وأخرج غيرها.
فقال: دعوهم جميعاً، فتركوهم.
وأصبح الناس يتحدثون بذلك، يقولون: كلم ابن أبي عتيق الأمير في سلامة القس، فتركوا جميعاً.
أضاع كيسه واستعاده بعد سنةأخبرني محمد بن الحسن بن المظفر، الكاتب اللغوي، المعروف بالحاتمي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد، قال: أخبرنا ثعلب، قال: أخبرنا عمر بن شبه، قال: حدثني سعيد بن عامر، قال: حدثنا هشام بن خالد الربعي، قال: دخلت المسجد، ومعي كيس فيه ألف درهم، لا أملك غيره، فوضعته على ركن سارية، وصليت، ثم ذهبت ونسيته.
فكربني أمره، وفدحت حالي لفقده، فما حدثت بذلك أحداً سنة، وجهدني الضر.
قال: فصليت من بعد ذلك، إلى تلك السارية، ودعوت الله، وسألته رده علي، وعجوز إلى جانبي تسمع قولي.
فقالت: يا عبد الله ما الذي أسمعك تذكر ؟.
قلت: كيساً أنسيته على هذه السارية عام أول.
قالت: هوذا عندي، وأنا منذ سنة أراقبك، فجاءت به بخاتمه.
عبد الله بن الزبير يطالب بني هاشم بالبيعة أو يضرب أعناقهمأخبرني محمد بن الحسن بن المظفر، المعروف بالحاتمي، قال: أخبرني عيسى بن عبد العزيز الطاهري، قال: أخبرني الدمشقي، عن الزبير بن بكار، قال:

جمع عبد الله بن الزبير بني هاشم بمكة، وقال: لا تمضي الجمعة حتى تبايعوا، أو آمر بضرب أعناقكم.
فنهض إليهم قبل الجمعة يريد قتلهم، فناشده المسور بن مخرمة الزهري أن يدعهم إلى الوقت الذي وقت لهم، وهو يوم الجمعة، ففعل.
فلما كان يوم الجمعة، دعا محمد بن الحنفية رضي الله عنه خادماً له بغسل وثياب، وهو لا يشك في القتل.
وقد كان المختار بن أبي عبيد بعث أبا عبد الله وأصحابه إليهم، فجاءهم الخبر بحال محمد بن الحنفية، وما دفع إليه من ابن الزبير، وقد نزلوا ذات عرق، فتخلل منهم سبعون رجلاً حتى وافوا مكة صبيحة يوم الجمعة، فشهروا السلاح، ونادوا يا محمد.
فبلغ الخبر ابن الزبير، فراعه، وتخلص محمد رضي الله عنه، ومن كان معه، وأرسل محمد، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فنادى في القوم الذين أنفذهم المختار: من كان يرى لله تعالى عليه حقاً، فليستأمر نفسه، فإنه لا حاجة لي بأمر الناس له كارهون، وأنا إن أعطيتها عفواً قبلتها، وإن كرهوا ذلك لم أختره.
فبعث ابن الزبير إلى محمد: إني أصالحك على أن تتنحى عني، فتلحق بأيلة، فأجابه إلى ذلك، ولحق بأيلة.
وكف الله تعالى ابن الزبير، وقبض يده عما حاوله من قتله، وقتل أهل بيته.

عاقبة الظلم

وجدت في بعض الكتب: حدث علي بن المعلى، عن الزهري البصري، قال: كنا جلوساً عند أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، وذكر حديثاً فيه: أن أبا عبد الله قال: إن قوم سدوم، هلكوا بمجوسي.
قيل: ما سبب ذلك ؟.
قال: أما تعرفون بالبصرة عندكم جسراً، يقال له: جسر الخشب ؟.
قلنا: بلى.
قال: ذاك جسر سدوم، جاءه رجل مجوسي، ومعه زوجته حاملاً، راكبة حماراً، تريد العبور، فمنعوها إلا أن يأخذوا خمسة دراهم، فأبيا أن يعطيا ذلك، فطلبوا منهما عشرة دراهم، فأبيا أن يعطيا ذلك، فشمصوا الحمار، وقطعوا ذنبه، فاضطربت المرأة، فأسقطت جنينها، فاشتدت بالمجوسي محنته.
وقال: إلى من نتظلم فيما فعل بنا ؟.
فقيل: إلى صاحب هذا القصر.
فدخل إليه، وقال: فعل بي كيت وكيت.
قال: لا بأس، ادفع إليهم حمارك، يعملوا عليه إلى أن ينبت ذنبه، وادفع إليهم زوجتك، حتى يطؤوها إلى أن تحمل.
فرفع المجوسي رأسه إلى السماء، وقال: اللهم، إن كان هذا حكم من عندك، وأنت به راض، فأنا به أرضى، وأرضى.
فبعث الله إليه ملكاً من الملائكة، فأخذ بعضده، وعضد زوجته، فعبر بهما الجسر.
فقال له: يا عبد الله من أنت ؟ فلقد مننت علي.
قال: أنا ملك من الملائكة، لما أن قلت: أللهم إن كان هذا حكم من عندك، وأنت به راض، فأنا أرضى وأرضى، بعثني الله لأخلصك، فالتفت إلى القوم، وانظر ما أصابهم.
فالتفت المجوسي، فإذا القوم قد خسف بهم.
دواء عجيب وضعه الطبيب للكاتب زنجيأخبرني علي بن نصر بن فنن، الكاتب النصراني: أن أبا عبد الله زنجي الكاتب، سرق منه مال جليل، وكان شديد البخل، فناله غم شديد، حتى أنحل جسمه، واجتهد في صرف الهم والغم عنه، فلم يجد إلى ذلك سبيلاً.
فشاور الأطباء في ذلك، وعملوا له أشياء وصفوها له، فما نجعت، إلى أن استشار علي بن نصر، الطبيب النصراني، جده، وكان يطب زنجي ويلزمه، فأشار عليه أن يصوغ إهليلجة من ذهب، ويمسكها في فيه.
ففعل ذلك، فلم تمض إلا أيام، حتى زال غمه، وعاد إلى صحة جسمه.
يا غياث المستغيثين أغثنيوجدت في بعض الكتب: حكي أن رجلاً خرج في وجه شتاء، فابتاع بأربعمائة درهم، كان لا يملك غيرها، فراخ الزرياب للتجارة.
فلما ورد دكانه ببغداد، هبت ريح باردة، فأماتتها كلها إلا فرخاً واحداً، كان أضعفها وأصغرها، فأيقن بالفقر.
فلم يزل يبتهل إلى الله تعالى ليلته أجمع بالدعاء والاستغاثة، ويسأله الفرج مما لحقه، وكان قوله: يا غياث المستغيثين، أغثني.
فلما انجلى الصبح، زال البرد، وجعل ذلك الفرخ الباقي ينفش ريشه، ويقول: يا غياث المستغيثين، أغثني.
فاجتمع الناس على دكان الرجل، يرون الفرخ، ويسمعون الصوت.
فاجتازت جارية راكبة، من جواري أم المقتدر، فسمعت صوت الطائر، ورأته، واستامته، وتقاعد الرجل، فاشترته بألفي درهم، وأعطته الدراهم، وأخذت الطائر.
قصة سلمة الأنباري النصرانيوجدت في بعض الكتب:=
 

ج4. : الفرج بعد الشدة القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي

كان بسر من رأى، ثلاثة إخوة نصارى أنباريون، أحدهم موسر، ولم يسم، والثاني متجمل، يقال له عون، والثالث، يقال له سلمة، فقير، فآل أمر سلمة فيما يكابده من شدة الفقر، إلى أن تعذر عليه قوت يومه.

فمضى إلى أخيه عون، وسأله أن يتلطف إلى أخيه الموسر، في أن يشغله فيما يعود عليه نفعه، ويخدمه فيه، بدلاً من الغريب.
فامتنع الأخ الموسر من ذلك، وعاوده دفعات، واستعطفه، وضره يتزايد.
فقال الموسر، على سبيل الولع: إن شاء أن أصيره مكان الشاكري، وصبر على العدو، فعلت.
فعرض عون على سلمة ذلك، فقال سلمة: ما عرض أخونا علي هذا إلا لأمتنع، ويجعله حجة، وأنا أستجيب إليه وأصبر، وأرجع إلى الله تعالى، في كشف الحال التي أكون فيها معه، وأرجو الفرج ببغيه علي، ولا أضع نفسي بمسألة الناس، ففعل ذلك.
فكان أخوه يركب، وهو يمشي في أثره بطليسان ونعل، حتى لا يظهر أنه غلامه، وإذا نزل في موضع، لحقه، وأخذ ركابه، وتسلم المركوب، وحفظه إلى أن يخرج.
فلم يزل على هذا، إلى أن طلب وصيف الكبير، رفيق بغا، من يجلسه بباب داره، فيكتب ما يدخل إلى المطبخ، من الحيوان، والحوائج، ليقايس به ما يحتسب عليه.
فوصف عون، أخاه سلمة، لذلك، ووجه إليه فأحضره، فامتنع، وذكر أنه لا دربة له به، ولا فيه آلة له.
فضمن له عون معاونته، وإجمال الحساب في كل عشية، وأجري عليه رزق يسير.
وجلس بالباب، وصار يدعو بالحمالين، فيثبت ما يحضرونه، ويرفع في كل يوم مدرجاً بتفصيل ذلك.
فلما انقضى الشهر جمع وصيف المدارج، وأحضر كاتباً غريباً، وتقدم إليه أن يؤرجها على أصنافها.
وعمل كاتب ديوانه عملاً بما رفعه الوكلاء في ذلك الشهر، فظهرت فيه زيادة عظيمة، فحطت وتوفر مالها.
وحسن موقع ذلك من وصيف، وأحضر سلمة، وما كان رآه قبل ذلك، وصرف المتصرفين في المطبخ به، وأسنى جائزته.
فتوفر على يده في الشهر الثاني، مما كان حط من الأسعار، ما حسن موقعه.
فرد إليه قهرمة داره، فتتابعت التوفيرات، واتصلت جوائزه إياه، وزيادته في جاريه.
وطالت مدة خدمته لوصيف، وغلب على حاله، واتفق له خلوة المتوكل، وحضور وصيف.
فقال لوصيف: قد كثر ولدي، وأريد لهم شيخاً، عفيفاً، ثقة، ليس فيه بأو، ولا مخرقة، لأفرد لهم على يده إقطاعات أجعلها لهم، فلست أحب أن أوسط كتابي أمره.
فوقع في نفس وصيف، أن يصف سلمة، وبخل به، فلم يزل يتردد ذلك في قلبه.
ثم قال: إعلم يا مولاي، إن الله قد رزقني هذه الصفة التي تريدها مني، والرجل عندي، فإذا فكرت في حقوقك، وأن نعمتي منك، لم أستحسن أن أكتمك، وإذا فكرت فيما أفقده منه، توقفت، والآن، فقد أنطقني إقبالك بذكره، وهو سلمة بن سعيد النصراني.
فقال: أحضرنيه الساعة.
فأحضره في الوقت، فحين عاينه المتوكل وقع في نفسه صحة ما وصفه، فوقع لكل ابن بإقطاع ثلثمائة ألف درهم، ولكل ابنة بمائة وخمسين ألف درهم، وقيل أن المتوكل مات عن خمسين إبناً، وخمس وخمسين إبنة، ودفع إليه التوقيع.
وقال له: نجز هذا، واختر من الضياع ما ترى، وانصب لها ديواناً، ووصله، وجعل له منزلة كبيرة، بكتابة الولد.
فلما فرغ من ذلك، وقام به، جرى أمر آخر، أوجب أن رد إليه أيضاً أمر سائر الحرم، وجعل له قبض جراياتهن، وأرزاقهن، وإنفاق ذلك عليهن، وصرف وكلاءهن، وأسبابهن عنهن، وزادت منزلته بذلك لكثرة الحرم.
فبينما سلمة يتردد في دار المتوكل، إلى مقاصير الولد والحرم، وقعت عين المتوكل عليه، فاستدعاه.
وقال له: يا سلمة، ما أكثر ما يذهب على الملوك، حفظت بك ولدي، وحرمي، وأضعت نفسي، وليس لي منك عوض، قد رددت إليك بيت المال، وخزائن الفرش، والكسوة، والطيب، وسائر أمر الدار، فتسلم ذلك، واستخلف عليه من تثق به.
وكان قد أنكر عليه، في بعض خدمته، شيئاً فأمر باعتقاله، ففرشت له حجرة، وترك خلفاؤه يعملون.
ثم ذكره في الليل، وهو يشرب، فقال لخادم: امض إلى الحجرة التي فيها سلمة، فاطلع عليه، وعرفني الصورة التي تجده عليها.
فعاد وذكر أنه وجده يسود، ثم أعاده بعد وقت آخر، فوجده على ذلك، وأعاده الثالثة، فكانت الصورة واحدة.
فاستحضره، وقال: أنت شيخ كبير، تسود ليجود خطك في الآخرة، أو لتصل به في الدنيا إلى أكثر مما وصلت إليه ؟.

قال: لا هذا ولا هذا، ولكنك لما اعتقلتني، وأقررت أصحابي، وثقت بحسن رأيك، فلم أقطع التأهب لخدمتك، لأني أكاتبك كثيراً، فيما أستأمرك به، فأنا أحب أن لا تقع عينك على ما تستقبحه من الخط.
فحسن موقع هذا القول من المتوكل، وأمر بإحضار حقة، فيها خاتم الخاصة، فدفعه إليه.
وقال: هذا خاتمي، وقد رددت إليك ختم ما كنت أختمه بيدي، من غير أن تستأمرني فيه، ليعلم الخاص والعام، أني رفعت منك، وزدت في محلك، ولا يخلقك عندهم الاعتقال، ثم رآه المتوكل بعد ذلك، في وقت من الأوقات، ماشياً في الدار، فقال: سلمة شيخ كبير، هوذا يهرم ويتلف بهذا المشي، لأنه يريد أن يطوف في كل يوم، على الحرم والولد، وقد رأيت أن أجريه مجرى نفسي، في إطلاق الركوب له في داري.
وكان المتوكل يركب حماراً يتخطى به في الممرات، ويركب سلمة حماراً أيضاً، ولم يكن في الدار من يركب غيرهما.

الحرم

الحرم: النساء لرجل واحد، وحريم الرجل: ما يدافع عنه ويحميه، ولذلك سميت نساء الرجل: الحريم.
وكان حريم المتوكل يشتمل على أربعة آلاف سرية تاريخ الخلفاء 350 منهن خمسمائة لفراشه شذرات الذهب 2 - 114 وقد أهدى إليه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، أربعمائة جارية، مرة واحدة، المستطرف من أخبار الجواري للسيوطي 63.
أما المعتصم، والد المتوكل، فإنه لما توفي سنة 227 كان من جملة ما ترك ثمانية آلاف جارية شذرات الذهب 2 - 63.
وأما المأمون، حكيم بني العباس، فقد كان حريمه يشتمل على مائتي جارية فقط المستطرف من أخبار الجواري 69.
أما الرشيد، فقد كان حريمه يشتمل على أكثر من ألفي جارية، سوى ما كان لزوجه زبيدة من الجواري ويزيد عددهن عن ألفي جارية أيضاً الأغاني 10 - 172 ونهاية الأرب 4 - 214 و 215 ونشوار المحاضرة رقم القصة 5 - 64.
وكان في دار المقتدر، أربعة آلاف امرأة، بين حرة ومملوكة رسوم دار الخلافة 8.
ولم يكن الإكثار من الجواري مقصوراً على الخلفاء وحدهم، وإنما تعدى ذلك إلى أتباعهم، والمترفين من الأمراء، والرعية.
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، نورد أن عتابة، أم جعفر البرمكي، كانت تخدمها أربعمائة وصيفة وفيات الأعيان 1 - 341.
وأن عمر بن فرج الرخجي، أحد العمال الأشرار، كانت لديه مائة جارية الطبري 9 - 161.
وأن زوجة يعقوب بن الليث الصفار، كانت لديها ألف وسبعمائة جارية وفيات الأعيان 6 - 429.
وأن بلكين الصنهاجي، خليفة المعز الفاطمي على أفريقية ت 373 كانت لديه أربعمائة حظية وفيات 1 - 287.
وأن العزيز الفاطمي توفي سنة 386 عن عشرة آلاف جارية إتعاظ الحنفا 295.
وأن ست النصر، أخت الحاكم الفاطمي ت 415، تركت أربعة آلاف جارية بين بيضاء وسوداء ومولدة بدائع الزهور 1 - 58.
وأن نصر الدولة الحميدي، صاحب ميافارقين ت 453، كانت لديه ثلثمائة وستون جارية، بعدد أيام السنة وفيات الأعيان 1 - 177 والوافي بالوفيات 8 - 176.
وكان للمعتمد بن عباد اللخمي، صاحب أشبيلية ت 488 ثمانمائة سرية شذرات الذهب 3 - 386 ومرآة الجنان 3 - 147.
وكان لأبي زنبور، الوزير بمصر ت 314 سبعمائة جارية شذرات الذهب 6 - 173.
وكان عند الوزير يعقوب بن كلس، وزير العزيز الفاطمي ت 380 ثمانمائة حظية، سوى جواري الخدمة خطط المقريزي 2 - 8.
وكان في دار ابن نجية الواعظ ت 599 عشرون جارية للفراش، تساوي كل جارية ألف دينار الذيل على الروضتين 35 فأعجب لواعظ يرتبط لفراشه عشرين جارية.
ومات السلطان الناصر محمد بن قلاوون ت 741، عن ألف ومائتي وصيفة مولدة، سوى من عداهن من بقية الأجناس خطط المقريزي 2 - 212 وماتت زوجته الخونده طغاي سنة 749 عن ألف جارية خطط المقريزي 2 - 426، أما الخونده أردوتكين، زوجة الملك الأشرف خليل، وزوجة الملك الناصر محمد بن قلاوون من بعده، ت 724، فقد كان لها من المماليك أكثر من ألف، ما بين جارية وخادم خطط المقريزي 2 - 63.
وكان مقبول خان وزير فيروز شاه ملك الهند 752 - 790 يملك ألفي جارية، من بينهن الرومية، والصينية، والفارسية الاسلام والدول الاسلامية في الهند ص22.
وفي مقابل من ذكرنا، نورد أن الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز لما استخلف، خير جواريه، وأعتق من رغبت في العتق، واقتصر على زوجته ابنة عمه، فاطمة بنت عبد الملك تاريخ الخلفاء 235.

أما أبو العباس السفاح، أول الخلفاء العباسيين، فإنه تزوج أم سلمة المخزومية، قبل الخلافة، فلم يتزوج عليها، ولم يتسر، ولما استخلف ظل على وفائه لها، فلم يدن إلى امرأة غيرها، حرة ولا أمة، إلى أن مات راجع التفصيل في مروج الذهب للمسعودي 2 - 206 - 208.
وكذلك كان المتقي، إبراهيم بن المقتدر ت 357، فإنه لما استخلف لم يتسر على جاريته التي كانت له تاريخ الخلفاء 394.
وتابعهم في ذلك ملك العرب سيف الدولة، صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي ت 501، فإنه اكتفى بزوجة واحدة، لم يتزوج عليها، ولم يتسر المنتظم 9 - 159.
وكذلك كان المستعصم، آخر الخلفاء العباسيين ببغداد ت 656 فقد كانت له - وهو أمير - جاريتان، فلما استخلف لم يتغير عليهما خلاصة الذهب المسبوك 291.

الحمار

قسم صاحب معجم الحيوان، الحمير، إلى أربعة أنواع، حمار البيت، وحمار قبان، وحمار الزرد، والحمار العتابي معجم الحيوان 21، 98، 175، 265، 270 وفي دائرة المعارف الاسلامية 8 - 65 قسم الحمار إلى أهلي ووحشي، والأهلي إلى دابة ركوب، ودابة حمل، ووصف حمار الركوب، بأنه سريع العدو، يهتدي إلى الطريق، ولو سلكه مرة واحدة، وأنه حاد السمع، قليل المرض، وذكر أن العرب لا يركبون الحمير استنكافاً.
أقول: إن العرب في صدر الاسلام، لم يكونوا يستنكفون من ركوب الحمار، فإن النبي صلوات الله عليه كان يركب الحمار المخلاة للبهائي 292 والخليفة عمر بن الخطاب، وهو قدوة، ركب حماراً أرسنه بحبل أسود العقد الفريد 4 - 271 ولما قدم الشام، قدمها على حمار العقد الفريد 4 - 365 و 1 - 14 والبصائر والذخائر 4 - 30.
ثم تغير الحال، فأصبحت الخيل مركب الخلفاء، والأمراء، والأميرات، والوزراء، والقواد، وقد روى ياقوت في معجم الأدباء 5 - 485 و486 قصة عن جمال الدين بن القفطي ذكر فيها أن والده قدم مصر، لم تكن دوابه معه، فأبى أن يركب حماراً.
واستمر على ركوب الحمار، التجار البغداديون القصة 2 - 54 و3 - 56 من نشوار المحاضرة والشعراء ومتوسطو الحال نهاية الأرب 4 - 71 و10 - 99 و100 وفوات الوفيات 3 - 140 والفقهاء والقضاة القصة 3 - 40 من نشوار المحاضرة، وشذرات الذهب 2 - 220 وكذلك عقيلات النساء القصة 317 من هذا الكتاب.
وممن عرف بركوب الحمار خالد بن صفوان البصائر والذخائر م2 ق2 ص588 و589، وأبو عبيدة معمر بن المثنى مرآة الجنان 2 - 45، وابن جامع القرشي المغني الأغاني 6 - 291 ونهاية الأرب 4 - 306، وعيسى بن مسكين فقيه المغرب وقاضي القيروان مرآة الجنان 2 - 224، وأبو يزيد النكاري، الخارج بالمغرب على الفاطميين اتعاظ الحنفا ص70. وأبو العيناء محمد بن القاسم بن خلاد الملح والنوادر للحصري ص230.
ومن الطريف أن نذكر أن أبا القاسم الضحاك بن مزاحم البلخي المفسر ت 105 كان مؤدباً، وكان في مكتبه ثلاثة آلاف صبي، وكان يطوف عليهم على حمار ميزان الاعتدال 2 - 325.
وكان الخلفاء، يركبون الحمير، في أوقات التخفف، وفي بيوتهم، وفي بساتينهم، وخرج الوليد بن يزيد مرة على المغنين، وهو راكب على حمار الأغاني 13 - 278، وكان الهادي يركب حماراً فارهاً تاريخ الخلفاء 279، وخرج مرة ليعزي أحد أفراد حاشيته وهو على حمار أشهب الطبري 8 - 291، وزار عبد الله بن مالك، وهو على حمار الطبري 8 - 216، وكان الرشيد يركب حماراً مصرياً أسود اللون، قريباً من الأرض، يطوف به على جواريه المحاسن والأضداد 174 ومطالع البدور 1 - 238 ويخرج به لعيادة من يريد عيادته الأغاني 5 - 253 ونهاية الأرب 4 - 341 وزيارة من يزوره الأغاني 10 - 175، وانتبه مرة في نصف الليل، فقال: هاتوا حماري، وركبه، وخرج الأغاني 10 - 176، وعاد المعتصم ولده الواثق، ثم رجع راكباً حماراً الأغاني 8 - 251 و252 ونهاية الأرب 4 - 232 وكان يركب الحمار عند خروجه من داره متخففاً القصة 7 - 125 من نشوار المحاضرة، وكان العزيز الفاطمي يركب الحمار إتعاظ الحنفا 294، وكان الحاكم الفاطمي، يركب الحمار، ويدور في الأسواق شذرات الذهب 3 - 193 وخطط المقريزي 2 - 288 ومات الحطيئة الشاعر، وهو على حمار فوات الوفيات 1 - 279.
ومما يجدر ذكره أن الرشيد، لما أمر بقتل جعفر البرمكي، دخل عليه مسرور، وأخرجه إخراجاً عنيفاً، وقيده بقيد حمار، ثم ضرب عنقه الطبري 8 - 295.

وكان الحمار مركب المتحابين إذا خرجوا لموعد الأغاني 1 - 395 ومركب القهرمانات إذا بارحن القصور من أجل أشغال السادة القصة 478 من هذا الكتاب، ومركب المغنين والمغنيات والجواري القصة 479 من هذا الكتاب، ونهاية الأرب 5 - 31 و 110 ومركب رجال الدولة إذا خرجوا متنكرين القصة 471 من هذا الكتاب، والقصة 2 - 2 من نشوار المحاضرة.
وكان المتوكل يركب الحمار في داره كما في هذه القصة، وكان يصعد إلى أعلى منارة سامراء، وهو على حمار مريسي لطائف المعارف 161، أقول: هذه المنارة، ما زالت شامخة في لجو، يسميها الناس: الملوية، والطريق إلى أعلاها، يتلوى حولها، من خارجها.
ولما بنى المكتفي قصر التاج، بنى قبة على أساطين رخام، عرفت بقبة الحمار، لأنه كان يصعد إليها، في مدرج حولها، كمنارة جامع سامراء، على حمار صغير الجرم، وكانت عالية مثل نصف دائرة كتاب دليل خارطة بغداد ص126.
أقول: لما زرت بلاد الأندلس في السنة 1960، أبصرت في أشبيلية، من آثار المسلمين الباقية، مأذنة، يسمونها: الجيرالدا، ذات علو شاهق، يصعد إليها من باطنها، في طريق يتسع لستة أشخاص، يسيرون جنباً إلى جنب، وذكروا لنا أن المؤذن كان يصعد إلى أعلى هذه المأذنة، راكباً حماراً، ووجدت أهالي أشبيلية، يفتخرون بهذه المأذنة، ويقولون: إن من صعد إلى أعلى برج إيفل بباريس، أبصر باريس كلها، أما من صعد إلى أعلى الجيرالدا، فإنه يرى الدنيا كلها.
وكان الناس يغالون في حمير مصر، وهي موصوفة بحسن المنظر، وكرم المخبر لطائف المعارف 161 ونهاية الأرب 10 - 93، وأهل مصر يعنون بتربية الحمير، والقيام عليها، لما يجدونه فيها من الفراهة، وسرعة الحضر، والنجابة، ويبالغون في أثمانها، حتى بيع في بعض السنين، حمار، بمائة دينار وعشرة دنانير، وكان صاحبه يسمع أذان المغرب بالقاهرة، فيركب، ويسوقه، فيلحقها بمصر، وبينهما ثلاثة أميال مطالع البدور 2 - 182.
وذكر ابن سعيد: أن المغاربة كانوا يأنفون من ركوب الحمار، خلافاً لأهالي مصر، فإن أعيان مصر، والفقهاء، والسادة، يركبون الحمير خطط المقريزي 1 - 341 ونفح الطيب 2 - 339 حتى إن ابنة الإخشيد محمد بن طغج، كانت تقطع الأزقة في القاهرة وهي على ظهر حمار خطط المقريزي 1 - 353.
أقول: لم تقتصر الأنفة من ركوب الحمار على المغاربة المسلمين، وإنما تعدتهم إلى إفرنج أسبانيا، فإن الملك الفونس، لما انكسر في السنة 591 في المعركة بينه وبين السلطان أبي يوسف الموحدي، حلق ألفونس رأسه، وركب حماراً، وأقسم لا يركب فرساً حتى ينتصر ابن الأثير 12 - 115، وكذلك صنع علاء الدين الغوري، في السنة 602، فإن أهالي غزنة نهبوا جميع ما كان لديه، فلما وصل إلى باميان، لبس ثياب سوادي، وركب حماراً، وقال: أريد أن يراني الناس وما صنع بي أهل غزنة، حتى إذا عدت إليها وأخربتها لا يلومني أحد ابن الأثير 12 - 220.
وذكر القزويني، في آثار البلاد 262: أن الحمر المريسية، نسبة إلى المريسة في ناحية الصعيد بمصر، من أجود حمر مصر، وأمشاها، وأحسنها صورة، وأكبرها، تحمل إلى سائر البلاد للتحف، وليس في شيء من البلاد مثلها، والبلاد الباردة لا توافقها، فتموت فيها سريعاً.
وخرج توقيع عبد الله بن طاهر: إذا وجدتم البرذون الطخاري، والبغل البرذعي، والحمار المصري، والرقيق السمرقندي، فاشتروها، ولا تستطلعوا رأينا فيها، لطائف المعارف 219.

وروى صاحب مطالع البدور 2 - 183 طريفتين عن الحمار، الأولى: ذكر إنه ركب حماراً، من مصر إلى القاهرة، فلما كان في أثناء الطريق، حاد به عن السكة، وجهد أن يرده، فلم يطق، حتى انتهى إلى جدار بستان، فوقف، وبال، وعاد إلى الطريق، وكذلك جرى له مع حمارين آخرين، والطريفة الثانية: إن حماراً كان بمصر، يجتمع عليه الناس، ويجمعون له مناديل، تلقى على ظهره، ثم يأمره صاحبه بإعادة كل منديل إلى صاحبه، فيدور في الحلقة، ولا يقف إلا على من له في ظهره منديل، فإن أخذه، ذهب عنه، وإن أخذ غيره، لا يذهب، ولو ضرب مائة ضربة، ويأخذ الخاتم من إصبع الرجل، ويسأله عن وزنه، فيقول: كم وزن الخاتم ؟ فإن كان وزنه درهماً، مشى خطوة واحدة، وإن كان درهماً ونصفاً، مشى خطوة ونصفاً، وهكذا، وبينما هو واقف، يقول له شخص: الوالي يسخر الحمير، فما يتم كلامه، إلا ويلقي الحمار نفسه على الأرض، وينفخ بطنه، ويقطع نفسه، كأنه ميت من زمان، فإذا قيل له، بعد ذلك، ما بقيت سخرة، ينهض قائماً.
وكان القاضي، أو الوالي، إذا أمر بإشهار شخص، داروا به على حمار المنتظم 8 - 294 و 10 - 237 ومهذب رحلة ابن بطوطة 2 - 147، ومن طريف ما يذكر أن شخصاً حجره القاضي للسفه، وأمر بإشهاره في البلد، ليمتنع الناس من التعامل معه، فحمل على على حمار، وداروا به في الأسواق، فلما انتهى النهار، طالبه المكاري بالأجر، فالتفت إليه، وقال له: في أي شيء كنا منذ الصباح ؟.
وكان الشماخ الشاعر، أوصف الناس للحمير، أنشد الوليد بن عبد الملك، شيئاً من شعره في وصف الحمير، فقال: ما أوصفه لها، إني لأحسب أن أحد أبويه كان حماراً الأغاني 9 - 161.
راجع في الملح للحصري ص283 قصة العاشق الذي حل محل الحمار في الطاحون.
وقيل لمزبد، وقد اشترى حماراً: ما في حمارك عيب، إلا أنه ناقص الجسم، يحتاج إلى عصا، فقال: إني كنت أغتم، لو كان يحتاج إلى بزماورد، فأما العصا، فأمرها هين البصائر والذخائر م2 ق2 ص689.
وقيل لمخنث عليل، كان يشرب لبن الأتان: كيف أصبحت ؟ قال: لا تسل عمن أصبح أخا الحمار البصائر والذخائر م2 ق1 ص29.
ومن مشهوري الحمير: يعفور، حمار النبي صلوات الله عليه، أهداه له المقوقس، صاحب مصر، ونفق منصرف النبي صلوات الله عليه من حجة الوداع الطبري 3 - 174.
ومن مشهوري الحمير: حمار بشار بن برد، وقد زعم بشار أن حماره هنا كان شاعراً غزلاً، وروى أبياتاً من شعره، راجع القصة في الأغاني 3 - 231 و232.
ومن مشهوري الحمير، الحمار الذي كان يركبه الحاكم الفاطمي، وكان يسميه: القمر النجوم الزاهرة 549.
ومن مشهوري الحمير: حمار الحكيم توما، الذي قال فيه الشاعر:
قال حمار الحكيم توما ... لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط ... وصاحبي جاله مركّب
ومن مشهوري الحمير، حمار أبي الحسين الجزار، جمال الدين يحيى بن عبد العظيم، وهو من عائلة جزارين، تكسب بالشعر مدة، ثم عاد إلى الجزارة، واحتج لعدوله عن الشعر إلى الجزارة، بقوله:
لا تلمني يا سيّدي شرف الدي ... ن إذا ما رأيتني قصّابا
كيف لا أشكر الجزارة ما عش ... ت حفاظاً وأترك الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجّي ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وكان الجزار، كثير الشكوى من حماره، قال فيه:
هذا حماري في الحمير حمار ... في كلّ خطو كبوة وعثار
قنطار تبنٍ في حشاه شعيرةٌ ... وشعيرةٌ في ظهره قنطار
ولما مات حمار هذا الشاعر، داعبه شعراء عصره، بمراث وهزليات، فقال بعضهم:
قولوا ليحيى لا تكن جازعاً ... لا يرجع الذاهب بالليت
طامن أحشاءك فقدانه ... وكنت فيه عالي الصوت
وكنت لا تنزل عن ظهره ... ولو من الحشّ إلى البيت
ما مات من داءٍ ولكنّه ... مات من الشوق إلى الموت
وقال آخر:
مات حمار الأديب، قلت قضى ... وفات من أمره الذي فاتا
مات وقد خلّف الأديب ومن ... خلّف مثل الأديب ما ماتا
فأجابه أبو الحسين قائلاً:
كم من جهولٍ رآني ... أمشي لأطلب رزقا
وقال لي: صرت تمشي ... وكلّ ماشٍ ملقّى

فقلت: مات حماري ... تعيش أنت وتبقى
ومات لابن عنين الدمشقي 549 - 630 حمار، بالموصل، فرثاه بقصيدة مثبتة في ديوانه 140 - 142، منها؛
لا تبعدن تربةً ضمّت شمائله ... ولا عدا جانبيها العارض الهطل
قد كان إن سابقته الريح غادرها ... كأنّ أخمصها بالشوك ينتعل
لا عاجزاً عند حمل المثقلات ولا ... يمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوجل
وإنّ لي بنظام الدين تعزية ... عنه وفي النجب من أبنائه بدل
وقرأت في كتاب من تأليف أديب مغربي، أن مغربياً باع حماره من آخر، وشرط عليه المشتري، أن يسلمه الحمار في حلته، وخرجا إليها معاً، ولما دخلا بين البيوت، أبصر البائع حماراً أدبر، قد أهمله أصحابه، فالتفت إلى صاحبه، وقال: أهكذا يعامل الحيوان الأعجم ؟ أنتم قوم سوء، وأعاد إلى المشتري ماله، وكر عائداً بالحمار.
وعرض محمد بن واسع الأزدي، بسوق مرو، حماراً، فقال له رجل: يا عبد الله، أترضاه لي ؟ فقال: لو رضيته لما بعته نشوار المحاضرة، القصة 4 - 61.
ولزيادة التفصيل في هذا الموضوع راجع نهاية الأرب 10 - 93 - 102 والغيث المسجم في شرح لامية العجم 2 - 137 و138، وكتاب الحيوان للجاحظ.
أقول: أدركت الناس ببغداد، قبل انتشار استعمال السيارات، يركب الوجهاء منهم، الحمير، ويختارونها بيضاء، عالية، ويسمونها: الحساوية، لأنها تجلب من الأحساء، وكانوا يتأنقون في اختيار الجل، ويسمونه: المعرقة تلفظ القاف كافاً فارسية.
وقد وصف حمير بغداد البيض، سائح أمريكي اسمه بيري فوك، مر ببغداد في السنة 1872، في عهد الوالي محمد رديف باشا، الذي خلف مدحت باشا، فقال: إن الحمير البيض في بغداد مشهورة في أنحاء الشرق، وأثمانها عالية، وقسم منها كبير الحجم، وتزين بصبغها بالحناء، فتبدو آذانها وأذنابها حمراء اللون، وأبدانها منقطة بالحناء، وهي ما زالت - كما كانت في قديم الزمان - مركب رجال الدين وكبار الحكام، كما أن السيدات يفضلنها على بقية الدواب، وهم يشرحون منخر الحمار، ويشقونه شقاً مستطيلاً، ويقولون إن هذا الشق يجعل الحمار أطول نفساً، ولكني كلما سمعت حماراً ينهق، أيقنت أنه لا ضرورة لهذا التصرف، ولا محل له كتاب عربستان أو بلاد ألف ليلة وليلة.
والبغداديون يسمون الحمار: زمال، من الزمل بكسر الزاي وميم ساكنة أي الحمل، ويقال: زمل بفتح، أي حمل، والزاملة، مؤنث الزامل: الدابة من الإبل وغيرها يحمل عليها المنجد، قالت السيدة أسماء بنت أبي بكر: كانت زمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمالة أبي بكر، واحدة، أي مركوبهما لسان العرب، راجع ما كتبه الدكتور سليم النعيمي في مجلة المجمع العلمي العراقي م25 ص25 و26.
وكانت زمالة الزهاوي الشاعر جميل صدقي الزهاوي ت 1936 مضرب المثل في جمال الهيئة والنظافة، وكانت بيضاء، عالية الظهر، حساوية، وكان الزهاوي يعنى عناية فائقة، بعلفها، ونظافتها، وكان - رحمه الله - مصاباً بارتخاء في عضلات ساقيه لا يمكنه من المشي إلا بمعونة، فكان يركبها في روحاته وغدواته.
وللبغداديين أمثال تتعلق بالحمار، أذكر منها ثلاثة: أولها: مثل يضرب لمن يكد ليله ونهاره، من دون راحة، فيقولون: مثل زمال الطمة، يروح محملاً، ويعود محملاً، والطمة: فصيحة، ما طم من الجمر في الرماد، ويطلق البغداديون هذه الكلمة على موقد الحمام، وكان يوقد فيه النفايات والقمامة، وكل ما يحترق، فكان زمال الطمة يروح إليها حاملاً الوقود، ويعود منها حاملاً الرماد المتخلف.
وثانيها: مثل يضرب لمن ورط نفسه في ورطة يصعب التخلص منها، فيقولون: تعال طلع هذا الزمال من هذي الوحلة.
وثالثها: مثل يضرب لمن يتحايل بحيلة مكشوفة، فيقولون: إحنا دافنيه سوا، وأصل المثل: إن بغداديين تعطلا، وحاولا أن يجدا عملاً، فلم يوفقا، ثم وجدا حماراً نافقاً، فأخذاه، ودفناه، ووضعا على قبره شاهداً، وأدعيا إنه قبر ولي من أولياء الله، وأصبح أحدهما سادناً للقبر، والثاني واعظاً وإماماً للجماعة فيه، وظلاً على ذلك حيناً، ثم أحس أحدهما أن صاحبه يغتال قسماً من الواردات، ويستأثر بها، فخاصمه، فبادر صاحبه وضرب بيده على القبر، يحلف على براءته من التهمة، فصاح به صاحبه: ويحك، إحنا دافنيه سوا.

وللبغداديين نوادر، فيها ذكر للحمار، يتندرون بها، أذكر منها نادرتين: الأولى: نادرة يتندر بها البغداديون على أهل الموصل، والمعروف عن أهل الموصل تعصبهم لبعضهم، بحيث لا يتسنى للغريب أن يجد فيها رزقاً، وخلاصتها: أن سقاءً بغدادياً هاجر إلى الموصل، واستقر فيها، وأراد أن يمارس فيها مهنته، فاشترى حماراً وقربة، وباشر بحمل الماء من النهر إلى المدينة، وفي اليوم الأول لم يتعامل معه أحد، وكذلك في اليوم الثاني، وجاع السقاء، وجاع حماره، فأخذه في اليوم الثالث، وذهب إلى سوق المدينة، وقال: يا جماعة، إن حرمانكم إياي من الرزق أمر مفهوم، لأني بغدادي، ولكن هذا الحمار موصلي، وهو يكاد يموت جوعاً، فإن لم ترفقوا بي، فارفقوا به.
والثانية: نادرة يتندر بها البغداديون على أحد القضاة، وخلاصتها: أن اثنين اختصما على حمار، كل واحد منهما يدعي ملكيته، وتداعيا عند القاضي، وقدم المدعي للقاضي عشرة مجيديات رشوة، وبلغ المدعى عليه ما صنعه خصمه، فذهب إلى القاضي وأعطاه عشرة مجيديات أيضاً، ونظر القاضي في الدعوى، وأراد أن يرضي الطرفين، فحكم بأن يباع الحمار ويقسم ثمنه بين المتداعيين، وبيع الحمار بعشرين مجيدياً، وتسلم كل واحد من المتداعيين عشرة مجيديات، فتوجها إلى القاضي، وقالا له: يا أفندينا، تبين أن الحمار لا يعود لواحد منا، وإنما يعود لك، لأنك استوفيت ثمنه كاملاً.
ودخل أحمد بن محمد القزويني إلى سوق النخاسين في الكوفة، وطلب حماراً، لا بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر، إن أقللت علفه صبر، وإن أكثرت علفه شكر، لا يدخل تحت البواري، ولا يزاحم براكبه السواري، إذا خلا الطريق تدفق، وإذا كثر الزحام ترفق، فقال النخاس: أصبر حتى يمسخ القاضي حماراً، وأشتريه لك، أخبار الحمقى والمغفلين ص126.
ونهيق الحمير، يسمى: الزر البصائر والذخائر 4 - 297، راجع أخلاق الوزيرين 149 وفي بغداد، يلفظونها: زعر، وإذا صيح بها أمام الحمار، نهق.
وذكر الجبرتي في تاريخه 2 - 539 و3 - 155 أن العسكر العثماني، بالقاهرة، باشروا في السنة 1217 بخطف حمير الناس من أولاد البلد، فأخفى الناس حميرهم، فكان الجماعة من العسكر ينصتون بآذانهم على أبواب الدور، ويقف بعضهم على الدار، ويقول زر، ويكررها، فينهق الحمار، فيؤخذ.
وكان إبراهيم بن الخصيب المديني، أحمق، وكان له حمار أعجف، وكان إذا علق الناس المخالي بالعشي، أخذ مخلاة حماره، وقرأ عليها " قل هو اللّه أحد " ، وعلقها عليه فارغة، وقال: لعن الله من يرى كيلجة شعيرة، أنفع من " قل هو اللّه أحد " ، فما زال هكذا حتى نفق الحمار، فقال: إن " قل هو اللّه أحد " ، تقتل الحمير، فهي للناس أقتل، لا قرأتها ما عشت البصائر والذخائر أمير المؤمنين 4 - 118 و119، وراجع كتاب أدب الغرباء للأصبهاني 46.
ومما يروى عن السيد عبد الحسين الغريفي، من علماء البحرين، وكان فقيهاً من العلماء الأتقياء، أنه هجم عليه يوماً، وهو في حلقة درسه، معيدي، أوسعه إزعاجاً، وألح عليه أن يستخير له، فإنه بصدد عمل يريد أن يقوم به، فعمد السيد إلى كتاب الله، وفتحه، ثم التفت إليه وقال: أنت تريد أن تشتري حماراً، فقال له: إي والله يا سيدنا، فقال له: امض فاشتره، ولما بارح المعيدي المكان، سأله تلامذته: كيف عرف مراد المعيدي ؟ فقال له: استفتحت له، فظهرت الآية: سنشد عضدك بأخيك.
أقول: أنا في شك من صحة هذه الحكاية، لأن السيد عبد الحسين، وهو من الفقهاء الزهاد، أتقى لله من أن يتخذ من آيات القرآن مورداً للتملح.
وقال عبد القاهر الجرجاني ت 471 شذرات الذهب 3 - 341:
تكبّر على العقل لا ترضه ... ومل إلى الجهل ميل هائم
وعش حماراً تعش سعيداً ... فالسعد في طالع البهائم
وصديقنا المصور أرشاك ببغداد، يخالف الناس في وصف الحمار بالبلادة، وهو يقول: إن الحمار عاقل حكيم، وإن النظرة التي نراها في عينه ونحسب أنها نظرة بلادة، إنما هي نظرة استهانة بنا ولا مبالاة، وكأنه يقول لنا: أنتم تقولون عني أني حمار، وفي الحقيقة، إنكم أنتم الحمير.
للتوسع في البحث، راجع الطبري 5 - 522 و6 - 40 - 42 و7 - 52 و240 و555 و8 - 122 و194 و8 - 300 - 302 و10 - 8، والولاة للكندي 469 و471، والأغاني 12 - 157 و18 - 303 و347 و20 - 69 و22 - 182، والعقد الفريد 6 - 442، والأغاني ط بولاق 20 - 31.

ابن الطبري الكاتب النصراني تجلب له التوفيق رفسة حصان

وجدت في بعض الكتب: أن عبد الله المعروف بابن الطبري النصراني الكاتب، قدم سر من رأى يلتمس التصرف، فلزم الدواوين مدة، إلى أن نفدت نفقته، وانقطعت حيلته، ولم يبق إلا ما عليه من كسوته، فعدم القوت ثلاثة أيام بلياليها، وهو صابر خوفاً من أن يبيع ما عليه، فيتعطل عن الحركة، فلما كان في اليوم الرابع عمل على بيع ما عليه ليأكل ببعضه، وليشتري بالبعض الآخر تاسومة، ومرقعة، وركوة، ويخرج في زي فيج إلى بلد آخر، لأنه بقي ثلاثة أيام لم يأكل شيئاً.
ثم شرهت نفسه إلى الرجوع إلى الديوان، مؤملاً فرجاً يستغني به عن هذا، من تصرف أو غيره.
فمشى يريد الديوان، وهو مغموم مفكر، إذ سمع صوت حافر من ورائه، وقوم يصيحون: الطريق، الطريق.
فلشدة ما به، غفل عن التنحي عن الطريق، فكبسه شهري كان راكبه المؤيد بالله بن المتوكل على الله، وهو إذ ذاك أحد أولياء العهود، فداسه، وسقط على وجهه.
فصعب ذلك على المؤيد، ولم يكن يعرفه، فاغتم أن يجرى منه على إنسان مثل ذلك، فأمر أن يحمل إلى داره، ففعل ذلك، وأفردت له حجرة، ومن يخدمه، وعولج بالدواء، والطعام، والشراب، والطيب، والفرش، حتى برئ بعد أيام، فأنفذ إليه ألفي درهم، وسأله إحلاله مما جرى عليه.
فقال: لا أقبلها، أو تقع عيني على المؤيد، فأشافهه بالدعاء.
فأوصل إليه، فشكره، ودعا له، وقص عليه قصته، وسأله استخدامه.
فخف على قلب المؤيد، واستكتبه، وأمر أن يصرف في داره، وفي دار والدته إسحاق، جارية المتوكل، فتصرف فيها مدة، وصلحت حاله.
وكان الموفق، أخو المؤيد من أمه، قد رأى ابن الطبري، فاجتذبه إلى خدمته، ونفق عليه، وانتهى أمره معه إلى أن جعل إليه تربية المعتضد، وأكسبه الأموال الجليلة.
أبو بكر محمد بن طغج ينتقل من ضعف الحال إلى ملك مصروجدت في بعض الكتب: حدث أبو الطيب بن الجنيد، الذي كان صاحباً لأبي جعفر محمد بن يحيى بن زكريا بن شيرزاد، وكان قبل ذلك جاراً لأبيه أبي القاسم قال: كان أبو بكر محمد بن طغج بن جف ينزل قديماً بالقرب من منازلنا ببغداد، بقصر فرج، وكان رقيق الحال، ضعيفاً جداً.
وكان له على باب دويرته دكان يجلس عليها دائماً، ودابته مشدودة إلى جانبها، وهو يراعيها بالعلف والماء بنفسه.
وكان له رزق سلطاني يسير، يتأخر عنه أبداً، فلا يقبضه إلا في الأحايين.
وكان شديد الاختلال، ظاهر الفقر، وكان له عدة بنات لا ذكر فيهن.
وكان يجتاز به أبو القاسم يحيى بن زكريا بن شيرزاد، أو أحد أبنيه، أبو الحسن، وأبو جعفر، فيقوم قائماً، ويظهر التعبد لهما، ولا يزال واقفاً إلى أن يبعدا عنه.
وكنت ربما جلست إليه، فيأنس بي ويحدثني، ويشكو بثه، وما يقاسيه من كثرة العائلة، وضيق الحال.
ويقول: ليت كان لي فيما رزقته من الولد، ذكر واحد، فكنت أتعزى به قليلاً، ويخف بالرجاء له، والسرور به، بعض كربي وهمي بهؤلاء البنات.
قال أبو الطيب: وضرب الدهر من ضربه، وتقلب من تقلبه، وطال العهد بابن طغج، وخرج في جملة تجريد جرد إلى الشام، وأنسيناه، وترجمت به الظنون، وترامت به الأحوال، حتى بلغ أن يقلد مصر وأعمالها، وكان من علو شأنه، وارتفاع ملكه، وحصول الأمر له، ولولده من بعده، ما كان، مما هو مشهور.
وكان قد طرأ إلى تلك الناحية أحد التجار الواسعي الأحوال، من جوارنا، ممن كان يعرف ابن طغج على تلك الأحوال الأول، فلما كان بعد سنين، عاد الرجل إلى الحضرة، فحدثنا بعظم أمر ابن طغج، واتساع ملكه.
وقال: رأيته غير الرجل الذي كنا نعرفه، مكانة، ورجاحة، وحين رآني، قربني، وأكرمني، وما زال مستبشراً بي، يحادثني، وأحادثه، ويسألني عن واحد واحد، من بني شيرزاد، وغيرهم من الجيران، وأنا أخبره.
حتى قال في بعض قوله: الحمد لله الذي بيده الأمور، ما شاء فعل، يا فلان، ألست ذاكراً ما كنت فيه ببغداد، من تلك الأحوال الخسيسة وما كنت ألاقي من الشدة، والفقر، والفاقة، والغرض بالعيش، والهم بأولئك البنات ؟.
قلت: نعم يا سيدي.
قال: والله لقد كنت أتمنى وأسأل الله أن يرزقني ابناً، فكلما اجتهدت في ذلك جاءتني ابنة، حتى تكاملن في بيتي عشراً.

وكنت أتمنى منذ سن الحداثة أن أرزق دابة أبلق، واستشعر أني إذا ركبت ذلك، فقد حصلت لي كل فائدة ونعمة، لشدة شهوتي لها، فما سهل الله لي ما طلبته من هذا الباب أيضاً شيئاً.
وتكهلت، وعلت سني، وأنا على تلك الأحوال.
وضرب الدهر ضربه، وخرجت من بغداد، فابتدأ الإقبال يأتي، والإدبار ينصرف.
وكان الله تعالى يرزقني في كل سنة ابناً، ويقبض عني ابنة، حتى مات البنات كلهن، ونشأ لي هؤلاء البنون، وأومأ إلى أحداث بين يديه كأنهم الطواويس حسناً وجمالاً.
ثم قال: وملكت من الخيل العتاق، والبراذين، والبغال، والحمير البلق، ما لم يملك أحد مثله، ولا اجتمع لأحد ما يقاربه، وأكثر من أن يحصى، وصار لغلمان غلماني، الكراع الكثير، فقم بنا حتى ندخل الاصطبلات، فتشاهدها، وتعجب.
فأخذ بيدي، ومشينا حتى دخلنا إلى إصطبل البلق، فما أشك، أنا عددنا من صنوف الدواب البلق أكثر من خمسمائة رأس، ثم ضجرنا، وما زلنا نجتاز في الاصطبل، سنة، سنة.
فيقول: هذا اصطبل الفلانيات، وهو يسأل صاحب كراعه، كم في هذا ؟.
فيقول: في هذا خمسمائة، وفي هذا أربعمائة، ونحو ذلك.
ثم عدنا إلى المجلس، وقد أبهجني ما رأيت، وهو يحمد الله على تفضله وإحسانه، ولازمته، وما فارقت داره حتى قضيت حوائجي، ونفعني، وأحسن إلي، وما قصر، وعدت إلى الشام مكرماً.

غريب الدار ليس له صديق

ذكر عن رجل كان بالبصرة، أنه كان ذا يسار، وتغيرت حاله، فخرج عن البصرة، ثم عاد إليها وقد أثرى، فجعل يحدث بألوان لقيها إلى أن قال: تغيرت حالي، إلى أن دخلت بغداد، غريباً، سليباً، لا أهتدي إلى مذهب ولا حيلة.
قال: فجعلت أسأل: أين السوق، أين الطريق، إلى أن ضجرت، فقلت وأنا مكروب:
غريب الدّار ليس له صديق ... جميع سؤاله أين الطريق
تعلّق بالسؤال بكلّ صقع ... كما يتعلّق الرّجل الغريق
وجعلت أردد ذلك وأمشي، وإذا برجل مشرف من منظر، فقال لي:
ترفّق يا غريب فكلّ عبد ... تطيف بحاله سعةٌ وضيق
وكلّ مصيبة تأتي ستمضي ... وإنّ الصّبر مسلكه وثيق
فخف ما بي، ورفعت رأسي إليه، وسألته عن خبره.
فقال: اصعد إلي أحدثك، فصعدت إليه.
فقال: وردت هذا البلد، وأنا غريب، فتحيرت - والله - كتحيرك، إلى أن مررت بهذه الغرفة، فأشرف علي رجل كان فيها، لا أعرفه، فقال لي: اصعد.
فصعدت، فأسكننيها، ثم تقلبت بي الأحوال، فابتعت الدار، وأثريت، وأنا أتبرك بها، وأجلس فيها كثيراً، فلعلها أن تكون مباركة عليك أيضاً، فإن لي فيما سواها من الدور، مساكن تجذبني.
ففعلت، وأقبلت أحوالي، واحتجت إلى الاتساع، فانتقلت عنها،
عبد الله بن مالك الخزاعي يتسلم كتاباً من الرشيد يخبره بمقتل جعفر البرمكي
وجدت في بعض الكتب: أن البرامكة، قصدت عبد الله بن مالك الخزاعي، بالعداوة، وكان الرشيد حسن الرأي فيه، فكانوا يغرونه به، حتى قالوا له: لا بد من نكبته.
فقال: ما كنت لأفعل هذا، ولكن أبعده عنكم.
فقالوا: ينفى.
فقال: لا، ولكن أوليه ولاية دون قدره، وأخرجه إليها.
فرضوا بذلك، فكتبوا له على حران والرها فقط، وأمروه بالخروج، عن الخليفة.
قال عبد الله: فودعتهم واحداً، واحداً، حتى صرت إلى جعفر لأودعه.
فقال لي: ما على الأرض عربي أنبل منك يا أبا العباس، يغضب عليك الخليفة، فيوليك حران والرها ؟.
فقلت: فما ذنبي حتى غضب علي، وأي شيء جرى مني حتى أوجب الذي أن يفعل بي هذا ؟.
قال جزاؤك أن: يضرب وسطك، وتصلب نصفاً في جانب، ونصفاً في جانب.
فقلت: العجب مني حيث صرت إليك، ونهضت، وخرجت.
وقطعت طريقي بالهم، والغم، مما دفعت إليه، وأني لا آمنهم، مع غيبتي، على السعاية علي.
فبينما أنا في عشية يوم، على باب الدار التي نزلتها، جالساً على كرسي، إذ أقبل إلي مولى لي، فقال لي سراً: قد قتل جعفر بن يحيى البرمكي.
فتوهمت أنه هو أمره بذلك ليجد علي حجة ينكبني بها، فبطحته، وضربته ثلثمائة مقرعة، وحبسته، وبت بليلة طويلة على السطح في داري.
فلما كان في السحر، إذا صوت حلق البريد، فارتعت، ونزلت عن السطح.
وقلت في نفسي: إن هجم علي صاحب البريد فهي بلية، وإن ترجل لي ففرج.

فلما بصر بي صاحب البريد ترجل لي، فطابت نفسي، ودفع إلي كتاباً من الرشيد، يخبرني فيه بقتله جعفر، وقبضه على البرامكة، ويأمرني بالشخوص إلى حضرته.
فشخصت، فلما وصلت إليه، عاملني من الإكرام والإنعام بما زاد على أمنيتي.
وخرجت، فأتيت الجسر، فوجدت جعفراً، قد ضرب وسطه، وصلب نصفه في جانب، ونصفه في الجانب الآخر.

نجاح بن سلمة ينصح سليمان بن وهب برغم ما بينهما من عداوة

حكي أن الواثق سخط على سليمان بن وهب، فرده إلى محمد بن أبي إسحاق، وأمره أن يأخذ خطه بثلاثة آلاف ألف درهم، يؤديها بعد خمسة عشر يوماً، فإن أذعن لذلك، وإلا ضربه خمسمائة سوط.
فطالبه محمد بكتب الخط، فامتنع، فدعا له بالسياط، وجرد لضربه.
ودخل نجاح بن سلمة، فلما رآه سليمان أيقن بالموت، واستغاث به سليمان.
فقال نجاح لمحمد: خله، وأخلني وإياه، ففعل.
فقال نجاح لسليمان: أتعلم أن في الدنيا أحداً أعدى لك مني ؟.
قال: لا.
قال: فهوذا أحامي عنك اليوم لأجل الصناعة، أيما أحب إليك وآثر في نفسك، أن تموت الساعة بلا شك، أو يكون ذلك إلى خمسة عشر يوماً، قد يفرج الله فيها عنك ؟ قال: بل أكون إلى خمسة عشر يوماً بين الأمرين.
قال: فاكتب خطك بما طولبت به، فكتب خطه.
قال سليمان: فما مضت ستة أيام، حتى مات الخليفة، وبطل ذلك المال. وصار نجاح بن سلمة بمشورته تلك على سليمان، أحب إليه من أخيه وولده، وزالت العداوة من بينهما.
قال مؤلف الكتاب: هذا الخبر عندي أنه مضطرب، لأشياء كثيرة، ولكني كتبته، كما وجدته، وقد مضى فيما تقدم من هذا الكتاب خبر نكبة الواثق لسليمان بن وهب، بما هو أصح من هذه الحكاية.
المعتمد يأمر بقطع يد غلام من غلمانه

ثم يعفو عنه

بلغني أن أبا محمد بن حمدون، قال: إشتهى المعتمد أن يتخذ له فرش ديباج، بستوره، وجميع آلاته، على صورة صورها، وألوان اقترحها.
فعمل ذلك بتنيس، وحمل إليه، فسر به غاية السرور، وتقدم، فنجد، ونضد، ونصب، وأحضرني والندماء، وهو يأكل فيه، فما منا إلا من وصفه واستحسنه، ثم قام لينام وينتبه، فيشرب فيه، وصرفنا.
فما شعرنا إلا وقد امتلأت الدار ضجة وصياحاً، ودعا بنا، فوجدناه يزأر كالأسد.
وإذا نصف ستر من تلك الستور قد قطع، وهو يقول: ليس بي قطعه، ولا قيمته، لأنه يمكنني أن أستعمل مكانه، وإنما بي أنه نغص علي السرور به أول يوم، واجترأ علي بمثل هذا الفعل، وأصعب من هذا أنه قطعه وأنا أراه، وغاص الذي قطعه عن عيني فلم أثبته.
ثم دعا بنحرير الخادم وحلف له بأيمان مغلظة، أنه إن لم يبحث إلى أن يحضر الجاني، ليضربن عنقه، وجلس على حاله مغضباً.
ومضى نحرير، فما أبعد حتى أحضر صبياً من الفراشين، كأنه البدر حسناً، والقطعة الديباج معه، وقد أقر بقطعها، واعتذر، وبذل التوبة، وهو يبكي، ويسأل الإقالة.
فلم يسمع المعتمد منه ذلك، وأمر نحرير أن يخرجه، فيقطع يده، فأخرج، وما منا إلا من آلمه قلبه عليه، لملاحة وجهه، وصغر سنه، وليس منا من يجسر على مسألة المعتمد فيه ونحن قيام سكوت.
حتى صرخ المعتمد على الله من يده صراخاً عظيماً، وتأوه، وقال: قد دخل شيء في أصبعي الساعة، وزاد الألم عليه، وجيء بمن رآها، فأحضر منقاشاً، فأخرجت من إصبعه شظية من قصب كالشعرة، فما ندري مم يتعجب، من صغرها ؟ أو من دخولها في لحمه مع ضعفها ؟، أو من شدة إيلاما إياه ؟ ومن كونها فوق الديباج ساعة طرح ونفض.
فلما استراح، قال: يا قوم، إن كان هذا القدر اليسير قد آلمني هذا الألم الكثير، فما حال هذا الصبي الذي أمرنا بقطع يده ؟.
قلنا: أسوأ حال وأشدها، فيجب أن تجعل العفو عنه شكراً لما كفيته.
فقال: ابعثوا إلى نحرير من يلحقه، فإن كان لم يقطعه، منع من قطعه.
فتسابق الغلمان، فلحقوه، والزيت يغلي، وقد مدت يده لتقطع، فخلوه، وسلم.
مروءة عدي بن الرقاع العامليأخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثنا أحمد بن جرير، عن محمد بن سلام، قال: عزل الوليد بن عبد الملك عبيدة بن عبد الله بن عبد الرحمان عن الأردن، وضربه، وحلقه، وأقامه للناس.
وقال للموكلين به: من أتاه متوجعاً، وأثنى عليه، فأتوني به.
فأتاه عدي بن الرقاع العاملي، وكان عبيدة محسناً إليه، فوقف عليه، وأنشأ يقول:

وما عزلوك مسبوقاً ولكن ... إلى الغايات سبّاقاً جوادا
وكنت أخي وما ولدتك أمّي ... وصولاً باذلاً لا مستزادا
فقد هيضت بنكبتك القدامى ... كذاك اللّه يفعل ما أرادا
فوثب الموكلون به، فأدخلوه إلى الوليد، وأخبروه بما جرى.
فتغيظ عليه الوليد، وقال له: أتمدح رجلاً قد فعلت به ما فعلت ؟.
قال: يا أمير المؤمنين، إنه كان إلي محسناً، ولي مؤثراً، ففي أي وقت كنت أكافئه بعد هذا اليوم؟.
قال: صدقت، وكرمت، وقد عفوت عنك، وعنه لك، فخذه وانصرف.
فانصرف به إلى منزله.

غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية

أخبرني محمد بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي غسان البصري، قال: حدثنا أبو خليفة، قال: أخبرنا محمد بن سلام.
قال محمد بن الحسن، وأخبرني علي بن الحسين الأصبهاني، قال: أخبرني عبد العزيز بن أحمد، عم أبي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثتني كلما بنت عبد العزيز بن موله، قالت: كان عامر بن الطفيل، فارس قيس، وكان عقيماً، وكان أعور.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد رمي منه، ومن أربد، أخي لبيد بن ربيعة، بما أهمه عليه السلام.
وذلك إنهما أتياه، فلقيهما، فوسد عامراً وسادة، وقال: اسلم يا عامر.
قال: على أن تجعل لي الوبر، ولك المدر، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فعلى أن تجعلني الخليفة بعدك، إن أنا أسلمت.
قال: لا.
قال: فما الذي تجعل لي ؟ قال: أعنة الخيل، تقاتل عليها في سبيل الله.
قال: أو ليست أعنة الخيل بيدي اليوم ؟، وولى عامر مغضباً وهو يقول: لأملأنها عليك خيلاً جرداً، ورجالاً مرداً، ولأربطن على كل نخلة فرساً.
وقال عامر لأربد: إما أن تقتله، وأكفيكه، وإما أن أقتله، وأكفنيه.
قال أربد: اكفنيه، وأنا أقتله.
فانصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عامر: إن لي إليك حاجة.
قال: اقترب.
فاقترب، حتى حنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسل أربد سيفه، وأبصر رسول الله بريقه، فتعوذ منه بآية من كتاب الله تعالى، فأعاذه الله منه، ويبست يده على السيف، فلم يقدر على شيء.
فلما رأى عامر أربد لا يصنع شيئاً، انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال لأربد: ما منعك منه ؟.
قال: إني لما سللت بعض سيفي، يبست يدي، فوالله ما قدرت على سله.
قال ابن سلام: وذكر بعضهم أنه قال: لما أردت سل سيفي، نظرت فإذا فحل من الإبل، قطم، فاغرفاه، بين يديه، يهوي إلي، فوالله، لو سللته، لخفت أن يبتلع رأسي.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم أرحني منهما، واكفنيهما.
فأما أربد، فأرسل الله تعالى عليه صاعقة، فأحرقته.
وأما عامر فطعن في عنقه، فأخذته غدة كغدة الجمل، فلجأ إلى بيت امرأة من سلول.
فلما غشيه الموت، جعل يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية ؟ ثم مات.
وفي أربد، نزل قوله تعالى: " ويرسل الصواعق، فيصيب بها من يشاء، وهم يجادلون في الله، وهو شديد المحال " .
وفي أربد يقول لبيد أخوه:
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماء والأسل
أفجعني الرّعد والصواعق بال ... فارس يوم الكريهة النجل
خرج ليغير فوقع على زيد الخيلأخبرني محمد بن الحسن، قال: أخبرني عبد الله بن أحمد، قال: حدثنا ابن دريد، بإسناد ذكره عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، قال: أخبرني شيخ من بني شيبان، قال: أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال فخرج رجل منهم بعياله حتى أنزلهم الحيرة.
وقال لهم: كونوا قريباً من الملك يصيبكم من خيره، إلى أن أرجع إليكم.
وخرج على وجهه لما قد حل به، يؤمل أن يكسب ما يعود به على عياله، وقد جهده الفقر، وبلغ به الطوى.
فحدث، قال: مشيت يوماً وليلة، بحيث لا أدري إلى أين أتوجه، غير أني أجوب في البلاد.
فلما كان من الغد عشاءً، إذا بمهر مقيد حول خباء، فقلت: هذا أول الغنيمة.
فحللته، فلم أذهب إلا قليلاً، حتى نوديت: خل عن المهر، وإلا اختلجت مهجتك.
قال: فنزلت عنه، وتركته، ومضيت وقد تحيرت في أمري، واغتممت غماً شديداً.
فسرت سبعة أيام، حتى انتهيت إلى موضع عطن أباعر، مع تطفيل الشمس، فإذا خباء عظيم، وقبة من أدم.

فقلت: ما لهذا الخباء بد من أهل، وما لهذه القبة بد من رب، وما لهذا العطن بد من إبل.
فنظرت في الخباء فإذا شيخ قد اختلفت ترقوتاه، وكأنه نسر.
قال: فجلست خلفه، فلما وجبت الشمس، إذا أنا بفارس قد أقبل، لم أر قط فارساً أجمل منه، ولا أجسم، على فرس عظيم، ومعه أسودان يمشيان إلى جنبيه، وإذا مائة من الإبل مع فحلها، فبرك الفحل، وبركن حوله.
ونزل الفارس، وقال لأحد عبديه: احلب فلانة، ثم اسق الشيخ.
قال: فحلب في عس حتى ملأه، ثم جاء به فوضعه بين يدي الشيخ، وتنحى.
فكرع منه مرة، أو مرتين، ثم نزع، فثرت، فشربته.
فرجع العبد، فأخذ العس، فقال: يا مولاي، قد أتى على آخره.
قال: ففرح بذلك، وقال: احلب فلانة، فحلبها، ثم جاء بالعس، فوضعه بين يدي الشيخ.
فكرع منه كرعة واحدة، ثم نزع فثرت إليه، فشربت نصفه، وكرهت أن أتهم، إن أتيت على آخره.
ثم جاء العبد، وأخذ العس، وقال: يا مولاي، قد شرب.
قال: دعه، ثم أمر بشاة، فذبحت، وشوى للشيخ منها، وأكل هو وعبداه.
فأمهلت حتى ناموا، وسمعت الغطيط، فثرت إلى الفحل، فحللت عقاله، ثم ركبته، فاندفع بي، واتبعته الابل، فسللتها ليلتي كلها حتى أصبحت.
فلما أسفر الصبح، نظرت فلم أر أحداً، فسللتها سلا عنيفاً، حتى تعالى النهار، فالتفت التفاتة، فإذا بشيء كأنه طائر، فما زال يدنو حتى تبينته، فإذا هو فارس على فرس، وإذا هو صاحبي البارحة.
فعقلت الفحل، ونثلت كنانتي، ووقفت بينه وبين الإبل.
فدنا مني، وقال: حل عقاله.
فقلت: كلا - والله - لقد أضر بي الجهد، وخلفت نسيات، وصبية بالحيرة، وآليت أن لا أرجع إليهن إلا بعد أن أفيدهن خيراً، أو أموت.
قال: فإنك ميت، حل عقاله.
قلت: هوذاك.
قال: إنك لمغرور، أنصب لي خطامه، وفي خطامه خمس عجر، فنصبته.
قال: أين تريد أن أضع سهمي ؟.
قلت: في هذا الموضع.
قال: فكأنما وضعه بيده، حتى والى بين خمسة أسهم.
قال: فرددت نبلي، ودنا هو، فأخذ القوس والسيف.
وقال: ارتدف خلفي، ففعلت.
فقال لي، وقد عرف أني أنا الذي شربت اللبن عند الشيخ: ما ظنك بي ؟ قلت: أحسن الظن، مع ما لقيت مني من تعب ليلتك، وقد أظفرك الله بي.
فقال: أترى كنا يلحقك منا سوء، وقد بت تنادم مهلهلاً ليلتك.
قلت: زيد الخيل أنت ؟.
قال: نعم، أنا زيد الخيل.
قلت: كن خير آخذ.
قال: ليس عليك بأس.
فمضى إلى موضعه الذي كان به، ثم قال: أما لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك، ولكنها لابنة مهلهل، فأقم عندي، فإني على شرف غارة.
فأقمت أياماً، ثم أغار على بني نمير بالملح، فأصاب مائة بعير.
فقال: هذه أحب إليك، أم تلك ؟ فقلت: هذه، فأعطانيها.
قال: فقلت: ابعث معي خفراء، ففعل.
وعدت إلى وطني، وفرج الله بكرمه عني، وأصلح حالي.
منع الله سواراً من الطعام والشراب وجاء به حتى أقعده بين يديك
ذكر محمد بن إسحاق بن أبي العشير، عن إسحاق بن يحيى بن معاذ، وقال: حدثني سوار، صاحب رحبة سوار، قال: انصرفت من دار المهدي، فلما دخلت منزلي، دعوت بالغداء، فحاشت نفسي، فأمرت به فرد.
ثم دعوت بالنرد، ودعوت جارية لي ألاعبها، فلم تطب نفسي بذلك، ودخلت القائلة، فلم يأخذني النوم.
فنهضت، وأمرت ببغلة لي شهباء، فأسرجت، فركبتها، فلما خرجت استقبلني وكيل لي ومعه ألفا درهم.
فقلت له: ما هذا ؟.
فقال: ألفا درهم، جبيتها من مستغلك الجديد.
قال: قلت: أمسكها معك، واتبعني.
قال: ومضيت، وخليت رأس البغلة، حتى عبرت الجسر، ثم مضت بي في شارع دار الرقيق، حتى انتهيت إلى الصحراء، ثم رجعت إلى باب الأنبار، فطوفت، فلما صرت في شارع باب الأنبار، انتهيت إلى باب دار لطيف، عنده شجرة، وعلى الباب خادم، فوقفت، وقد عطشت.
فقلت للخادم: أعندك ما تسقينيه ؟.
قال: نعم فأخرج قلة نظيفة طيبة الريح، عليها منديل، فناولنيها، فشربت.
وحضر وقت العصر، فدخلت مسجداً، فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي، إذا أنا بأعمى يتلمس.
قلت: ما تريد يا هذا ؟.
قال: إياك أريد.
قلت: وما حاجتك ؟.
فجاء، حتى قعد إلي، فقال: شممت منك رائحة الطيب فتخيلت أنك من أهل النعمة، فأردت أن ألقي إليك شيئاً.
فقلت: قل.
قال: أترى هذا القصر ؟.
قلت: نعم.

قال: هذا قصر كان لأبي، فباعه، وخرج إلى خراسان، وخرجت معه، فزالت عنا النعمة التي كنا فيها، فأتيت صاحب الدار، لأسأله شيئاً يصلني به فإني في ضنك شديد، وضغطة عظيمة، ورزوح حال قبيح، وأصير إلى سوار، فإنه كان صديقاً لأبي.
قلت: ومن أبوك ؟.
قال: فلان بن فلان، فإذا أصدق الناس - كان - لي.
فقلت: يا هذا، إن الله قد أتاك بسوار، منعه الطعام والشراب والنوم، حتى جاء به فأقعده بين يديك.
ثم دعوت الوكيل، وأخذت منه الألفي درهم، فدفعتها إليه، وقلت له: إذا كان غداً، فصر إلي، إلى المنزل.
ثم مضيت، فقلت: ما أحدث المهدي، بشيء أطرف من هذا، فأتيته، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فحدثته بالحديث، فأعجب به، وأمر لي بألفي دينار، فأحضرت.
فقال لي: ادفعها إليه.
قال: فنهضت، فقال لي: اجلس، أعليك دين ؟.
قلت: نعم.
قال: كم مبلغه ؟.
قلت: خمسون ألف دينار.
فقال: تحمل إليك، فاقض بها دينك، فقبضتها.
فلما كان من الغد، أبطأ علي المكفوف، وأتاني رسول المهدي، يدعوني، فجئته.
فقال: فكرت في أمرك، فقلت: يقضي دينه، ثم يحتاج إلى الحيلة والقرض، وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى.
قال: فقبضتها، وانصرفت، فجاءني المكفوف، فدفعت إليه الألفي دينار، وقلت له: قد رزق الله خيراً كثيراً، وأعطيته من مالي ألفي دينار أخرى، فقبض أربعة آلاف دينار، ودعا لي، وقال: والله، ما ظننت أني أصل منك، ولا من أحد من أهل هذه البلاد، إلى عشر هذا المال، فجزاك الله خيراً.

عروة بن أذينة يفد على هشام بن عبد الملك

أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: حدثنا محمد بن جرير الطبري، عن يحيى بن عروة بن أذينة، قال: أضاق أبي، إضاقة شديدة، وتعذرت عليه الأمور، فعمل شعراً امتدح به هشام بن عبد الملك.
ودخل عليه في جملة الشعراء، فلما دخلوا عليه، نسبهم، فعرفهم جميعاً وقال لأبي: أنشدني قولك: لقد علمت ....، فأنشده:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي ... أنّ الّذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو جلست أتاني لا يعنّيني
وأيّ حظّ امرئٍ لا بدّ يبلغه ... يوماً ولا بدّ أن يحتازه دوني
لا خير في طمع يهدي إلى طبعٍ ... وعلقة من قليل العيش تكفيني
لا أركب الأمر تزري بي عواقبه ... ولا يعاب به عرضي ولا ديني
أقوم بالأمر إمّا كان من أربي ... وأكثر الصمت فيما ليس يعنيني
كم من فقير غنيّ النّفس تعرفه ... ومن غنيّ فقير النّفس مسكين
وكم عدوّ رماني لو قصدت له ... لم يأخذ البعض منّي حين يرميني
وكم أخ لي طوى كشحاً فقلت له ... إنّ انطواءك عنّي سوف يطويني
لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
فقال هشام: ألا جلست في بيتك، حتى يأتيك رزقك ؟.
قال: وغفل عنه هشام، فخرج من وقته، وركب راحلته، ومضى منصرفاً.
فافتقده هشام، فسأل عنه، فعرف خبره، فأتبعه بجائزة.
فمضى الرسول، فلحقه على ثلاثة فراسخ، وقد نزل على ماء يتغدى عليه.
فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: أردت أن تكذبنا، وتصدق نفسك ؟ هذه جائزتك.
فقال: قل له: قد صدقني الله، وأتاني برزقي بحمده.
قال يحيى: وفرض له فريضتين، كنت في إحداهما.
أبو أيوب المورياني يجيز ابن شبرمة بخمسين ألف درهمقرئ على أبي بكر الصولي، وأنا أسمع، في المسجد الجامع بالبصة، حدثكم الغلابي، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن ميثم، وقد كان جاز المائة سنة، قال: سمعت ابن شبرمة، يقول: زوجت ابني على ألفي درهم، وما هي عندي، فطولبت بها، فصرت إلى أبي أيوب المورياني، فقلت له: إني اخترتك لحاجتي، وعرفته خبري، فأمر لي بألفي درهم، فشكرته وقمت.
فقال: اجلس، ألا تريد خادماً ؟.
قال: فقلت: إن رزق الله.
قال: وهذه ألفان لخادمك، ألا تريد نفقة ؟ ألا تريد كذا ؟، وجعل يعدد ويعطيني.
حتى قمت على خمسين ألف درهم، وصلني بها.
ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، هذا الخبر، بلا إسناد، على قريب من هذا.
الواثق يطرد أحمد بن الخصيب من حضرته ثم يعفو عنه

حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك الكاتب، وكان يعرف بالديناري، لما بين أبيه الحسن بن رجاء، وبين دينار بن عبد الله، من القرابة، فإنهما كانا ابني خالة، على ما أخبرني، قال: حدثني أبو عيسى محمد بن سعيد الديناري الكاتب، جد أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن مقلة لأمه، قال: لما تخلص أبو أيوب سليمان بن وهب، من نكبة المعتمد، وكنت أكتب له، وجلس في منزله، أمرني أن أكتب إلى العمال الذين ضياعه في أعمالهم، كتباً أعرفهم فيها رجوع الخليفة له، وتبينه باطل ما أنهي إليه، وحمل به عليه، وأخاطبهم عنه في أمر ضياعه وأسبابه.
فكتبت نسخة، قلت فيها: إن أمير المؤمنين - أعزه الله - لما وقف على تمويه من موه عليه في أمرنا، فعل وصنع.
فلما وقف على هذا الفصل، خط على هذا الحرف، وأبدله بغيره، ولم يغير في النسخة سواه.
وقال لي: إذا فرغت من تحرير الكتب، فأذكرني بالتمويه، أحدثك بما كرهته له.
قال: فحررت الكتب، فلما خلا، سألته: لم ضرب على التمويه ؟، فقال: نعم لما غضب علي الواثق، وعلى أحمد بن الخصيب، بسبب إيتاخ، وأشناس، كانت موجدته علينا بسبب واحد، وحبسه لنا في معنى واحد، فمكثنا في الحبس والقيد، إلى أن كلم فينا، فأمر بإحضارنا.
فقلت لأحمد بن الخصيب: قد دعانا، وأظن أنه سيوبخنا، ويعدد علينا ما قرفنا به عنده، ليخرج ما في نفسه، فيعظم منته علينا، بما يأتيه من إطلاقنا، وأعرف عجلتك، وتسرعك إلى ما يضرك، وكأني بك حين يبتدئ بتقريعنا، قد قطعت كلامه، وأنحيت عليه بلسانك ويديك، فأنشأت لنا استئناف غضب وموجدة، وأكسبتنا شراً مما قد أملنا الخلاص منه.
فقال لي: فما أعمل ؟.
قلت: لست أحسبك تتهمني على نفسي ولا عليك، ولا تشك أننا حبسنا لقضية واحدة، فولني جوابه، وأعرني سكوتك، ودعني أرفق به، وأخدعه بما تخدع به الملوك، فلعلنا نتخلص من المكروه الذي نحن فيه.
قال: أفعل.
فاستحلفته على ذلك، فحلف لي.
فلما دخلنا الصحن، وجدنا الخليفة يستاك، وبين يديه طست ذهب، وإبريق ذهب، بيد فراش قائم، وبيد الخليفة مسواك طوله ذراعان.
فلما رآنا، قال: أحسنت إليكما، واصطنعتكما، فخنتماني، وكفرتما نعمتي، وفعلتما، وصنعتما.
فكأني - والله - إنما أوصيت أحمد بن الخصيب، ألا يدعه ينطق.
فقال له، وقد رفع يديه في وجهه: لا والله يا أمير المؤمنين، ما بلغك عنا الحق، ولا فعلنا شيئاً مما سعي بنا، ولقد موه عليك في أمرنا.
فقال: إنما يموه على غبي مثلك، فأومأت إليه بعيني، فأمسك بعض الإمساك.
وعاد الواثق يتمم كلامه، ويعدد علينا نعمه ومننه، فما ملك أحمد نفسه، أن رفع يده، وقال: والله يا أمير المؤمنين، ما كفرنا نعمتك، ولا فعلنا، ولا صنعنا، إنما موه على أمير المؤمنين في أمرنا.
فقال: يا جاهل، قد عدت لها، إنما يجوز التمويه على أحمق مثلك، وأومأت إليه بعيني، فأمسك.
وعاد الواثق في كلامه، فما انضبط أحمد أن رد قوله، وجاء بالتمويه.
فحين سمعها الواثق، انقلبت عيناه في أم رأسه، واستشاط غضباً، وأغلظ له في الشتم، وحذفه بالمسواك، فلولا أنه زاغ عنه، لهشم وجهه، وأعمى عينه.
ثم قال: يا غلمان، أخرجوه إلى لعنة الله، فأخرج أخزى خلق الله.
ونالني من الجزع، والغم، والحيرة في أمره، أمر عظيم، ولم أدر، أقف، أم أمضي، وخفت إن وقفت، أن يقول: ما وقوفك بين يدي، وقضيتكما واحدة، وإن مضيت أن نرد جميعاً إلى الحبس، فرجعت أتقهقر عن موضعي قليلاً، كأني أريد الخروج.
فقال لي: مكانك أنت يا سليمان، هب هذا على ما هو عليه، أنت أيضاً، تنكر أنك فعلت كذا، وصنعت كذا ؟.
فوجدت السبيل إلى ما أردت، فلم أزل أعترف، وألزم نفسي الجناية، وأديم الخضوع والاستعطاف، وأسأل الصفح والإقالة، إلى أن قال: قد عفوت عنك، فقبلت الأرض، وبكيت.
فقال: إخلعوا عليه، وأصرفوه إلى منزله، وليلزم الدار على عادته ورسمه.
فلما وليت، قال: وذلك الكلب، قد كنت أردت العفو عنه، فأخرجني عن حلمي سوء أدبه، فاخلعوا عليه أيضاً.
فخرجت، وإذا بأحمد في بعض الممرات، فعرفته الخبر، ثم قلت له: يا هذا كدت أن تأتي علينا، أرأيت أحداً يكرر على الخليفة لفظة قد كرهها، وأنكرها، ثلاث مرات ؟ أو ما علمت أن التمويه في الحقيقة ضرب من السخرية ؟ قال: فلم يخرج من قلبي فزع التمويه، من ذلك الوقت، إلى الآن.

غضب الرشيد على مروان بن أبي حفصة لمدحه معن بن زائدة وضربه مائة سوط

حدثني عبد الله بن عمر بن الحارث الواسطي السراج، المكفوف المعروف بأبي أحمد الحارثي، قال: حدثنا ابن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه، قال: بعث إلي الرشيد في وقت لم تكن عادته أن يستدعيني في مثله، وجاءني الرسول بوجه منكر، فأحضرني إحضاراً عنيفاً منكراً مستعجلاً، فوجلت وجلاً شديداً، وخفت، وجزعت.
فدخلت، فإذا الرشيد على بساط عظيم، وإلى جانبه كرسي خيزران، عليه جويرية خماسية، فسلمت، فلم يرد علي، ولا رفع رأسه إلي، وجعل ينكت الأرض بإصبعه.
فقلت: سعي بي عنده بباطل، يهلكني قبل كشفه، وأيست من الحياة.
فرفع رأسه، وقال: يا أصمعي، ألا ترى الدعي بن الدعي، اليهودي، عبد بني حنيفة، مروان بن أبي حفصة، يقول لمعن بن زائدة، وإنما هو عبد من عبيدنا:
أقمنا باليمامة بعد معنٍ ... مقاماً لا نريد به زيالا
وقلنا أين نذهب بعد معنٍ ... وقد ذهب النوال فلا نوالا
وكان النّاس كلّهم لمعنٍ ... إلى أن زار حفرته عيالا
فقال: إن النوال قد ذهب، مع بقائنا، فما يصنع بنا إذن ؟، ولم يرض حتى جعلني وخاصتي، عيالاً لمعن، والله، لأفعلن به ولأصنعن.
فقلت: يا أمير المؤمنين، عبد من عبيدك، أنت أولى بأدبه، أو العفو عنه.
فقال: علي بمروان، فدخل عليه.
فقال: السياط، فأخذ الخدم يضربونه بها، وهو يصيح: يا أمير المؤمنين، ما ذنبي ؟ يا أمير المؤمنين، استبقني، إلى أن ضرب أكثر من مائة سوط.
فقال: يا أمير المؤمنين، اعف عني، واذكر قولي فيك، وفي آبائك.
فقال: يا غلام، كف عنه، ثم قال: ما قلت، يا كلب ؟.
فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفّكم أم تسترون هلالها
أم تدفعون مقالة عن ربّه ... جبريل بلّغها النّبيّ فقالها
شهدت من الأنفال آخر آيةٍ ... بتراثهم فأردتم إبطالها
فدعوا الأسود خوادراً في غيلها ... لا تولغنّ دماءكم أشبالها
قال: فأمر بإطلاقه، وأن يدفع إليه ثلاثون ألف درهم.
فلما خرج، قال: يا أصمعي تدري من هذه الصبية ؟.
قلت: لا أدري.
قال: هذه مؤنسة بنت أمير المؤمنين، فدعوت له ولها، وتأملته، فإذا هو شارب ثمل.
قال: قم فقبل رأسها.
فقلت: أفلت من واحدة، ودفعت إلى أخرى أشد منها، إن أطعته أدركته الغيرة فقتلني، وإن عصيته قتلني بمعصيتي له، فلما أحب الله عز وجل من تأخير أجلي، ألهمني أن وضعت كمي على رأسها، وقبلت كمي.
فقال: والله يا أصمعي، لو أخطأتها لقتلتك، أعطوه عشرة آلاف درهم، والحق بدارك.
فخرجت وأنا ما أصدق بالسلامة، فكيف بالحباء والكرامة.
أمدح بيت قالته العربقال المفضل بن محمد الضبي: أصبحت يوماً ببغداد، في خلافة المهدي، وأنا من أشد الناس إضاقة وضراً، لا أدري ما أعمل، حيرة وفكراً.
فخرجت، فجلست على باب منزلي بالصراة، أفكر فيما أصنع، فإذا أنا برسول المهدي، قد وقف علي.
فقال: أجب أمير المؤمنين، فراعني، وساء ظني.
فقلت: أدخل، فألبس ثيابي.
فقال: ما إلى ذلك سبيل.
فاشتد جزعي، وخشيت أن يأخذني بما كان بيني وبين إبراهيم بن عبد الله ابن حسن بن حسن رضي الله عنهم.
فاستدعيت ثيابي، وجددت وضوءاً على الباب، ولم أخبر أهلي بقصتي، ولا بما هجم من الغم علي.
وقلت: إن كان خيراً أو شراً، فسيبلغهم، فما معنى تعجيل الهم لهم.
ومضيت مع الرسول، حتى دخلت على المهدي، وأنا في نهاية الجزع، فسلمت، فرد علي السلام.
فقلت في نفسي: ليس إلا خيراً.
فقال: اجلس يا مفضل، فجلست.
فقال: أخبرني عن أمدح بيت قالته العرب.
فتبلدت ساعة، لا أذكر شيئاً، ثم أجرى الله على لساني، أن قلت: قول الخنساء.
فأشرق وجهه، وقال: حيث تقول ماذا ؟.
فقلت: حيث تقول:
وإنّ صخراً لوالينا وسيّدنا ... وإنّ صخراً إذا نشتو لنحّار
وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به ... كأنّه علم في رأسه نار
فاستبشر به، وقال: قد أخبرت هؤلاء بهذا، وأومأ إلى جماعة بين يديه، فلم يقبلوا مني.
قلت: كان أمير المؤمنين، أحق بالصواب منهم.
قال: يا مفضل، حدثني الآن.

قلت: أي الأحاديث ؟.
قال: أحاديث الأعراب فلم أزل أحدثه، بأحسن ما أحفظ منها، إلى أن كاد المنادي بالظهر أن ينادي.
ثم قال لي: كيف حالك يا مفضل ؟.
قلت: ما يكون حال رجل عليه عشرون ألف درهم ديناً حالاً، وليس في رزقه فضل لقضائها، وقصصت عيه قصة حالي ويومي في الإضافة.
فقال: يا عمر بن بزيع، ادفع إليه الساعة، عشرين ألف درهم يقضي بها دينه، وعشرين ألف درهم يصلح بها حاله، وعشرين ألف درهم يجهز بها بناته، ويوسع بها على عياله.
ثم قال: يا مفضل، ما أحسن ما قال ابن مطير، في مثل حالك:
وقد تغدر الدنيا فيضحي غنيّها ... فقيراً ويغنى بعد بؤس فقيرها
وكم قد رأينا من تكدّر عيشة ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها
فأخذت المال، وانصرفت إلى بيتي بستين ألف درهم، بعد الإياس، وتوطين النفس على ضرب الرقبة.

بين الأصمعي والبقال الذي على باب الزقاق

وجدت في بعض الكتب عن الأصمعي، قال: كنت بالبصرة، أطلب العلم، وأنا مقل، وكان على باب زقاقنا بقال، إذا خرجت باكراً يقول لي: إلى أين ؟ فأقول: إلى فلان المحدث، وإذا عدت مساء، يقول لي: من أين ؟ فأقول: من عند فلان الأخباري، أو اللغوي.
فيقول: يا هذا، اقبل وصيتي، أنت شاب، فلا تضيع نفسك، واطلب معاشاً يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب، حتى أطرحها في الدن، وأصب عليها من الماء للعشرة أربعة، وأنبذه، وأنظر ما يكون منه، والله، لو طلبت مني، بجميع كتبك، جرزة بقل، ما أعطيتك.
فيضيق صدري بمداومته هذا الكلام، حتى كنت أخرج من بيتي ليلاً، وأدخله ليلاً، وحالي - في خلال ذلك - تزداد ضيقاً، حتى أفضيت إلى بيع آجر أساسات داري، وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يومي، وطال شعري، وأخلق وبي، واتسخ بدني.
فأنا كذلك، متحيراً في أمري، إذ جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان الهاشمي، فقال: أجب الأمير.
فقلت: ما يصنع الأمير برجل بلغ به الفقر إلى ما ترى ؟.
فلما رأى سوء حالي، وقبح منظري، رجع فأخبر محمد بن سليمان بخبري، وعاد إلي، ومعه تخوت ثياب، ودرج فيه بخور، وكيس فيه ألف دينار.
وقال: قد أمرني الأمير، أن أدخلك الحمام، وألبسك من هذه الثياب، وأدع باقيها عندك، وأطعمك من هذا الطعام، وإذا بخوان كبير فيه صنوف الطعمة، وأبخرك، لترجع إليك نفسك، ثم أحملك إليه.
فسررت سروراً شديداً، ودعوت له، وعملت ما قال، ومضيت معه، حتى دخلت على محمد بن سليمان، فسلمت عليه، فقربني، ورفعني.
ثم قال: يا عبد الملك، قد اخترتك لتأديب ابن أمير المؤمنين، فاعمل على الخروج إلى بابه، وانظر كيف تكون ؟.
فشكرته، ودعوت له، وقلت: سمعاً وطاعة، سأخرج شيئاً من كتبي وأتوجه.
فقال: ودعني، وكن على الطريق غداً.
فقبلت يده، وقمت، فأخذت ما احتجت إليه من كتبي، وجعلت باقيها في بيت، وسددت بابه، وأقعدت في الدار عجوزاً من أهلنا، تحفظها.
وباكرني رسول الأمير محمد بن سليمان، وأخذني، وجاء بي إلى زلال قد اتخذ لي، وفيه جميع ما أحتاج إليه، وجلس معي، ينفق علي، حتى وصلت إلى بغداد.
ودخلت على أمير المؤمنين الرشيد، فسلمت عليه، فرد علي السلام.
وقال: أنت عبد الملك بن قريب الأصمعي.
قلت: نعم، أنا عبد أمير المؤمنين بن قريب الأصمعي.
قال: إعلم، أن ولد الرجل مهجة قلبه، وثمرة فؤاده، وهوذا أسلم إليك ابني محمداً بأمانة الله، فلا تعلمه ما يفسد عليه دينه، فلعله أن يكون للمسلمين إماماً.
قلت: السمع والطاعة.
فأخرجه إلي، وحولت معه إلى دار، قد أخليت لتأديبه، وأخدم فيها من أصناف الخدم، والفرش، وأجرى علي في كل شهر عشرة آلاف درهم، وأمر أن تخرج إلي في كل يوم مائدة، فلزمته.
وكنت مع ذلك، أقضي حوائج الناس، وآخذ عليها الرغائب، وأنفذ جميع ما يجتمع لي، أولاً، فأولاً، إلى البصرة، فأبني داري، وأشتري عقاراً، وضياعاً.
فأقمت معه، حتى قرأ القرآن، وتفقه في الدين، وروى الشعر واللغة، وعلم أيام الناس وأخبارهم.
واستعرضه الرشيد، فأعجب به، وقال: يا عبد الملك، أريد أن يصلي بالناس، في يوم الجمعة، فاختر له خطبة، فحفظه إياها.
فحفظته عشراً، وخرج، فصلى بالناس، وأنا معه، فأعجب الرشيد به، وأخذه نثار الدنانير والدراهم من الخاصة والعامة، وأتتني الجوائز والصلات من كل ناحية، فجمعت مالاً عظيماً.

ثم استدعاني الرشيد، فقال: يا عبد الملك، قد أحسنت الخدمة، فتمن.
قلت: ما عسى أن أتمنى، وقد حزت أماني.
فأمر لي بمال عظيم، وكسوة كثيرة، وطيب فاخر، وعبيد، وإماء، وظهر، وفرش، وآلة.
فقلت: إن رأى أمير المؤمنين، أن يأذن لي في الإلمام بالبصرة، والكتاب إلى عامله بها، أن يطالب الخاصة والعامة، بالسلام علي ثلاثة أيام، وإكرامي بعد ذلك.
فكتب إليه بما أردت، وانحدرت إلى البصرة، وداري قد عمرت، وضياعي قد كثرت، ونعمتي قد فشت، فما تأخر عني أحد.
فلما كان في اليوم الثالث، تأملت أصاغر من جاءني، فإذا البقال، وعليه عمامة وسخة، ورداء لطيف، وجبة قصيرة، وقميص طويل، وفي رجله جرموقان، وهو بلا سراويل.
فقال: كيف أنت يا عبد الملك ؟.
فاستضحكت من حماقته، وخطابه لي بما كان يخاطبني به الرشيد.
وقلت: بخير، وقد قبلت وصيتك، وجمعت ما عندي من الكتب، وطرحتها في الدن، كما أمرت، وصببت عليها من الماء للعشرة أربعة، فخرج ما ترى.
ثم أحسنت إليه بعد ذلك، وجعلته وكيلي.
المنذر بن المغيرة الدمشقي أحد صنائع البرامكة قال مسرور الكبير: استدعاني المأمون، فقال لي: قد أكثر علي أصحاب أخبار السر، أن شيخاً يأتي خرائب البرامكة، فيبكي وينتحب طويلاً، ثم ينشد شعراً يرثيهم به، وينصرف، فاركب أنت وأيوب الخادم، والأصمعي، ودينار بن عبد الله، واستترا بالجدران، فإذا جاء الشيخ، فأمهلاه، حتى تشاهدان ما يفعل، وتسمعان ما يقول، فإذا أراد الانصراف، فاقبضا عليه، وأتياني به.
قال مسرور: فركبت أنا ودينار وأيوب الخادم مغلسين، فأتينا الموضع، فاختفينا فيه، وأبعدنا الدواب.
فلما كان آخر الليل، إذا بخادم أسود قد أقبل، ومعه كرسي حديد، فطرحه، وجاء على أثره كهل، فجلس على الكرسي، وتلفت يميناً وشمالاً، فلم ير أحداً، فبكى وانتحب، حتى قلت: قد فارق الدنيا، وأنشأ يقول:
أما واللّه لولا خوف واشٍ ... وعينٍ للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للنّاس بالحجر استلام
ثم بكى طويلاً، وأنشأ يقول:
ولما رأيت جلل جعفراً ... ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسّفي ... عليها وقلت الآن لا تنفع الدنيا
وذكر أبياتاً طويلة، لا تدخل في كتابي هذا، فأرويها.
قال: فلما فرغ من إنشاده وقام، قبضنا عليه، فقال: ما تريدون ؟.
قلت: هذا دينار بن عبد الله، وهذا أيوب الخادم بالحرم، وهذا عبد الملك بن قريب الأصمعي، وأنا مسرور خادم أمير المؤمنين، وهو يستدعيك.
فأبلس، ثم قال: إني لا آمنه على نفسي فامهلاني حتى أوصي.
فقلت: شأنك وما تريد، فقام، وسار، ونحن معه، حتى أتى بعض دكاكين العلافين، بفرضة الفيل.
فاستدعى دواةً وبياضاً، وكتب فيها وصيته، ودفعها إلى الخادم الذي كان معه، وأنفذه إلى منزله، وسرنا به، حتى أدخلناه على المأمون، فلما مثل بين يديه، زبره، وانتهره.
ثم قال له: من أنت ؟ وبم استحق منك البرامكة ما تصنع في دورهم وخراباتهم ؟.
فقال: غير هائب، ولا محتشم: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة عندي أياد، فإن أمر أمير المؤمنين حدثته بإحداها.
فقال: هات.
قال: أنا المنذر بن المغيرة الدمشقي، من ذوي الحسب، نشأت في ظل نعم قديمة، فزالت عني، كما تزول النعم عن الناس، حتى أفضيت إلى بيع مسقط رأسي وروس آبائي، وأملقت حتى لا غاية، فأشير علي بقصد البرامكة.
فخرجت من الشام إلى بغداد، ومعي نيف وعشرون امرأة وصبياً وصبية، فدخلت بهم مدينة السلام، فأنزلتهم في مسجد.
ثم عمدت إلى ثويبات كنت قد أعددتها للقاء الناس، والتذرع بها للبرامكة، فلبستها، وسلكت الطريق، لا أدري أين أقصد، وكنت كما قيل:
وأصبح لا يدري وإن كان حازماً ... أقدّامه خير له أم وراءه
فلما قال ذلك، بكى المأمون، فقال له مسرور: أقصر يا رجل، فقد أتعبت أمير المؤمنين بوصفك.
فقال له المأمون: دعه يتحدث بما يريد.

قال: نعم، وتركت عيالي جياعاً لا نفقة لهم، ولا معهم ما يباع، فأفضيت إلى مسجد مزخرف، فيه جمع شيوخ، بأحسن زي، وأجمل هيأة، فطمعت في مخاطبتهم، فصعدت إلى المسجد، فجلست معهم، لم أزد على السلام، وجعلت أردد في صدري كلاماً أخاطبهم به، فيحصرني التشور، ويخجلني ذل المسألة، ويحبسني عن الكلام، وأتصبب عرقاً، حياءً وخوفاً من أن يقال لي: من أنت، وما تريد ؟ وما يمكنني الجواب، ولا أدري ما أخاطبهم به، إذ لم تكن لي عادة بالخوض في مثله.
فأنا كذلك، إذ جاء خادم فاستدعى القوم، فقاموا، وقمت معهم، ومضينا، فأدخلوا داراً ذات دهليز طويل، فدخلت معهم، وأفضينا إلى صحن واسع، وإذا شيخ بهي، فإذا هو يحيى بن خالد، على دكة أبنوس في صحن الدار، في وسط البستان، وله ميدان عنده بركة، وقد نصب عليها كراسي أبنوس.
وأقبل القوم، فجلسوا، وجلست معهم، وتأمل الخدم القوم وعددهم، فإذا نحن مائة رجل ورجل، فدخل الخدم وغابوا، ثم خرج مائة خادم وخادم، في يد كل واحد منهم مجمرة من ذهب، فيها قطعة كالفهر من عنبر، والخدم بأفخر الثياب، عليهم مناطق الذهب المرصعة بالجوهر، وهم يطيفون بغلام، حين اخضر شاربه، حسن الوجه، فسجروا العنبر.
وأقبل يحيى على الزريقي القاضي، وقال: زوج ابن أخي هذا، بابنتي عائشة على صداق قدره مائة ألف درهم.
فخطب، وعقد النكاح، وأخذنا النثار من فتات المسك، وبنادق العنبر، وتماثيل الند الصغار، والتقط الناس، والتقطت.
ثم جاء مائة خادم وخادم، في يد كل واحد منهم صينية فضة فيها ألف دينار، مخلوطة بالمسك، فوضع بين يدي كل رجل منا صينية.
فأقبلت الجماعة تكور الدنانير في أكمامها، وتأخذ الصواني تحت آباطها، وتنصرف، الأول، فالأول، حتى بقيت وحدي، لا أجسر على أخذ الصينية وما فيها، والأسف، والحاجة، يمنعاني أن أقوم وأدعها، وأنا مطرق، مفكر.
حتى ضاق صدري، فرفعت رأسي، فغمزني بعض الخدم على أخذها والقيام، فأخذتها وقمت، وأنا لا أصدق، وجعلت أمشي وأتلفت، خوفاً من أن يتبعني من يأخذها، ويحيى يلاحظني من حيث لا أعلم.
فلما قاربت الستر، رددت، فأيست من الصينية، فجئت - وهي معي - حتى قربت منه، فأمرني بالجلوس، فجلست.
فسألني عن حالي، وقصتي، ومن أنا، فصدقته، حتى إذا بلغت إلى تركي عيالي في المسجد، بكى.
ثم قال: علي بموسى، فجاء.
فقال: يا بني، هذا رجل من أبناء النعم، قد رمته الأيام بصروفها، والنوائب بحتوفها، فخذه، واخلطه بنفسك، واصطنعه.
فأخذني موسى إلى داره، فخلع علي من أفخر ثيابه، وأمر بحفظ الصينية لي، وقضيت على ذلك يومي وليلتي.
ثم استدعى أخاه العباس من الغد، وقال له: إن الوزير سلم إلي هذا الفتى، وأمرني فيه بكذا وكذا، وأريد أن أركب اليوم إلى دار أمير المؤمنين، فليكن عندك اليوم حتى أرتجعه غداً، فكان يومي عنده مثل أمسي.
وأقبلوا يتداولوني كل يوم، واحداً بعد واحد، وأنا قلق بأمر عيالي، إلا أنني لا أذكرهم إجلالاً لهم.
فلما كان في اليوم العاشر، أدخلت إلى الفضل بن يحيى، فأقمت في داره يومي وليلتي.
فلما أصبحت، جاءني خادم من خدمه، فقال: يا هذا قم إلى عيالك وصبيانك.
فقلت: إنا لله، لم أحصل لهؤلاء الصبيان على الأكل والشرب، والصينية وما فيها، وما حصلته من النثار، ذهب، فليت هذا كان من أول يوم، وكيف أتوصل الآن إلى يحيى، وأي طريق له إليه.
وتلاعبت بي الأفكار مخافة اليأس، وأظلمت الدنيا في عيني، وقمت أجر رجلي، والخادم يمشي بين يدي، حتى أخرجني من الدار، فازداد إياسي، وما زال يمشي بين يدي حتى أدخلني إلى دار كأن الشمس تطلع من جوانبها، وفيها من صنوف الفرش والأثاث والآلات، ما يكون في مثلها.
فلما توسطتها، رأيت عيالي أجمعين فيها، يرتعون في الديباج والشفوف، وقد حمل إليهم مائة ألف درهم، وعشرة آلاف دينار، والصينية والنثار، وسلم إلي الخادم، صك ضيعتين جليلتين.
وقال: هذه الدار، وما فيها، والضياع بغلاتها، لك.
فأقمت مع البرامكة في أخفض عيش، وأجل حال، حتى نزلت بهم النازلة.
ثم قصدني عمرو بن مسعدة في الضيعتين، فألزمني في خراجهما، ما لا يفي به دخلهما.
فلحقتني شدة عظيمة، فكلما لحقتني نائبة واشتدت بي بلية، قصدت دورهم ومنازلهم، فبكيتهم، ورثيتهم، وشكرتهم، ودعوت لهم، على ما كان منهم إلي، وشكوت ما حل بي بعدهم، فأجد لذلك راحة.

قال: فاستدعى المأمون عمرو بن مسعدة، فلما أتي به، قال له: أتعرف هذا الرجل ؟.
قال: يا أمير المؤمنين، هو بعض صنائع البرامكة.
فأمره ان يرد على الرجل، كلما استخرج منه، وأن يقرر خراجه على ما كان عليه أيام البرامكة وأن يجعل له ضيعة أخرى من جملة الإيغارات يكون دخلها له ويتخذ به سجلاً وأن يقضي حقه ويكرمه، فبكى الشيخ بكاءً شديداً.
فقال له المأمون: ألم أستأنف إليك جميلاً فما بكاؤك ؟.
فقال: بلى والله يا أمير المؤمنين، وزدت على كل فضل وإحسان، ولكن هذا من بركة الله، وبركة البرامكة علي، وبقية إحسانهم إلي، فلو لم آت خراباتهم، فأبكيهم، وأندبهم، حتى اتصل خبري بأمير المؤمنين، ففعل بي ما فعل، من أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين.
فقال له المأمون: إمض مصاحباً، فإن الوفاء مبارك، وحسن العهد من الايمان.

البرامكة

جاء في الفخري 197: إن دولة آل برمك، كانت غرة في جبهة الدهر، وتاجاً على مفرق العصر، فان يحيى وبنوه، كالنجوم زاهرة، والبحار زاخرة، والسيول دافقة، والغيوث ماطرة، أسواق الأدب عندهم نافقة، ومراتب ذوي الحرمات عندهم عالية، والدنيا في أيامهم عامرة، وأبهة المملكة ظاهرة، وهم ملجأ الضعيف، ومعتصم الطريد، وفيهم يقول أبو نؤاس:
سلامٌ على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمكٍ من رائحين وغاد
وقال الجاحظ: البرامكة محض الأنام، ولباب الكرام، وملح الأيام، عتق منظر، وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاهة نفس، واكتمال خصال، العقد الفريد 5 - 28، وقال عنهم أيضاً: إن أيامهم كانت رياض الأزمنة وفيات الأعيان 3 - 474.
وقال محمد بن جميل الكاتب: كان البرامكة شفاء سقام دهرهم، وغياث جدب عصرهم، وما زالوا كهفاً للاجئين، ومفزعاً للملهوفين قطب السرور 63.
وقال القاضي التنوخي، في امتداح مجلس من مجالس الوزير المهلبي: كأنه من مجالس البرامكة نشوار المحاضرة القصة رقم 1 - 28.
وقال سليمان بن وهب، لشخص أحسن إليه: إنك قد فعلت ما لم تفعله البرامكة القصة 165 من هذا الكتاب.
وقال صالح، صاحب المصلى: إن الدهر لا يخلف مثل يحيى أبداً القصة 371 من هذا الكتاب.
وقال إسحاق الموصلي، في الفضل بن يحيى البرمكي، سبحان الذي خلق هذا الرجل، وجبله على كرم بذ به من مضى ومن غبر المحاسن والمساوئ 2 - 22.
وحلف إسحاق الموصلي، بالله الذي لا إله إلا هو: ما رأيت أذكى من جعفر بن يحيى قط، ولا أفطن، ولا أعلم بكل شيء، ولا أفصح لساناً، ولا أبلغ في المكاتبة الأغاني 4 - 325.
وقال ثمامة بن أشرس: ما رأيت رجلاً أبلغ من جعفر بن يحيى البرمكي والمأمون تاريخ الخلفاء 326.
وقال إبراهيم بن المهدي: ما رأيت أكمل من جعفر قط الأوراق للصولي، أشعار أولاد الخلفاء 34.
وأبو حيان التوحيدي، الذي كان كثير الغرام، بثلب الكرام معجم الأدباء 2 - 282 إذ لم يترك أحداً من رؤساء زمانه، إلا وشتمه، أثنى على البرامكة في كتابه أخلاق الوزيرين، فذكر أن معروفهم كان يسع الصغير والكبير، ويعم الغني والفقير أخلاق الوزيرين 489، ونقل في كتابه كذلك ما أورده محمد بن داود الجراح، في كتابه أخبار الوزراء، في الثناء عليهم، فقال: كان آل برمك أندى من السحاب أخلاق الوزيرين 380.
وفي محاضرات الأدباء 3 - 198: إن امرأة بجعفر بن يحيى، وقد صلب، فقالت: لئن صرت اليوم راية، لقد كنت بالأمس غاية.
وفي تحفة المجالس 179: إن البرامكة كانوا يقصدون من آفاق الأرض، وقال أعرابي قصدهم من اليمن: قصدت هؤلاء الأمجاد، الذين انتشر صيتهم في البلاد.
وكان للبرامكة من السخاء والكرم، ما لم يكن لأحد من الناس، وكانوا يخرجون بالليل سراً، ومعهم الأموال يتصدقون بها، وربما دقوا على الناس أبوابهم، فيدفعون إليهم الصرة، بين الثلاثة آلاف إلى الخمسة آلاف، أو الأكثر من ذلك، والأقل، وربما طرحوا ما معهم في عتب الأبواب، فكان الناس - لاعتيادهم ذلك - يعدون إلى العتب، إذا أصبحوا، يطلبون ما القي فيها المحاسن والمساوئ 1 - 150.
وقال فيهم الشاعر: وفيات الأعيان 4 - 35.
عند الملوك مضرّة ومنافع ... وأرى البرامك لا تضرّ وتنفع
إن كان شرّ كان غيرهم له ... والخير منسوب إليهم أجمع
وقال أبو نؤاس: وفيات الأعيان 5 - 59

إنّ البرامكة الكرام تعلّموا ... فعل الجميل فعلّموه الناسا
كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لم يهدموا مما بنوه أساسا
وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى ... جعلوا لها طول البقاء لباسا
وقال أشجع السلمي، يذكر أيامهم: وفيات الأعيان 1 - 336
كأنّ أيّامهم من حسن بهجتها ... مواسم الحجّ والأعياد والجمع
وأصبح جود البرامكة، على تمادي الأيام، مضرب المثل، قال الجماز: جاءنا فلان، بمائدة، كأنها زمن البرامكة على العفاة زهر الأداب 2 - 3 والملح والنوادر 236.
والبغداديون، إلى وقتنا هذا، يذكرون البرامكة، ويصفون الرجل الكريم النفس، السخي اليد، بأنه: برمكي.
وعمت شهرة البرامكة بالجود، جميع أنحاء الدنيا، بحيث أن المقري في نفح الطيب 3 - 109 أمتدح أحد أمراء الموحدين بالأندلس، فوصفه بأن له حكايات في الجود برمكية.
وقد أنكر صاعد، وزير الموفق، ما يذكر عن البرامكة، وقال: هذه أقاصيص من صنع الوراقين، فقال له أبو العيناء: لم لا يكذب على الوزير - أعزه الله - مثل هذا الكذب، وهو حي، يرجى ويخاف، وأولئك موتى، مأيوس من خيرهم وشرهم، القصة 1 - 1 من نشوار المحاضرة.
وبالنظر لعدم وجود سبب واضح عن نكبتهم، فقد خبط المؤرخون خبطاً في الاستنتاج، وذكر كل واحد منهم سبباً، أو أكثر من سبب، فادعى بعضهم أن السبب سياسي، وأنهم أرادوا قلب الدولة، وقال بعضهم: أن ثمة سبباً يتعلق بزواج جعفر، زواجاً لم يرضه الخليفة، وهذا كله لا أصل له، فإن البرامكة، لو أرادوا قلب الدولة، لحاولوا ذلك عندما كانت خراسان في قبضتهم، وأما قضية الزواج، فهي أقصوصة لا تعلق بقبول، ولا تدخل في معقول، والذي يظهر للمتأمل، أن استئثار البرامكة بالحكم، وانقياد الناس لهم، ولهجتهم بالثناء عليهم، والتعلق بهم، أثار غيرة الرشيد، وأشعل نار هواجسه، وصادف وجود دساسين، من رجال الحاشية، ممن يرغب في انتقال السلطة من البرامكة إليهم، مثل الفضل بن الربيع، وعلي بن عيسى بن ماهان، وأحمد بن صبيح، فتظافروا، وأغروا الرشيد بهم، فوجدوا منه أذناً سامعة، وكانت الخيزران، أم الرشيد، حامية البرامكة، قد توفيت في السنة 173، فلم يكد الرشيد يودعها قبرها، حتى دعى الفضل ابن الربيع، وأمره بأخذ الخاتم من جعفر، وحلف له إنه كان يهم بأن يوليه، فتمنعه أمه، فيطيع أمرها الطبري 8 - 238.
ولعل أصح ما ورد في هذا الباب، ما ذكره ابن خلكان في كتاب وفيات الأعيان 1 - 335، قال: سئل سعيد بن سالم عن جناية البرامكة الموجبة لغضب الرشيد، فقال: والله، ما كان منهم ما يوجب بعض ما عمل الرشيد بهم، ولكن طالت أيامهم، وكل طويل مملول، ووالله، لقد استطال الناس، الذين هم خير الناس، أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما رأوا مثلها عدلاً، وأمناً، وسعة أموال، وفتوح، وأيام عثمان رضي الله عنه، حتى قتلوهما، ورأى الرشيد - مع ذلك - أنس النعمة بهم، وكثرة حمد الناس لهم، ورميهم بآمالهم دونه، والملوك تتنافس بأقل من هذا، فتعنت عليهم، وتجنى، وطلب مساويهم، ووقع منهم بعض الإدلال، خاصة جعفر والفضل، دون يحيى، فإنه كان أحكم خبرة، وأكثر ممارسة للأمور، ولاذ من إعدائهم قوم بالرشيد، كالفضل بن الربيع، وغيره، فستروا المحاسن، وأظهروا القبائح، حتى كان ما كان.
ويؤيد هذا الرأي، ما روي عن هرون الرشيد أنه قال: إن الدالة تفسد الحرمة، وتنقص الذمة، ومنها أتي البرامكة كتاب الآداب لمجد الملك جعفر بن شمس الخلافة ص20.

وقد ذهب المؤرخ ابن خلدون، إلى هذا الرأي، قال: إنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجانهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه، فعظمت آثارهم، وبعد صيتهم، وعمروا مراتب الدولة وخططها، بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عمن سواهم، من وزارة، وكتابة، وقيادة، وحجابة، وسيف، وقلم، ويقال إنه كان بدار الرشيد، من ولد يحيى بن خالد، خمسة وعشرون رئيساً، من بين صاحب سيف وصاحب قلم، زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب، ودفعوهم عنها بالراح، لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون، ولي عهد، وخليفة، حتى شب في حجره، ودرج من عشه، وغلب على أمره، وكان يدعوه: يا أبت، فتوجه الإيثار من السلطان إليهم، وعظمت الدالة منهم، وانبسط الجاه عندهم، وانصرفت نحوهم الوجوه، وخضعت لهم الرقاب، وتخطت إليهم من أقصى التخوم، هدايا الملوك، وتحف الأمراء، وسيرت إلى خزائنهم، في سبيل التزلف والإستمالة، أموال الجباية، وأفاضوا في رجال الشيعة يريد شيعة بني العباس وعظماء القرابة، العطاء، وطوقوهم المنن، وكسبوا من بيوتات الأشراف، المعدم، وفكوا العاني، ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم، وأسنوا لعفاتهم الجوائز والصلات، واستولوا على القرى والضياع، حتى آسفوا البطانة، وأحقدوا الخاصة، وأغصوا أهل الولاية تاريخ ابن خلدون 1 - 13 و14.
وذكر صاحب الأغاني 18 - 303: أن الرشيد ندم على قتله البرامكة، وربما بكى عليهم في بعض المجالس.
وذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان 6 - 228 و229 نقلاً عن الجهشياري: أن الرشيد ندم على ما كان منه في أمر البرامكة، وتحسر على ما فرط منه في أمرهم، وخاطب جماعة من إخوانه، بأنه لو وثق منهم بصفاء النية، لأعادهم إلى حالهم، وكان الرشيد كثيراً ما يقول: حملونا على نصحائنا وكفاتنا، وأوهمونا أنهم يقومون مقامهم، فلما صرنا إلى ما أرادوا، لم يغنوا عنا، وأنشد:
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللّوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا
راجع بعض أخبار البرامكة في المحاسن والمساوئ 1 - 140 و141 و151 - 162 وراجع في العقد الفريد 5 - 62 - 65 الحوار الذي جرى بين هارون الرشيد وبين فاطمة بنت محمد بن الحسن بن قحطبة، أم جعفر البرمكي. وهي أم الرشيد بالرضاعة، وراجع بشأن الثناء على البرامكة، القصة 1 - 2 و1 - 3 من كتاب نشوار المحاضرة للتنوخي، وراجع كذلك في كتاب الأوراق للصولي أشعار أولاد الخلفاء ص47 الحوار الذي جرى بين الرشيد وبين أخته علية حول مقتل جعفر البرمكي، وراجع في كتاب جواهر الأدب من خزائن العرب ص418 قصة عن الفضل وجعفر، رواها محمد بن عبد الرحمن الهاشمي، صاحب صلاة الكوفة، وراجع الطبري 8 - 300 - 302 والأغاني ط بولاق 20 - 31.

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان

بلغني أنه كان بالكوفة رجل من أهل الأدب والظرف، يعاشر الناس، وتأتيه ألطافهم، فيعيش بها.
ثم انقلب الدهر عليه، فأمسك الناس عنه، وجفوه حتى قعد في بيته، والتجأ إلى عياله، فشاركهن في فضل مغازلهن، واستمر ذلك عليه، حتى نسيه الناس، ولزمه الفقر.
قال: فبينما أنا ذات ليلة في منزلي، على أسوء حال، إذا وقع حافر دابة، ورجل يدق بابي، فكلمته من وراء الباب.
فقلت: ما حاجتك ؟.
فقال: إن أخاً لك لا أسميه، يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إني رجل مستتر، ولست آنس بكل أحد، فإن رأيت أن تصير إلي، لنتحدث ليلتنا.
فقلت في نفسي: لعل جدي أن يكون قد تحرك ؟ ثم لم أجد لي ما ألبسه، فاشتملت بأزار امرأتي، وخرجت، فقدم إلي فرساً مجنوباً كان معه، فركبته.
إلى أن أدخلني إلى فتى من أجل الناس وأجملهم وجهاً، فقام إلي، وعانقني، ودعا بطعام فأكلنا، وبشراب فشربنا، وأخذنا في الحديث، فما خضت في شيء إلا سبقني إليه.
حتى إذا صار وقت السحر، قال: إن رأيت أن لا تسألني عن شيء من أمري، وتجعل هذه الزيارة بيني وبينك، إذا أرسلت إليك فعلت، وها هنا دراهم تقبلها، ولا تردها، ولا يضيق بعدها عنك شيء، فنهضت، فأخرج إلي جراباً مملوءاً دراهم.
فدخلتني أريحية الشراب، فقلت: اخترتني على الناس للمنادمة، ولسرك، وآخذ على ذلك أجراً ؟ لا حاجة لي في المال.

فجهد بي، فلم آخذه، وقدم إلي الفرس، فركبته، وعدت إلى منزلي، وعيالي متطلعون لما أجيء به، فأخبرتهم بخبري.
وأصبحت نادماً على فعلي، وقد ورد علي وعلى عيالي، ما لم يكن في حسابنا.
فمكثت حيناً، لا يأتي إلي رسول الرجل، إلى أن جاءني بعد مدة، فصرت إليه، فعاودني بمثل ذلك الفعل، فعاودته بالامتناع، وانصرفت مخفقاً، فأقبلت امرأتي علي باللوم والتوبيخ.
فقلت لها: أنت طالق ثلاثاً إن عاودني ولم آخذ ما يعطيني.
فمكثت مدة أطول من الاولة، ثم جاءني رسوله، فلما أردت الركوب، قالت لي امرأتي: يا ميشوم اذكر يمينك، وبكاء بناتك، وسوء حالك.
فصرت إلى الرجل، فلما أفضينا إلى الشراب، قلت له: إني أجد علة تمنعني منه، وإنما أردت أن يكون رأيي معي.
فأقبل الرجل يشرب، وأنا أحادثه، إلى أن انبلج الفجر، فأخرج الجراب، وعاودني، فأخذته، فقبل رأسي، وشكرني على قبول بره، وقدم إلي الفرس، فانصرفت عليه، حتى انتهيت إلى منزلي، فألقيت الجراب.
فلما رآه عيالي، سجدن لله شكراً، وفتحناه، فإذا هو مملوء دنانير.
فأصلحت منه حالي، واشتريت مركوباً، وثياباً حسنة، وأثاثاً، وضيعة قدرت أن غلتها تفي بي، وبعيالي بعدي، واستظهرت على زماني ببقية الدنانير.
وانثال الناس علي، يظهرون السرور بما تجدد لي، وظنوا أني كنت غائباً في انتجاع ملك، فقدمت مثرياً، وانقطع رسل الرجل عني.
فبينما أنا أسير يوماً بالقرب من منزلي، فإذا ضوضاء عظيمة، وجماعة مجتمعة.
فقلت: ما هذا ؟.
قالوا: رجل من بني فلان، كان يقطع الطريق، فطلبه السلطان، إلى أن عرف خبره ها هنا، فهجم عليه، وقد خرج على الناس بالسيف، يمنع نفسه.
فقربت من الجمع، وتأملت الرجل، فإذا هو صاحبي بعينه، وهو يقاتل العامة، والشرط، ويكشف الناس، فيبعدون عنه، ثم يتكاثرون عليه ويضايقونه.
فنزلت عن فرسي، وأقبلت أقوده، حتى دنوت منه، وقد انكشف الناس عنه.
فقلت: بأبي أنت وأمي، شأنك والفرس، والنجاة، فاستوى على ظهره، فلم يلحق.
فقبض علي الشرط، وأقبلوا علي، يلهزوني، ويشتموني، حتى جاءوا بي إلى عيسى بن موسى، وهو والي الكوفة، وكان بي عارفاً.
فقالوا: أيها الأمير، كدنا أن نأخذ الرجل، فجاء هذا، فأعطاه فرساً نجا عليه.
فاشتد غضب عيسى بن موسى، وكاد أن يوقع بي، وأنا منكر لذلك.
فلما رأيت المصدوقة، قلت: أيها الأمير، أدنني إليك، أصدقك.
فاستدناني، فشرحت له ما كان أفضت بي الحال إليه، وما عاملني به الرجل، وأني كافأته بجميل فعله.
فقال لي سراً: أحسنت، لا بأس عليك.
ثم التفت إلى الناس فقال: يا حمقى، هذا يتهم ؟ إنما لفظ حافر فرسه حصاة، فقاده ليريحه، فغشيه رجل مستقتل، بسيف ماض، قد نكلتم عنه بأجمعكم، فكيف كان هو يدفعه عن فرسه ؟ انصرفوا، ثم خلى سبيلي.
فانصرفت إلى منزلي، وقد قضيت ذمام الفتى، وحصلت النعمة بعد الشدة، وأمنت عواقب الحال، وكان آخر عهدي به.

جعفر بن سليمان أمير البصرة يصفح عمن سرق منه جوهرا

ً
سرق لجعفر بن سليمان الهاشمي جوهر فاخر بالبصرة، وهو أميرها، فجهد أن يعرف له خبراً، فخفي عليه، فأقلقه ذلك، وغاظه، وجد بالشرط وضربهم، وألزمهم إظهاره، فجدوا في الطلب.
فلما كان بعد شهور، أتاه بعضهم برجل وجده في ساباط اللؤلؤ، يبيع درة فاخرة من ذلك الجوهر، قد قبض عليه، وضربه ضرباً عظيماً إلى أن أقر، فأخبر جعفر بخبره، فأذن بدخوله.
فلما رأى الرجل جعفراً، استغاث به، وبكى، ورققه، فرحمه جعفر، وقال: ألم تكن طلبت مني هذه الدرة في وقت كذا، فوهبتها لك ؟.
فقال: بلى.
فقال للشرط: خلوا عنه، واطلبوا اللص.
أخذ الصينية من لا يردها ورآه من لا ينم عليهوروت الفرس قريباً من هذا، فذكروا أن بعض ملوكهم، سخط على حاجب له سخطاً شديداً، وألزمه بيته، وكان فيه كالمحبوس، وقطع عنه أرزاقه وجراياته، فأقام على ذلك سنين، حتى تهتك، ولم تبق له حال.
ثم بلغه أن الملك قد أتخذ سماطاً عظيماً، يحضره الناس في غد يومه ذلك، فراسل أصدقاءه، وأعلمهم أن له حقاً يحضره لبعض ولده، واستعار منهم دابة بسرجه ولجامه، وغلاماً يسعى بين يديه، وخلعة يلبسها، وسيفاً، ومنطقة، فأعير ذلك، فلبسه، وركب الدابة، وخرج من منزله، إلى أن جاء إلى دار الملك.

فلما رآه البوابون لم يشكوا في أنه ما أقدم على ذلك إلا بأمر الملك، وتذمموا لقديم رئاسته عليهم، فأشفقوا من عودها أن يحجبوه إلى أن يستثبتوا.
ودخل هو مظهراً القوة بأمر نفسه، ولم تزل تلك حاله، مع طائفة، حتى وصل إلى الملك، وقد أكل، وهو جالس يشرف.
فلما رآه الملك قطب، وأنكر حضوره، وهم بأن يأمر به، وبالحجاب، والبوابين، فكره أن ينغص يوماً قد أفرده بالسرور على نفسه.
وأقبل الرجل يخدم، فيما كان يخدم فيه قديماً، فازدادت الحال تمويهاً على الحجاب والحاشية، إلى أن كاد المجلس ينصرم، وغفل أكثر من كان حاضراً عنه.
فتقدم إلى صينية ذهب زنتها ألف مثقال، مملؤة مسكاً، فأخذها بخفة، وجعل المسك في كمه، والصينية في خفه، والملك يراه.
وخرج، وعاد إلى منزله، ورد العواري إلى أهلها، وباع المسك، وكسر الصينية، وجعلها دنانير، واتسع بها حاله.
وأفاق الملك - من غد - من سكره، وسمع من يخدم في الشراب يطلب الصينية، وقهرمان الدار يضرب قوماً في طلبها، فذكر حديث الحاجب، وعلم أنه ما حمل نفسه على الغرر الشديد في ذلك، إلا من وراء شدة وضر.
فقال لقهرمانه: لا تطلب الصينية، فما لأحد في ضياعها ذنب، فقد أخذها من لا يردها، ورآه من لا ينم عليه.
فلما كان بعد سنة، عاد ذلك الحاجب، إلى شدة الإضاقة، بنفاد الدنانير، وبلغه خبر سماط يكون عند الملك، في غد يومه، فاحتال بحيلة أخرى، حتى دخل إلى حضرة الملك، وهو يشرب.
فلما رآه الملك، قال: يا فلان، نفذت تلك الدنانير ؟.
فقبل الأرض بين يديه، وبكى، ومرغ خديه، وقال: أيها الملك، قد احتلت مرتين، على أن تقتلني فأستريح مما أنا فيه، من عظم الضر الذي أعانيه، أو تعفو عني كما يليق بك، وتذكر خدمتي، فأعيش في ظلك، وليست لي بعد هذا اليوم حيلة.
فرق له الملك، وعفا عنه، وأمر برد أرزاقه عليه ونعمته، ورده إلى حالته الأولى في خدمته.

سفتجة بثلاث صفعات يفتديها المحال عليه بخمسمائة وخمسين دينارا

ً
بلغني عن رجل من أهل ديار ربيعة، كانت له حال صالحة، فزالت، قال: فلزمتني المحنة والإضاقة، مدة طويلة، فتحيرت، ولم أدر ما أعمل.
وكان أمير الناحية إذ ذاك، العباس بن عمرو الغنوي، وكانت بيني وبين كاتبه معرفة قديمة، فأشير علي بأن ألقاه، وآخذ كتاباً عن العباس إلى بعض أصدقائه من أمراء النواحي وأخرج إليه، فلعلى أتصرف معه، وأعود من جهته بفائدة أجعلها أصل معيشة.
فلقيت الكاتب، فقال لي: صر في غد إلى دار الأمير، حتى أكتب لك.
فمضيت إليه، فكتب لي عنه كتاباً مؤكداً إلى بعض أمراء الأطراف من أصدقاء العباس، فخرجت أريد منزلي.
فلما صرت في بعض الممرات وأنا رجل طويل مبدن، وكنت قد حلقت رأسي، وعليه منديل خفيف، قد أطارته الريح، فانكشف، ولعلة انشغال قلبي بأمري لم أرد المنديل.
وإذا بصفعة قد جاءت، كادت تكبني على وجهي، وتوالت بعدها اثنتان. فالتفت، فإذا العباس بن عمرو، وقد خرج إلى موضع من مواضع الدار، وكان مشتهراً بالمصافعة، مكاشفاً بها، هو، وجماعة من قواد المعتضد، أصدقاء، أخلاء، يستعملون ذلك، ويكاشفون به.
فقبضت على يده، وقلت: ما هذا أيها الأمير ؟ ما أفارقك، أو تعطيني شيئاً أنتفع به عوضاً عن هذا الفعل.
فدافعني، وأنا متشبث به، وسقط الكتاب من كمي، فقال: ما هذا الكتاب.
قلت: كتاب، كتب لي عنك إلى فلان، لأخرج إليه، فلعلي أتصرف معه، أو يبرني بشيء.
فقال: هوذا، أكتب لك عليه سفتجة بالصفع، فإنه يفتديها منك بما تنتفع به.
واستدعى دواة، وكتب لي إلى الرجل سفتجة، كما يكتب التجار، بثلاث مكتوبات، كناية عن ثلاث صفعات.
فأخذت الكتاب، وانصرفت متعجباً مما جرى علي، ومن حرفتي في أن العباس لم يسمح لي بشيء، مع جوده، وتحملت، وخرجت إلى ذلك البلد، فأوصلت الكتاب الذي كتبه لي الكاتب عنه.
فردني ذلك الأمير أقبح رد، وآيسني، وقال: قد بلينا بهؤلاء الشحاذين، يجيئونا في كل يوم بكتب لا تساوي مدادها، ويقطعونا عن أشغالنا، انصرف، فمالك عندي تصرف، ولا بر.
فورد علي ما لم أر مثله، وما هالني وقطع بي، وكنت قد سافرت إليه، وقطعت شقة بعيدة، فانصرفت أسوء الناس حالاً.
وفكرت ليلتي، فقلت: ليس إلا العود إليه، ومداراته، فلعل أن يعطيني قدر نفقة الطريق، فأتحمل بها.

فعدت إليه، وخاطبته بكل رفق وخضوع وسؤال وهو يخشن علي، ويؤيسني، إلى أن قال لحاجبه: أخرجه عني، ولا تدعه بعدها يدخل إلي.
فورد علي أعظم من الأول، وخرجت أخزى خروج، وأقمت أياماً لا أعود إليه، ولا أدري ما أصنع، إلا أن بقالاً في المحلة التي نزلتها يعطيني خبزاً وإداماً بنسيئة.
فجلست إليه يوماً وأنا متحير، والغم بين علي، فسمعت قائلاً يقول: إن الأمير قد جلس للمظالم، جلوساً ارتفع عنه الحجاب فيه، ففكرت كيف أعمل ؟.
وذكرت الكتاب بالسفتجة، فقلت: أمشي وأجعلها نادرة كالظلامة، فإن أعطاني شيئاً، وإلا فضحته بين رعيته، وانصرفت.
فأخذت السفتجة، وجئت، فلم أصادف بالباب من يمنعني، فدخلت إليه.
فحين رآني اغتاظ علي، وقال لحاجبه: ألم آمرك أن لا تدخل هذا إلي.
فقال: كان الإذن عاماً، ولم يميز.
فأقبل الأمير علي، فقال: ألم أقل لك، وأؤيسك مني ؟ فما هذه الملازمة، كأن لك علي ديناً أو سفتجة ؟.
فقلت: نعم، لي على الأمير - أعزه الله - سفتجة.
فازداد غيظه، وقال كالمتعجب: سفتجة، سفتجة ؟.
فأخرجتها، فدفعتها إليه، فلما قرأها عرف الخط والخطاب، فنكس رأسه ساعة، خجلاً، ثم قال لكاتب كان بين يديه، شيئاً لا أعلمه.
فجذبني الكاتب، وقال: إن الأمير قد تذمم مما عاملك به، وأمرني بدفع مائة دينار إليك، فقم معي لتأخذها.
فقلت: ما قصدت الأمير ليبرني، أنا رجل أوصلت إليه سفتجة بمال، فإما قبلها فأعطانيه، فما أريد غيره، ولا أستزيد عليه، ولا أنقص منه شيئاً، وإما كتب لي على السفتجة: راجعة، فأخذتها، وانصرفت.
فساره الكاتب بما قلت، وقوي طمعي في الصنع، فالتفت إلي الكاتب، وقال: قد جعلها لك الأمير مائتي دينار، فانهض لتأخذها.
فقلت، لمن يقول هذا: ما عندي غير ما سمعت، ولان الأمير، وتشددت، ولم يزل الكاتب يتوسط بيننا، إلى أن بذل خمسمائة دينار.
فقلت: على شرط أني لا أبرح من هذا المجلس حتى أقبضها وأسلمها إلى يد تاجر، وآخذ منه سفتجة بها، ويدفع إلي نفقة تكفيني إلى أن أعرف صحة السفتجة، ثم أتحمل بباقي ذلك.
فأجبت إلى ذلك، وأحضر التاجر، والمال، وأخذت منه سفتجة، ودفعوا لي خمسين ديناراً للنفقة، وأقمت مدة، إلى أن عرفت خبر صحة السفتجة، وتحملت ببقية النفقة إلى بلدي.
وحصل لي المال، فجعلته بضاعة في متجر، صلحت به حالي، إلى الآن.

المصافعة

الصفع: ضرب القفا بالكف مبسوطة، والمصافعة: تبادل الصفعات، والصفعان: الذي يصفع كثيراً.
والأصل في الصفع أن يكون للعقوبة والتأديب. كأن يأمر القاضي بصفع من أخل بالحرمة الواجبة نحو مجلس الحكم القصص 2 - 10 و6 - 178 من نشوار المحاضرة للتنخي.
وقد يصفع المتشدق المتقعر في كلامه الامتاع والمؤانسة 2 - 52.
وقد أمر الوزير علي بن عيسى بصفع رجل ادعى النبوة صلة الطبري 26.
وصفع بعض العامة في البصرة، القاضي أبا خليفة وصحبه، لما حسبوهم يقرأون القرآن بلغة الدجاج مروج الذهب 2 - 501.
وصفع أبو محمد المافروخي الفأفاء، عامل البصرة، ابن أحد خلفائه، لما فأفأ له، حاسباً أنه يحاكيه نشوار المحاضرة، رقم القصة 4 - 14.
وقد يجري الصفع لإجبار المكلف على أداء الضريبة المتحققة عليه القصة 184 من هذا الكتاب أو لإجبار العامل المصروف على سداد ما بذمته من الأموال الأميرية القصة 8 - 21 من كتاب نشوار المحاضرة أو لإجبار من صودر على أداء ما صودر عليه القصة 1 - 35 و3 - 122 من كتاب نشوار المحاضرة، والكامل لابن الأثير 8 - 142، وتجارب الأمم 1 - 110 وصلة الطبري 39، أو لاستخراج الودائع تجارب الأمم 1 - 65 أو لتقرير مبلغ المصادرة تجارب الأمم 1 - 65 أو لإجبار المصفوع على ترك عناده القصة 261 من هذا الكتاب، والقصة 3 - 54 من نشوار المحاضرة.
وقد يرد الصفع عقاباً للمدعي الذي عجز عن القيام بما ادعى، كما حصل لابن المغازلي الذي شرط على نفسه إن لم يضحك المعتضد، أن يصفع عشر صفعات، وعجز عن إضحاكه مروج الذهب 2 - 510 و511.
ولما أراد المكتفي الخروج لقتال القرامطة، منعه المنجم أبو الحسن العاصمي، بحجة أن طالعه يدل على أن خروجه هذا، يؤدي إلى زوال دولته، وخرج المكتفي، واستأصل القرامطة، وعاد مظفراً سالماً، فأمر بالعاصمي فأحضر، وصفع صفعاً عظيماً الفلاكة والمفلوكون 37.

وقد يحصل الصفع للإهانة والايذاء، فقد ذكر أن المتوكل غضب على عمر بن فرج الرخجي، أحد كبار العمال في الدولة، فأمر بأن يصفع في كل يوم، فأحصي ما صفع، فكان ستة آلاف صفعة مروج الذهب 2 - 403، وغضب المتوكل على ولده المنتصر، ولي عهده، فأمر بأن يصفع في مجلسه تجارب الأمم 6 - 555 والكامل لابن الأثير 7 - 97، ولزيادة التفصيل راجع تاريخ الطبري 9 - 175، وصلة تاريخ الطبري ص52 و58 و86 والتكملة 37 و41، وتجارب الأمم 1 - 103 والقصة 1 - 119 و4 - 7 من كتاب نشوار المحاضرة للتنوخي، والقصة 250 و304 من هذا الكتاب، والمستطرف من أخبار الجواري للسيوطي 29 والوزراء للصابي 46 و264 ووفيات الأعيان 4 - 159 و6 - 58 وحكاية أبي القاسم البغدادي 138 ومرآة الجنان لليافعي 4 - 18.
وقد يقع الصفع على المقامر إذا قمر، كما وقع لأمير البصرة إسحاق بن العباس بن محمد العباسي، لما قمر، فتحقق عليه حسب الشرط أن يصفع عشر صفعات، فأحالها هذا على صاحب شرطته، وطلب هذا أن يكون الصفع، صفع المداعبة والإخوان، لا صفع العقوبة والسلطان الهفوات النادرة 231.
وأغرب ما أثر عن الصفع، وروده لإيقاع الحجة على الخصم في المناظرة معجم الأدباء 5 - 237.
والذي يتضح من هذه القصة، ومن غيرها من القصص، أن المصافعة، كان لها من يستحسنها، ويستطيبها، ويتملح بذكر فوائدها البصائر والذخائر 4 - 180، وكان لها سوق رائجة.
وكان العباس بن عمرو الغنوي، وهو أحد كبار القواد والولاة العباسيين، من المستهترين بالمصافعة، المكاشفين بها، هو وجماعة من قواد المعتضد، أصدقاء، أخلاء، يستعملون ذلك، ويكاشفون به، وأن المصافعة تجري بينهم للمطايبة، القصة 116 من هذا الكتاب، والقصة 8 - 119 من نشوار المحاضرة وأنها تقع على سبيل المباسطة القصة 1 - 51 و166 من نشوار المحاضرة، ومعجم دوزي لأسماء الألبسة 271.
وكان زيادة الله بن الأغلب، أمير أفريقية 172 - 223 قد اتخذ ندامى يتصافعون في حضوره فوات الوفيات 2 - 34 و35.
وكان القاضي محمد بن الخصيب، قاضي مصر ت 348، وهو ممدوح المتنبي، ممن يمازح في المصافعة أخبار القضاة للكندي 579 و580.
وكان للصفاعنة أرزاق في الدولة، ولما وزر أبو الحسن علي بن عيسى في السنة 314 كان من جملة ما صنعه أن أسقط أرزاق الصفاعنة الكامل لابن الأثير 8 - 165.
وسئل القاضي ابن قريعة، عن حد القفا، فقال للسائل: هو ما اشتمل عليه جربانك، وشرطك فيه حجامك، وداعبك فيه إخوانك، وباسطك فيه غلمانك، وأدبك فيه سلطانك اليتيمة 2 - 238 وتاريخ بغداد للخطيب 2 - 320.
وداعب ابن المرزبان، أبا العيناء، فقال له: لم لبست جباعة ؟ فقال: وما الجباعة ؟ قال: التي بين الجبة والدراعة، فقال: ولم أنت صفديم ؟ قال: وما صفديم ؟ قال: الذي هو بين الصفعان والنديم الملح للحصري 183.
وكان حذاء ماجن بباب الطاق اسمها الآن الصرافية يسمي النعال، بأسماء من جنس الصفعة، فنعل راسكية، ونعل صعلكية، ونعل قفوية القصة 2 - 98 من نشوار المحاضرة.
وأفرد ابن النديم في الفهرست ص157 بحثاً في أخبار الصفادمة والصفاعنة، كما ذكر أن الكتنجي ألف كتاباً سماه: كتاب الصفاعنة الفهرست 170.
والأصل في الصفع أن يحصل، بالكف على القفا، وربما حصل بجراب فارغ أو محشو مروج الذهب 2 - 509 - 511، وقد يحصل بالنعال وفيات الأعيان 4 - 455، أو بقشور القرع اليتيمة 2 - 340، أو بقشور البطيخ الأحمر المسمى في بغداد بالرقي، نسبة إلى الرقة راجع سبب هذه التسمية في حاشية القصة 268 من هذا الكتاب، ولا يوجد الآن ببغداد من يمارس هذا اللون من المباسطة السمجة، وقد أدركت بعض باعة الرقي الأحداث كانوا يتصافعون بقشور الرقي المق فصيحة، والبغداديون يلفظون قافها كافاً فارسية.
وممن أحسن في الإشارة إلى المصافعة، ابن الحلاوي الموصلي ت 656 قال: الوافي بالوفيات 8 - 108
فطبّ طرطبّ فوق راسي ... وطاق طرطاق في قذالي
وقال الشاعر الأندلسي، أبو عبد الله بن الأزرق: نفح الطيب 3 - 229
أفدي صديقاً كان لي ... بنفسه يسعدني
فربّما أصفعه ... وربّما يصفعني
طقطق طق طقطق طق ... أصخ بسمع الأذن
ولأبن الحجاج شعر كثير في المصافعة، أورد بعضه صاحب اليتيمة 3 - 86 - 88، وللأحنف العكبري في المصافعة اليتيمة 3 - 704؛

لقد بتّ بماخور ... على دفّ وطنبور
وصوت الطبل كردم طع ... وصوت الناي طلّير
فصرنا من حمى البيت ... كأنّا وسط تنّور
وصرنا من أذى الصفع ... كمثل العمي والعور
وممن أحسن في وصف الصفع، جمال الدين بن شيث، المتوفي سنة 625 وقد أورد له صاحب فوات الوفيات 2 - 313 أبياتاً، اخترت منها هذين البيتين:
وتخالفت بيض الأكفّ كأنّها ال ... تصفيق عند مجامع الأعراس
وتطابقت سود الخفاف كأنّها ... وقد المطارق في يد النحّاس
ولأبي الرقعمق، أبي حامد أحمد بن محمد الانطاكي، مقطوعات في المصافعة، راجعها في يتيمة الدهر للثعالبي 1 - 334 - 340.
ولزيادة التفصيل، راجع كتاب الغيث المسجم للصفدي 1 - 203 - 205 وكتاب محاضرات الأدباء للراغب الأصبهاني 2 - 699 و700.

السبب في خلع المقتدر الخلع الثاني

وعودته إلى الحكم

ذكر أصحاب التواريخ، ومصنفو الكتب، وأبو الحسن علي بن الفتح الكاتب المعروف بالمطوق، على ما أخبرني به أحمد بن يوسف بن يعقوب التنوخي عنه في كتابه مناقب الوزراء ومحاسن أخبارهم، وما شاهده أحمد بن يوسف من ذلك، وجماعة حدثوني به، ممن شاهد الحال، منهم أيوب بن العباس بن الحسن، وعلي، والقاسم، ابنا هشام بن عبد الله الكاتب، وأبو الحسين بن عياش الخرزي، خليفة أبي رحمه الله على الحكم بسوق الأهواز، ومن لا أحصي من شيوخنا كثرة، بالسبب في خلع المقتدر عن الخلافة، الخلع الثاني، بعبارات مختلفة، معنى جميعها أن الجيش كله، الفرسان، والرجالة، شغبوا يطلبون الزيادات، ويتبسطون في التماس المحالات، وملوا أيام المقتدر وبغوا عليه بأشياء.
واتفق أن سائساً لهارون بن غريب الخال، علق بغلام في الطريق، للفساد، فرفع إلى أبي الجود، خليفة عجيب، غلام نازوك، على مجلس الجسر بالجانب الغربي، فجاء غلمان هارون يخلصونه ومانعوهم، إلى أن لحقه بعض أصحاب نازوك فصارت بينهم حرب، وانتهت الحال إلى قصص يطول شرحها.
إلى أن أطبق الجيش بأسرهم على خلع المقتدر، فزحفوا إلى داره، بمواطأة من مؤنس المظفر، فقبضوا عليه، وحملوه إلى دار مؤنس، في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة، فحبس فيها، وخلع نفسه، وأشهد عليه بالخلع.
وكان رأس الفتنة، والقائم بها، عبد الله بن حمدان، أبو الهيجاء، ونازوك المعتضدي، على مساعدة لهما من مؤنس، وإطباق من الجيش كلهم، وجاءوا بأبي منصور محمد بن المعتضد بالله، فأجلسوه في دار الخلافة، وسلموا عليه بها، ولقبوه القاهر بالله، فقلد نازوك الحجبة، مضافاً إلى ما كان إليه من الشرطة، وجعله صاحب داره.
فلما كان في يوم الإثنين لسبع عشرة ليلة خلت منه، بكر الناس إلى دار الخليفة للبيعة، وجاءت إلى فناء الدار، مما يلي دجلة، جماعة من الرجالة، يطالبون بمال البيعة والزيادة.
فجاء نازوك وأشرف عليهم من الرواق، ومعه خادم من رؤوس غلمانه يقال له عجيب، فقال لهم: ما تريدون ؟ نعطيكم ثلاث نوائب. فقالوا: لا، إلا أرزاق سنة، وزيادة دينار، وزادوا في القول.
فقال لهم: يصعد إلي منكم جماعة، أفهم عنهم، وأكلمهم، فصعد إليه جماعة منهم، من باب الخاصة، وتسلق إلى الرواق جماعة منهم كبيرة، وثاروا على غير مواطأة، ولا رأي متقرر.
فقال لهم نازوك: اخرجوا إلى مجلس الإعطاء، حتى نخرج المال إلى الكتاب، فيقبضونكم.
فقالوا: لا نقبض إلا ها هنا، وهجموا على التسعيني، يبوقون، ويشتمون نازوك.
فمضى نازوك من بين أيديهم، يريد الممر في الطريق الذي ينفذ إلى دجلة، وكان قد سد آخره بالأمس، إحتياطاً لحفظ من في الدار، وتحرزاً من هربهم، فلما رآه مسدوداً رجع، فاستقبله جماعة من الرجالة يطلبونه.
فوثب عليه رجل أصفر منهم، فضربه بكلاب، وثناه آخر يكون في مطبخ أم المقتدر، وله رزق في الرجالة، يقال له: سعيد، ويلقب: ضفدعاً، فقتلوه، وقتلوا عجيباً، وقالوا: لا نريد إلا خليفتنا جعفر المقتدر، وقتل الخدم في الدار أبا الهيجاء، واختبأ القاهر في بعض الحجر، عند بعض الخدم.
وأقبلوا برأس نازوك على رمح قد خرج طرفه من وسط الرأس، إلى دار مؤنس، وهم يقولون: مقتدر، يا منصور.

فطالبوا مؤنساً بالمقتدر، فخافهم على نفسه، فأخرجه إليهم، والمقتدر يستعفي من الخروج، ويظهر الزهد في الخلافة، ويظن أن ما سمعه حيلة على قتله.
إلى أن سمع صياح الناس: مقتدر، يا منصور، وأعلم بقتل نازوك وأبي الهيجاء، فسكن.
وقعد في طياره، وانحدر إلى داره، والرجالة يعدون على الشط بأزائه، إلى أن خرج من الطيار، فالتحقوا به يقبلون يديه ورجليه، حتى دخل داره.
وأحضر جماعة من الهاشميين وغيرهم، فبايعوه بيعةً ثانيةً، وظهر ابن مقلة وزيره، وكان مستتراً تلك الأيام، فأقره على الوزارة، ودبر أمره، وزال عنه ما كان فيه من المحنة والنكبة، ولم ير خليفة أزيل عن سريره، وأخرج من دار ملكه، وأجلس آخر في موضعه، ولقب لقباً من ألقاب الخلفاء، وتسمى بأمير المؤمنين، وأجمع على بيعته أهل المملكة والجيش كله، وعلى خلع الأول وحبسه، ثم رجع إلى أمره، ونهيه، وملكه، وداره، في مدة خمسة أيام، بلا سبب ممهد، ولا مواطأة لأحد، ولا مشاورة، ولا مراسلة، إلا ما اتفق في أمر المقتدر، وأخيه القاهر.

خلع الأمين وعودته إلى الحكم

قال مؤلف هذا الكتاب: وعلى أنه قد كان جرى على محمد الأمين قريب من هذا، لما قبض عليه الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، وخلعه، وحبسه، وعزم على أن ينفذه إلى المأمون، ثم أن الجيش طالبوه بأرزاقهم، فلم يكن معه، ما يعجله لهم، فوعدهم، فشغبوا، ولم يرضوا بالوعد، واستخرجوا الأمين من حبسه، فبايعوه ثانياً، وردوه، وهرب الحسين بن علي، وزالت عن الأمين تلك الشدة، والقصة في ذلك مشهورة، رواها أصحاب التواريخ، بما يطول اقتصاصه هنا، إلا أنه لم يجلس على سريره خليفة آخر.
كيف خلع المقتدر الخلع الأولقال القاضي أبو علي المحسن بن القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي رحمه الله تعالى: وقد جرت على المقتدر بالله شدة أخرى، وفرج الله عنه، في قصة تشبه قصة الأمين، سواء بسواء، لما أجمع جميع القواد والحاشية، على أن قتلوا العباس بن الحسن، الوزير، وخلعوا المقتدر من الخلافة، الخلع الأول، وبايعوا ابن المعتز، وأحضروه من داره إلى دار سليمان بن وهب، المرسومة - إذ ذاك - بالوزراء، وجلس يأخذ البيعة على القضاة، والأشراف، والكافة، ويدبر الأمور، ووزيره محمد بن داود، ابن الجراح، يكاتب أهل الأطراف، والعمال، والأكناف، بخبر تقلدهما، وقد تلقب بالمنتصر بالله، وخوطب بالخلافة، وأمره في نهاية القوة، وهو على أن يسير إلى دار الخلافة، فيجلس بها، ويقبض على المقتدر، إلا أنه أخر ذلك، لتتكامل البيعة، وتنفذ الكتب، ويسير من غد.
وكان سوسن حاجب المقتدر، والمتولي لأمور داره، والغلمان المرسومين بحمايتها، ممن وافق ابن المعتز، ودخل مع القواد فيما دخلوا فيه، وشرط عليه، أن يقر على ما إليه، ويزاد شرطة بغداد.
فلما جلس ابن المعتز في اليوم الأول، كان المتولي لإيصال الناس إليه، والخادم بحضرته فيما يخدم فيه الحاجب، أحد الخدم غيره.
فبلغ ذلك سوسناً، فشق عليه، وتوهم أن ذلك غدر به، ورجوع عما شرط، وووقف عليه، فدعا الخدم، وغلمان الدار، إلى نصرة المقتدر، فأجابوه، فأغلق الأبواب، وأخذ أهبة الحرب.
وأصبح ابن المعتز، في اليوم الثاني من بيعته، وهو يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، عامداً على المسير إلى الدار، فثبطه محمد بن داود، وعرفه رجوع رأي سوسن، عما كان وافق عليه.
وصغر القواد ذلك في نفسه، فلم يتشاغل بتلافيه، وأشاروا عليه بالركوب إلى دار الخلافة، وهم لا يشكون في تمام الأمر، فركب وهم معه.
وانقلبت العامة مع المقتدر، ورموا ابن المعتز بالستر، وحاربوه مع شرذمة أنفذهم سوسن لحربه ممن أطاعه على نصرة المقتدر.
ولما شاهد ابن المعتز الصورة، انهزم، وهرب، وانحل ذلك الأمر العظيم كله، وتفرق القواد، وسار بعضهم خارجاً عن بغداد، وروسل باقيهم عن المقتدر، بالتلافي، فسكنوا، وعادوا إلى طاعته.
وطلب ابن المعتز، فوجد، وجيء به إلى دار الخلافة، فحبس فيها، ثم قتل، وكانت مدته منذ ظهر يوم السبت، إلى قريب من الظهر من يوم الأحد.
وعاد الأمر مستقيماً للمقتدر بالله، وانفرجت له تلك الشدة، عن ثبات الملك له.
وقد شرح هذا أصحاب التواريخ، بما لا وجه لإعادته ها هنا.
بعث الفضل بن سهل خدابود لقتال خارجي فجاء برأسه

وذكر عبد الله بن بشر، قرابة الفضل بن سهل، قال: كان الفضل إذا دخل مدينة السلام، من السيب - موضع قرية - لحوائجه، وهو - إذ ذاك - صغير الحال، نزل على فامي بها، يقال له: خدابود، فيخدمه هو وأهل بيته، ويقضي حوائجه إلى أن يعود.
وتقضت الأيام، وبلغ الفضل مع المأمون ما بلغ، بخراسان، وقضي أن الفامي ألح عليه الزمان بنكبات متصلة، حتى افتقر، فنهض إلى الفضل بن سهل.
وقدم مرو، فبدأ بي، فسررت به، وأكرمته، وأصلحت من شأنه ما يجب أن يصلح لدخوله على الفضل، وقمت فدخلت إلى الفضل وقد جلس على مائدته.
فقلت له: أتذكر الشيخ الفامي، الذي كنا ننزل عليه ببغداد ؟.
فقال لي: سبحان الله، تقول لي تذكره، وله علينا من الحقوق ما قد علمت ؟ فكيف ذكرته ؟ أظن إنساناً أخبرك بموته.
فقلت: هوذا في منزلي.
فاستطير فرحاً، وقال: هاته الساعة، ثم رفع يده، وقال: لا آكل أو يجيء.
فقمت، وجئت به، فحين قرب منه، تطاول له، وأجلسه بين يديه، فيما بيني وبينه، وأقبل عليه، وقال: يا هذا، ما حبسك عنا طول هذه المدة ؟.
فقال: محن عاقتني، ونكبات أصابتني.
فاقبل يسائله عن واحدة واحدة من بناته وأهله.
فقال له: لم يبق لي بعدك ولد، ولا أهل، ولا مال إلا تلف، وما تحملت إليك، إلا من قرض ومسألة، فكاد الفضل يبكي.
فلما استتم غداءه، أمر له بثياب فاخرة، ومركوب، ومال لنفقته، وأن يدفع إليه منزل، وأثاث، واعتذر إليه، ووعده النظر في أمره.
فلما كان من غد، حضر عنده وكلاء تجار بغداد، وكانوا قد قدموا عليه، يبتغون بيع غلات السواد منه، وأعطوه عطايا لم يجب إليها.
فأحضرني، وقال: قد علمت ما دار بيني وبين هؤلاء، فأخرج إليهم، وأعلمهم أني قد أنفذت البيع لهم، بما التمسوا، على أن يجعلوا لخدابود معهم الربع.
ففعلت ذلك، وأجاب التجار، وفرحوا بما تسهل لهم.
ثم قال لخدابود: إنهم سيهولون عليك بكثرة المؤن، ويبذلون لك مائة ألف درهم على أن تخرج من الشركة، فاحذر أن تفعل، ولا تخرج بأقل من خمسين ألف دينار.
ثم قال: اخرج معه، وتوسط فيما بينهم وبينه، ففعلت ذلك، ولم أقنع حتى قدم التجار لخدابود خمسين ألف دينار، ودخل، فعرف الفضل ما جرى، وشكره، وأقام معنا مدة.
ثم دخل إليه يوماً، والفضل مغموم مفكر، فقال له: أيها الأمير ما الذي قد بلغ بك إلى ما أرى من الفكر والغم ؟ قال: أمر لا أحسب لك فيه عملاً يا خدابود.
قال: فأخبرني به، فإن كان عندي فيه ما يفرجه عنك، وإلا ففي الشكوى راحة.
فقال له الفضل: إن خارجياً قد خرج علينا ببعض كور خراسان، ونحن على إضاقة من المال، وأكثر عساكرنا قد جردوا إلى بغداد، والخارجي يقوى في كل يوم وأنا مرتبك في هذا الأمر.
فقال: أيها الأمير، ما ظننت الأمر، إلا أصعب من هذا، وما هذا حتى تفكر فيه ؟ أنت قد فتحت العراق، وقتلت المخلوع، وأزلت مثل تلك الدولة، وتهتم بهذا اللص الذي لا مادة له ؟ أنفذني إليه أيها الأمير، فإن أتيتك به، أو برأسه، بإقبالك، فهو الذي تريد، وإن قتلت، لم تنثلم الدولة بفقدي، على أني أعلم أن بختك لا يخطئ في هذا المقدار اليسير.
قال: ففكر الفضل ساعة، ثم التفت إلي، فقال: لعل الله يريد أن يعرفنا قدرته بخدابود.
ثم لفق رجالاً، واحتال مالاً، ففرقه عليهم، وخلع على خدابود، وقلده حرب الخارجي، والبلد الذي هو فيه.
فسار خدابود بالعسكر، فلما شارف عسكر الخارجي، جمع وجوه عسكره وقال لهم: إني لست من أهل الحرب، وأعول على نصرة الله تعالى لخليفته على العباد، وعلى إقبال الأمير، وليس هذا الخارجي من أهل المدد، وإنما هو لص لا شوكة له، فاعملوا عمل واثق بالظفر، ولا تقنعوا بدون الوصول إليه، ولكم إن جئتم به، أو برأسه، كذا وكذا.
قال: فحملوا، وحققوا، فانجلت الحرب عن الخارجي قتيلاً، فاحتز رأسه.
وكتب خدابود إلى الفضل، لست ممن يحسن كتب الفتوح، ولا غيرها، ولكن الله جلت عظمته قد أظفرنا بالخارجي، وحصل رأسه معي، وتفرق أصحابه، وأنا أستخلف على الناحية، وأسير برأسه.
قال: وتلا الكتاب مجيء خدابود بالرأس، فعجبنا مما تم له، وعلت حاله مع الفضل.

موت زياد يفرج عن ابن أبي ليلى

وذكر أبو الحسن المدائني، في كتابه كتاب الفرج بعد الشدة والضيقة عن محمد بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير، قال:

كتب معاوية، إلى زايد: إنه قد تلجلج في صدري شيء من أمر حجر ابن عدي، فابعث لي رجلاً من أهل المصر، له فضل، ودين، وعلم، فدعا عبد الرحمن بن أبي ليلى، فقال له: إن أمير المؤمنين كتب إلي يأمرني أن أوجه إليه رجلاً من أهل المصر، له دين وفضل وعلم، ليسأله عن حجر بن عدي، فكنت عندي ذلك الرجل، فإياك أن تقبح له رأيه في حجر، فأقتلك، وأمر له بألفي درهم، وكساه حلتين، وحمله على راحلتين.
قال عبد الرحمن: فسرت، وما في الأرض خطوة، أشد علي، من خطوة تدنيني إلى معاوية.
فقدمت بابه، فاستأذنت، فأذن لي، فدخلت، فسألني عن سفري، ومن خلفت من أهل المصر، وعن خبر العامة والخاصة.
ثم قال لي: انطلق فضع ثياب سفرك، والبس الثياب التي لحضرك، وعد.
فانصرفت إلى منزلي، ثم رجعت إليه، فذكر حجراً، ثم قال: أما والله، لقد تلجلج في صدري منه شيء، ووددت أني لم أكن قتلته.
قلت: وأنا والله يا معاوية، وددت أنك لم تقتله، فبكى.
فقلت: والله، لوددت أنك حبسته.
فقال لي: وددت أني كنت فرقتهم في كور الشام، فتكفينيهم الطواعين.
قلت: وددت ذلك.
فقال لي: كم أعطاك زياد ؟ قلت: ألفين، وكساني حلتين، وحملني على راحلتين.
قال: فلك مثل ما أعطاك، أخرج إلى بلدك.
فخرجت وما في الأرض شيء أشد علي من أمر يدنيني من زياد، مخافة منه.
فقلت: آتي اليمن، ثم فكرت، فقلت: لا أخفى بها.
فأجمعت على أن آتي بعض عجائز الحي، فأتوارى عندها، إلى أن يأتي الله بالفرج من عنده.
قال: وقدمت الكوفة، فأمر بجهينة الظاهرة، حين طلع الفجر، ومؤذنهم يؤذن.
فقلت: لو صليت، فنزلت، فصرت في المسجد، حتى أقام المؤذن.
فلما قضينا الصلاة، إذا رجل في مؤخر الصف، يقول: هل علمتم ما حدث البارحة ؟ قالوا: وما حدث ؟ قال: مات الأمير زياد.
قال: فما سررت بشيء، كسروري بذلك.

معاوية بن أبي سفيان

أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية 20 ق - 60: مؤسس الدولة الأموية بالشام، وأحد دهاة العرب المتميزين الكبار، حكم الشام حكماً مستمراً، دام ما يزيد على الأربعين سنة، قضى بعضها 18 - 35 أميراً، وقضى الباقي متغلباً، ولاه على الشام الخليفة عمر، ولما ولي عثمان جمع له الديار الشامية كلها، ولما ولي علي عزله، فخرج على علي بحجة المطالبة بدم عثمان الأعلام 8 - 172 حتى إذا قتل علي، وتمكن من السيطرة ترك المطالبة بدم عثمان البصائر والذخائر 2 - 586.
وهو أول من لعن المسلمين على المنابر العقد الفريد 4 - 366 و5 - 91 وأول من حبس النساء بجرائر الرجال، إذ طلب عمرو بن الحمق الخزاعي، لموالاته علياً، وحبس امرأته بدمشق، حتى إذا قطع عنقه، بعث بالرأس إلى امرأته وهي في السجن، وأمر الحرسي أن يطرح الرأس في حجرها بلاغات النساء 64 واليعقوبي 2 - 232 والديارات 179 و180.
وكان يفرض على الناس لعن علي والبراءة منه، ومن أبى، قتله، أو بعث به إلى عامله زياد ليدفنه حياً العقد الفريد 3 - 234 و4 - 34 والأغاني 18 - 150 وابن الأثير 3 - 485 والأغاني 17 - 153.
وهو أول من سخر الناس، واستصفى أموالهم، وأخذها لنفسه اليعقوبي 2 - 232 وهو أول من حبس على معارضيه أعطياتهم أدب الكتاب للصولي 2 - 224 محتجاً بأن العطاء ينزل من خزائن الله، فقال له الأحنف: إنا لا نلومك على ما في خزائن الله، ولكن على ما أنزله الله من خزائنه، فجعلته في خزائنك، وحلت بيننا وبينه البصائر والذخائر م2 ق2 ص689.
وقيل لشريك بن عبد الله، إن معاوية كان حليماً، فقال: كلا، لو كان حليماً ما سفه الحق ولا قاتل علياً كتاب الآداب لجعفر 22 و23.
وروى ابن الجوزي، عن الحسن البصري، إنه قال: أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا واحدة، لكانت موبقة، وهي: أخذه الخلافة بالسيف، من غير مشاورة، وفي الناس بقايا الصحابة، وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه يزيد، وكان سكيراً خميراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياد أخاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وقتله حجر بن عدي وأصحابه، فيا ويلاً له من حجر، وأصحاب حجر خزانة الأدب للبغدادي 2 - 518 و519.

وقال نيكلسون: اعتبر المسلمون انتصار بني أمية، وعلى رأسهم معاوية، انتصاراً للأرستقراطية الوثنية، التي ناصبت الرسول وأصحابه العداء، والتي جاهدها رسول الله حتى قضى عليها، وصبر معه المسلمون على جهادها ومقاومتها حتى نصرهم الله، فقضوا عليها. وأقاموا على أنقاضها دعائم الإسلام، لذلك، لا ندهش إذا كره المسلمون بني أمية، وغطرستهم، لا سيما أن جمهور المسلمين كانوا يرون بين الأمويين رجالاً كثيرين، لم يعتنقوا الإسلام إلا سعياً وراء مصالحهم الشخصية، ولا غرو، فقد كان معاوية يرمي إلى جعل الخلافة ملكاً كسروياً، وليس أدل على ذلك من قوله: أنا أول الملوك تاريخ الإسلام 1 - 278 و279.
وكان مصروف الهمة إلى تدبير أمر الدنيا، يهون عليه كل شيء إذا انتظم أمر الملك الفخري 107 ولما استولى على الملك، استبد على جميع المسلمين، وقلب الخلافة ملكاً رسائل الجاحظ 14 - 16 وكان يقول: إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين السلطان محاضرات الأدباء 1 - 226.
وختم معاوية أعماله، بإرادته أن يظهر العهد ليزيد، فقال لأهل الشام: إن أمير المؤمنين قد كبرت سنه، ورق جلده، ودق عظمه، واقترب أجله ويريد أن يستخلف عليكم، فمن ترون ؟ فقالوا: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فسكت وأضمرها، ودس ابن أثال الطبيب إلى عبد الرحمن، فسقاه سماً، فمات الأغاني 16 - 197.
ثم فرض ولده يزيد على الناس فرضاً، وحملهم على بيعته قسراً، وأوعز إلى رجل من الأزد، اسمه يزيد بن المقفع، فقام خطيباً وقال: أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية، فإذا مات فهذا وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا وأشار إلى السيف، فقال له معاوية: أقعد، فأنت سيد الخطباء العقد الفريد 4 - 370 ومروج الذهب 2 - 21.
إقرأ بعض أخبار معاوية في تاريخ اليعقوبي 2 - 217 وفي الامتاع والمؤانسة 2 - 75 و3 - 178 وفي محاضرات الأدباء 1 - 353 وفي كتاب التاج للجاحظ 205 وفي المحاسن والمساوئ 2 - 148 وفي البيان والتبيين للجاحظ 2 - 87 و110 و4 - 133 وفي الأغاني 4 - 189 و6 - 266 و15 - 168، 197 و198 و17 - 144 وفي وفيات الأعيان 2 - 169 وفي الفخري 106 - 110 وفي البصائر والذخائر م2 ق2 ص671 و702 وفي نفح الطيب 2 - 542 وفي خزانة الأدب للبغدادي 2 - 518 و519.
خرج يريد خالداً القسري فأعطاه الحكم فأغناه
وقد أخبرني علي بن دبيس، عن الخزاعي المدائني، عن أبي عمر الزاهد وقد لقيت أبا عمر، وحملت منه شيئاً من علومه ورواياته، وأجاز لي كل ما صح منها، فدخل هذا في إجازته.
وحدثنا أحمد بن عبد الله بن أحمد الوراق، في كتاب نسب قريش، قال: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: أخبرني عمي مصعب، عن نوفل بن عمارة: أن رجلاً من قريش، من بني أمية، له قدر وخطر، لحقه دين، وكان له مال من نخل وزرع، فخاف أن يباع عليه، فشخص من المدينة يريد الكوفة، يقصد خالد بن عبد الله القسري، وكان والياً لهشام بن عبد الملك على العراق، وكان يبر من قدم عليه من قريش.
فخرج الرجل يريده، وأعد له من طرف المدينة، حتى قدم فيد، فأصبح بها.
فرأى فسطاطاً، عنده جماعة، فسأل عنه، فقيل: للحكم بن عبد المطلب، يعني أبا عبد الله بن عبد المطلب بن حنظلة بن الحارث بن عبيد بن عمرو بن مخزوم، وكان يلي المشاعر، فلبس نعليه، وخرج حتى دخل عليه.
فلما رآه، قام إليه فتلقاه، وسلم عليه وأجلسه في صدر فراشه، ثم سأله عن مخرجه، فأخبره بدينه، وما أراد من إتيان خالد بن عبد الله.
فقال الحكم: انطلق بنا إلى منزلك، فلو علمت بمقدمك لسبقتك إلى إتيانك، فمضى معه، حتى أتى منزله، فرأى الهدايا التي أعدها لخالد، فتحدث ساعة معه.
ثم قال: إن منزلنا أحضر عدة، وأنتم مسافرون، ونحن مقيمون، فأقسمت عليك إلا قمت معي إلى المنزل، وجعلت لنا من هذه الهدايا نصيباً.
فقام الرجل معه، وقال: خذ منها ما أحببت، فأمر بها، فحملت كلها إلى منزله، وجعل الرجل يستحي أن يمنعه شيئاً، حتى صار إلى المنزل.
فدعا بالغداء، وأمر بالهدايا، ففتحت، فأكل منها، ومن حضره، ثم أمر ببقيتها فرفعت إلى خزانته، وقام الناس.

ثم أقبل على الرجل، وقال له: أنا أولى بك من خالد، وأقرب منه رحماً ومنزلاً، وها هنا مال للغارمين، أنت أولى الناس به، وأقرب، وليس لأحد عليك فيه منة، إلا الله تعالى، تقضي به دينك، ثم دعا له بكيس فيه ثلاثة آلاف دينار، فدفعت إليه.
ثم قال: قد قرب الله - جلت عظمته - عليك الخطوة، فانصرف إلى أهلك مصاحباً، محفوظاً.
فقام الرجل من عنده، يدعو له ويشكره، ولم يكن له همة إلا الرجوع إلى أهله، وانطلق الحكم يشيعه.
ثم قال: كأني بزوجتك، قد قالت: أين طرائف العراق، خزها، وبزها، وعروضها، أما كان لنا منها نصيب ؟ ثم أخرج صرة قد كان حملها معه، فيها خمسمائة دينار، فقال له: أقسمت عليك، إلا جعلت هذه عوضاً عن هدايا العراق، وانصرف.
وذكر أبو الحسين القاضي، هذا الخبر، في كتابه، كتاب الفرج بعد الشدة، بغير إسناد، على قريب من هذه العبارة.

لا بارك الله في مال بعد عثمان

وذكر أيضاً في كتابه، بغير إسناد: أن عثمان بن طلحة، ركبه دين فادح، مبلغه ألفا دينار، فأراد الخروج إلى العراق، لمسألة السلطان قضاءه عنه.
فلما عزم على السفر، اتصل خبره بأخيه جعفر بن طلحة، فقال: لا بارك الله في مال بعد عثمان.
فدخل على نسائه، فجعل يخلع حليهن، حتى جمع له أكثر من ألفي دينار، فدفعها إليه.
فقضى دينه، وأقام.
رفع صوته بالتلبية فحملت إليه أربعة آلاف ديناروحدثنا أحمد بن عبد الله، في هذا الكتاب، كتاب نسب قريش، قال: حدثنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني مفضل بن غسان، عن أبيه، عن رجل من قريش، قال: حج محمد بن المنكدر، من بني تيم بن مرة، قال: وكان معطاءً، فأعطى حتى بقي في إزار واحد، وحج معه أصحابه.
فلما نزل الروحاء، أتاه وكيله، فقال: ما معنا نفقة، وما بقي معنا درهم.
فرفع محمد صوته بالتلبية، فلبى، ولبى أصحابه، ولبى الناس، وبالماء محمد بن هشام.
فقال: والله، إني لأظن أن محمد بن المنكدر بالماء، فانظروا.
فنظروا، وأتوه فقالوا: هو بالماء.
فقال: ما أظن معه درهماً، احملوا إليه أربعة آلاف درهم.
يزيد بن عبد الملك بن مروان يصف عمر بن هبيرة بالرجلة ويوليه العراققال: وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، قال: نالت عمر بن هبيرة، إضاقة شديدة، فأصبح ذات يوم، في نهاية الكسل، وضيق الصدر، والضجر مما هو فيه.
فقال له أهله ومواليه: لو ركبت فلقيت أمير المؤمنين، فلعله - إذا رآك - أن يجري لك شيئاً فيه محبة، أو يسألك عن حالك، فتخبره.
فركب، فدخل على يزيد بن عبد الملك، فوقف بين يديه ساعة، وخاطبه.
ثم نظر يزيد بن عبد الملك إلى وجه عمر، وقد تغير تغيراً شديداً، أنكره، فقال: أتريد الخلاء ؟ قال: لا.
قال: إن لك لشأناً.
قال: يا أمير المؤمنين، أجد بين كتفي أذىً لا أدري ما هو.
قال يزيد بن عبد الملك: انظروا ما هو.
فنظروا، فإذا بين كتفيه عقرب، قد ضربته عدة ضربات.
فلم يبرح حتى كتب عهده على العراق، وجعل يزيد بن عبد الملك يصفه بالرجلة، وشدة القلب.
كان خالد القسري لا يملك إلا ثوبه فجاءه الفرج بولاية العراقوذكر أبو الحسين في كتابه: أن خالد بن عبد الله القسري، أصابته إضاقة شديدة، فبينما هو ذات يوم في منزله، إذ أتاه رسول هشام بن عبد الملك يدعوه لولاية العراق، فتلوم، فاستحثه الرسول.
فقال له خالد: رويداً حتى يجف قميصي، وقد كان غسله قبل موافاة الرسول، ولم يكن بقي له غيره.
فقال له الرسول: يا هذا، أسرع في الإجابة، فإنك تدعى إلى قمصان كثيرة.
فجاء إلى هشام، فولاه العراق.
يهلك ملوكاً ويستخلف آخرين
قال: ومن الأعجوبات، ما ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، عن علي بن الهيثم، قال: رأيت شيئاً قلما رئي مثله، رأيت ثقل الفضل بن الربيع، على ألف بعير، ثم رأيت ثقله في زنبيل، ونحن مستترون، وفيه أدوية لعلته، وهو ينقله من موضع إلى موضع.
ورأيت الحسن بن سهل، وكان مع طريف خادمي في بيت الدهليز، وثقله في زنبيل، فيه نعلان، وقميصان، وإزار، وإسطرلاب، وما أشبه ذلك، ثم رأيت ثقله على ألف بعير.
باع من إضاقته لجام دابته في الصباح وحلت له عشرون ألف دينار وقت الظهرقال: وذكر أبو الحسين القاضي في كتابه، قال: حدثنا أبو القاسم ميمون بن موسى قال:

خرج رجل من الكتاب في عسكر المعتصم إلى مصر، يريد التصرف، فلم يحظ بشيء مما أمل، ودخل المعتصم بالله مصر.
قال: فحدثني بعض المتصرفين عنه، قال: نزلت في دار بالقرب منه، فحدثني الرجل بما كنت وقفت على بعضه.
قال: أصبحت ذات يوم، وقد نفدت نفقتي، وتقطعت ثيابي، وأنا من الهم، والغم، على ما لا يوصف عظماً.
فقال لي غلامي: يا مولاي، أي شيء نعمل اليوم ؟ فقلت له: خذ لجام الدابة، فبعه، فإنه محلى، وابتع مكانه لجاماً حديداً، واشتر لنا خبزاً سميذاً، وجدياً سميناً، فقد قرمت إلى أكلهما، وعجل، ولا تدع أن تبتاع فيما تبتاعه كوز نبيذ شيروي.
فمضى الغلام، وجلست أفكر في أمري، ومن ألاقي، وكيف أعمل، وإذا بباب الدار قد دق دقاً عنيفاً، حتى كاد أن يكسر، وإذا رهج شديد.
فقلت لغلام كان واقفاً بين يدي: بادر، فانظر ما هذا.
فإلى أن يفتح الباب، كسر، وامتلأت الدار بالغلمان الأتراك وغيرهم، وإذا بأشناس، وهو حاجب المعتصم، ومحمد بن عبد الملك الزيات، وهو الوزير، قد دخلا.
فطرحت لهم زلية، فجلسا عليها، وإذا معهما حفارون.
قال: فلما رأيت ذلك، بادرت فقبلت أيديهما، فسألاني عن خبري، فخبرتهما إياه، وأنني قد خرجت في جملة أهل العسكر، طلباً للتصرف، وذكرت حالي وما قد آلت إليه، فوعداني جميلاً، والحفارون يحفرون في وسط الدار، حتى ترجل النهار، وأنا واقف بين أيديهما، وربما حدثتهما.
فالتفت أشناس إلى محمد بن عبد الملك فقال: أنا والله جائع.
فقال له محمد: وأنا - والله - كذلك.
فقلت عند ذلك: يا سيدي، عند خادمكما شيء قد اتخذ له، فإن أذنتما في إحضاره أحضره.
فقالا: هات.
فقدمت الجدي، وما كان ابتيع لنا، فأكلا، واستوفيا، وغسلا أيديهما.
ثم قال لي أشناس: عندك شيء من ذلك الفن ؟ قلت: نعم، فسقيتهما ثلاثة أقداح.
وجعل أحدهما يقول للآخر: ظريف، وما ينبغي لنا أن نضيعه البائس.
فبينما الحال على ذلك، إذ أرتفع تكبير الحفارين، وإذا هم قد كشفوا عن عشرين مرجلاً دنانير، فوجهوا بالبشارة إلى المعتصم، وأخرجت المراجل.
فلما نهضا، قال أحدهما للآخر: فهذا الشقي الذي أكلنا طعامه، وشربنا شرابه، ندعه هكذا ؟ فقال له الآخر: فنعمل ماذا ؟ قال: نحفن له من كل مرجل حفنة، لا تؤثر فيه، فنكون قد أغنيناه، ونصدق أمير المؤمنين عن الحديث.
ثم قالا: افتح حجرك، وجعل كل واحد، يحفن لي حفنة، من كل مرجل، وأخذا المال، وانصرفا.
فنظرت، فإذا قد حصل لي عشرون ألف دينار، فانصرفت بها إلى العراق، وابتعت بها ضياعاً ولزمت منزلي، وتركت التصرف.

سبحان خالقك يا أبا قلابة فقد تنوق في قبح وجهك

وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: حدثني أبي، عن أبي قلابة المحدث، قال: ضقت ضيقة شديدة، فأصبحت ذات يوم، والمطر يجيء كأفواه القرب، والصبيان يتضورون جوعاً، وما معي حبة واحدة فما فوقها، فبقيت متحيراً في أمري.
فخرجت، وجلست في دهليزي، وفتحت بابي، وجعلت أفكر في أمري، ونفسي تكاد تخرج غماً لما ألاقيه، وليس يسلك الطريق أحد من شدة المطر.
فإذا بامرأة نبيلة، على حمار فاره، وخادم أسود آخذ بلجام الحمار، يخوض في الوحل، فلما صار بإزاء داري، سلم، وقال: أين منزل أبي قلابة ؟ فقلت له: هذا منزله، وأنا هو.
فسألتني عن مسألة، فأفتيتها فيها، فصادف ذلك ما أحبت، فأخرجت من خفها خريطة، فدفعت إلي منها ثلاثين ديناراً.
ثم قالت: يا أبا قلابة، سبحان خالقك، فقد تنوق في قبح وجهك، وانصرفت.
المنصور العباسي يتذكر ما ارتكب من العظائم فيبكي وينتحبوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: دخل عمرو بن عبيد، على أبي جعفر المنصور قبل دولة بني العباس، وكان صديقه، وبين يديه طبق عليه رغيف، وغضارة فيها فضلة سكباج، وهو يتغدى، وقد كاد يفرغ، فلما بصر بعمرو، قال: يا جارية، زيدينا من هذا السكباج، وهاتي خبزاً.
قالت: ليس عندنا خبز، وما بقى من السكباج شيء.
قال: فارفعي الطبق، ثم قال: " عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم، ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون " .
فلما أفضى الأمر إلى أبي جعفر، وارتكب العظائم، دخل عليه عمرو بن عبيد، فوعظه، ثم قال: أتذكر يوماً دخلت عليك ... وأعاد الحديث، وقد استخلفك، فماذا عملت ؟ فجعل المنصور يبكي وينتحب، وفيه حديث طويل.

ارتكب المنصور فظائع من قتل، وتعذيب، ودفن الناس أحياء، ودق الأوتاد في الأعين، وبناء الحيطان على الأحياء، وكان يشهد تعذيب من يأمر بتعذيبه، حتى أنه كان يشهد تعذيب النساء أيضاً.
راجع في الفخري 165 سبب حبس آل الحسن، وقتلهم، وقد حبسهم المنصور في سرداب تحت الأرض، لا يفرقون فيه بين ضياء النهار، وسواد الليل، وهدم الحبس على قسم منهم، وكانوا يتوضؤون أي يقضون حاجاتهم في مواضعهم، فاشتدت عليهم الرائحة، وكان الورم يبدو في أقدامهم فلا يزال يرتفع حتى يبلغ القلب، فيموت صاحبه، ومات إسماعيل بن الحسن، فترك عندهم حتى جيف، فصعق داود بن الحسن، ومات مروج الذهب 2 - 236.
وبلغ المنصور أن عبد الله بن محمد النفس الزكية، فر منه إلى السند، فبعث وراءه من قتله مقاتل الطالبيين 310 - 313، وأمر المنصور بمحمد بن إبراهيم بن الحسن، فبنيت عليه أسطوانة، وهو حي الفخري 164، ومقاتل الطالبيين 200، والطبري 7 - 546 وابن الأثير 5 - 526 وأمر بعبد الله بن الحسن بن الحسن فطرح عليه بيت فقتله مقاتل الطالبيين 228 أما الباقون فما زالوا في الحبس حتى ماتوا، وقيل إنهم وجدوا مسمرين في الحيطان اليعقوبي 2 - 370.
وأمر المنصور بإبراهيم بن الحسن بن الحسن، فدفن حياً مقاتل الطالبيين 28 وجرد محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وأمه فاطمة بنت الحسين، فضرب ألف سوط مروج الذهب 2 - 236 وأمر بأن يدق وجهه بالجرز، وهو العمود من الحديد الطبري 7 - 543 وبلغ من شدة الضرب أن أخرج وكأنه زنجي مقاتل الطالبيين 220 وابن الأثير 5 - 525 وجاءت إحدى الضربات على عينه، فسالت مقاتل الطالبيين 220 والطبري 7 - 542 ثم قتله، وقطع عنقه مقاتل الطالبيين 226.
ولما حمل رأس محمد بن عبد الله إلى المنصور، قال لمطير بن عبد الله: أما تشهد أن محمداً بايعني ؟ فقال: أشهد بالله لقد أخبرتني بأن محمداً خير بني هاشم، وأنك بايعت له، فشتمه، وأمر به، فوتد في عينيه المحاسن والمساوئ 2 - 138.
ولما قتل إبراهيم بن عبد الله في باخمرى، بعث المنصور برأسه إلى أبيه عبد الله فوضعه بين يديه مروج الذهب 2 - 236 و237 وأمر بسديف بن ميمون الشاعر، فدفن حياً العقد الفريد 5 - 87 - 89.
ومن بعد وفاة المنصور عثر المهدي، وزوجته ريطة، على أزج في قصر المنصور، فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال، ورجال، شباب ومشايخ، عدة كثيرة، فلما رأى المهدي ذلك، ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة دفنوا فيها الطبري 8 - 105.
ولما طال حبس عبد الله بن الحسن، وأهل بيته، جلست إحدى بناته للمنصور، فتوسلت إليه بالقرابة، وطلبت منه الرحمة، فقال لها: أذكرتنيه، وأمر به فحدر إلى المطبق وكان آخر العهد به تاريخ بغداد للخطيب 9 - 432.
ومما يبعث على العجب أن المنصور، الذي ضرب أسوء الأمثال في القسوة، أوصى ولده المهدي، فقال: أحفظ محمداً في أمته، وإياك والدم الحرام، فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم، وافتتح عملك بصلة الرحم، وبر القرابة الطبري 8 - 105 و106.

إن قرح الفؤاد يجرح جرحا

ً
وذكر القاضي أبو الحسين، قال: روي لنا عن خالد بن أحمد البطحاوي، مولى آل جعفر بن أبي طالب، قال: تزوجت امرأة، فبينا أنا ذات ليلة من ليالي العرس، وليس عندنا قليل ولا كثير، وأنا أهم الناس بذلك، إذ جاءتني امرأتان، فطرقتا باب منزلي، فخرجت إليهما، فإذا بجارية شابة، وأخرى نصف.
فقالت: أنت خالد البطحاوي ؟.
قلت: نعم.
قالت: أحب أن تنشدنا قولك: خلفوني ببطن حام، فأنشدتهما:
خلّفوني ببطن حامٍ صريعاً ... ثمّ ولّوا وغادروني صبحا
جمع اللّه بين كلّ محبٍّ ... ذبحوه بشفرة الحبّ ذبحا
غادر الحبّ في فؤادي قرحاً ... إنّ قرح الفؤاد يجرح جرحا
قال: فرمت إلي الشابة بدملج ذهب، وانصرفتا، فبعته بجملة دراهم، واتسعت بها.
أبو عمر القاضي يصبح وليس عنده درهم واحد فيجيئه الفرج في وقت قريبوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: حدثني أبي، قال: أضقت إضاقة شديدة، في نكبتي، وأصبحت يوماً، وما عندي درهم واحد فما فوقه، وكان الوقت شتاءً، والمطر يجيء.

فجلست ضيق الصدر، مفكراً في أمري، إذ جاءني صديق لي، فقال: قد جئت لأقيم عندك اليوم، فازداد ضيق صدري، وقلت له: بالرحب والسعة، وأظهرت له السرور بمجيئه.
ودخلت إلى النساء، فقلت لهن: احتلن فيما ننفق في هذا اليوم، على رهن أو بيع شيء من البيت، فقد طرقنا ضيف.
وخرجت، فجلست مع الرجل، وأنا على نهاية من شغل القلب، خوفاً أن لا يتفق قرض، ولا بيع، لأجل المطر.
فأنا كذلك، إذ دخل الغلام، فقال: خليفة أبي الأغر السلمي بالباب.
فقلت: أي وقت هذا لخليفة أبي الأغر ؟ وأمرته أن يخرج فيصرفه، ثم تذممت من صرفه، وقد قصدني في مثل هذا اليوم.
فقلت: قل له يدخل.
فدخل، وحادثني قليلاً، ثم قرب مني، وأخرج صرة فيها مائة دينار.
وقال: يقول لك أخوك: وجهت إليك بهذه الصرة، فتأمر بصرفها في مثل هذا اليوم، في بعض ما يصلح حالك.
فامتنعت من قبولها، فلم يزل خليفته يلطف بي، حتى قبلتها.

بين أحمد بن أبي خالد وصالح الأضجم

حدثني أبي، أبو القاسم التنوخي، في المذاكرة، بإسناد ذهب عن حفظي، قال: كان أحمد بن أبي خالد، بغيضاً، قبيح اللهجة، وكان مع ذلك حراً، وكان يلزمه رجل متعطل من طلاب التصرف يقال له: صالح بن علي الأضجم، من وجوه الكتاب، فحدث، قال: طالت بي العطلة في أيام المأمون، والوزير - إذ ذاك - أحمد بن أبي خالد، وضاقت حالي، حتى خشيت التكشف.
فبكرت يوماً إلى أحمد بن أبي خالد مغلساً، لأكلمه في أمري، فرأيت بابه قد فتح، وخرج بين يديه شمعة، يريد دار المأمون.
فلما نظر إلي، أنكر علي بكوري، وعبس في وجهي، وقال: في الدنيا أحد بكر هذا البكور ليشغلنا عن أمرنا.
فلم تصبر نفسي أن قلت: ليس العجب منك - أصلحك الله - فيما استقبلتني به، وإنما العجب مني، وقد سهرت ليلتي، وأسهرت من في داري تأميلاً لك، وتوقعاً للصبح، لأصير إليك، فأبثك أمري، وأستعين بك على صلاح حالي، وإلا فعلي، وعلي، وحلفت يميناً غليظة، لا وقفت ببابك، ولا سألتك حاجة، حتى تصير إلي معتذراً مما كلمتني به.
وانصرفت مغموماً، مكروباً بما لقيني به، متندماً على ما فرط مني، غير شاك في العطب، إذ كنت لا أقدر على الحنث، وكان ابن أبي خالد، لا يلتفت إلى إبرار قسمي.
فإني لكذلك، وقد طلعت الشمس، إذ طلع بعض غلماني، فقال: أحمد بن أبي خالد، مقبل في الشارع، ثم دخل آخر، فقال: قد دخل دربنا، ثم دخل آخر، فقال: قد وقف على الباب، ثم تبادر الغلمان بدخوله الدهليز، فخرجت مستقبلاً له.
فلما استقر به مجلسه في داري، ابتدأت أشكره على إبراره قسمي، فقال: إن أمير المؤمنين، كان أمرني بالبكور إليه في بعض مهماته، فدخلت إليه، وقد غلبني الفكر، لما فرط مني إليك، حتى أنكر ذلك، فقصصت عليه قصتي معك.
فقال: قد أسأت بالرجل، قم، فامض إليه، فاعتذر مما قلت له.
قلت: فأمضي إليه فارغ اليد ؟ قال: فتريد ماذا ؟ قلت: يقضي دينه.
قال: كم هو ؟.
قلت: ثلثمائة ألف درهم.
قال: وقع له بذلك.
قلت: فيرجع بعد إلى الدين ؟ قال: وقع له بثلثمائة ألف درهم أخرى.
قلت: فولاية يشرف بها.
قال: وله مصر، أو غيرها، مما يشبهها.
قلت: ومعونة على سفره ؟ قال: وقع له بثلثمائة ألف درهم ثالثة.
قال: وأخرج التوقيع من خفه، بالولاية، وبتسعمائة ألف درهم، فدفع ذلك إلي، وانصرف.
وقد ذكر محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، الخبر على قريب من هذا.
جندي تركي تشتد إضاقته ثم يأتيه الفرجوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: حدثنا إبراهيم بن القاسم، قال: كان في جيراني، بالجانب الشرقي، من مدينة السلام، رجل من الأتراك، له رزق في الجند، فتأخر رزقه في أيام المكتفي، ووزارة العباس بن الحسن، فساءت حاله، ورثت هيأته، حتى أدمن الجلوس عند خباز كان بالقرب منا، وكان يستسعفه، فيعطيه في كل يوم خمسة أرطال خبزاً، يتقوت بها هو وعياله.
فاجتمع عليه للخباز شيء، ضاق به صدر الخباز معه أن يعطيه سواه، فمنعه، فخرج ذات يوم، فجلس، وهو عظيم الهم، ثم كشف لي حديثه.
وقال: قد عملت على مسألة كل من يشتري من الخباز شيئاً، أن يتصدق علي، فقد حملني الجوع على هذا، وكلما أردت فعله، منعتني نفسي منه.
فبينما هو معي في هذا، إذ جاء رجل بزي نقيب، يسأل عنه، فدل عليه، فوجده جالساً عند الخباز.
فقال له: قم.
فقال: إلى أين ؟

قال: إلى الديوان، حتى تقبض رزقك، فقد خرج لك ولأصحابك رزق شهرين، فمضى معه.
فلما كان بعد ساعة، جاءني، وقد قبض مائتين وأربعين ديناراً.
فرم منزله، وأصلح حاله، وحال عياله، وأبتاع دابةً وسرجاً وسلاحاً، وقضى دينه، وخرج مع قائد كان برسمه، وحسنت حالته.

أحمد بن مسروق عامل الأهواز يتحدث عن الفرج الذي وجده في قانصة البطة

وذكر أبو الحسين في كتابه عن الحسين بن موسى، أخي إبراهيم بن موسى، قال: خرجت إلى فارس، في أيام المعتمد على الله، فمررت بالأهواز، والمتقلد لخراجها أحمد بن مسروق، فاجتمعنا، وتذاكرنا حديث الغم والفرج، وما ينال الناس منهما، ومن المرض والصحة.
فحدثني: أنه كان في ناحية إسحاق بن إبراهيم، فلما توفي، وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر، تعطل، وافتقر، حتى لم يبق له شيء، وحالفته أمراض كثيرة، فكان لا يصح له بدن يوماً واحداً.
قال: وكان له رفيق، فخرج إلى سر من رأى، فتعلق بالفتح بن خاقان، فحسنت حاله.
قال: فكان يكتب إلي في الخروج إليه، فيمنعني من ذلك عوز النفقة.
فإني لمغموم، مفكر في الحال التي أنا عليها، إذ دخل بعض نسائنا، فلامتني على طول الهم والغم، وقالت: كن اليوم عندي، حتى أذبح لك مخلفة بطة سمنت لنا، وتجتمع مع جواريك، فيغنين لك وتتفرج.
فقلت: نعم، وجئت إلى منزلنا، وذبحت البطة، فإذا قد خرجت إلي، ومعها حجر أحمر، لم تدر ما هو.
فقالت: خرج هذا من قانصة البطة، فما هو ؟ قلت: لا أدري، ولكن هبيه لي حتى أريه لمن يعرفه.
فقالت: خذه، فرأيت شيئاً لم أعرفه، إلا أني بعثت به إلى صديق لي بباب الطاق، وسألته أن يبيعه لي.
فقال: نعم، ثم إنه غسله بماء حار، وباعه بمائة وثلاثين ديناراً.
فأخذت الدنانير، واشتريت مركوباً، وتجهزت إلى سر من رأى، فلزمت أبا نوح، وباب الفتح بن خاقان، فنفدت نفقتي، وجعل رفيقي ينفق علي، ويقرضني.
فدعاني الفتح بن خاقان يوماً، وقد يئست منه، وإذا بين يديه أبو نوح، فقال: هذا أحمد بن مسروق ؟ قال: نعم.
قال: كيف أنت إن أنفذتك في أمر، واصطنعتك ؟ قلت: إني كنت مع الخراسانية كاتباً أعرف جميع الأعمال.
فأدخلني إلى المتوكل، فلما وقفت بين يديه، قال: إنا ننفذك في أمر هو محنتك، وبه ارتفاعك أو سقوطك، فانظر كيف تكون ؟ قال: فقبلت الأرض، ووعدت الكفاية به من نفسي.
وخرج الفتح، ومعه عبيد الله بن يحيى، فوقع لي عبيد الله بأجر ثلاثة آلاف درهم، مع الشاكرية الذين يقبضون عشرة أشهر من السنة، والإستقبال في أول شهر يوضع لهم، ووقع إلى خازن بيت المال بأن يدفع إلي ثلاثين ألف درهم معونة.
وكتب كتبي بالنظر في مصالح الأهواز، وأشياء هناك بالستر والأمانة، احتيج إلى كشفها، فسرت إليها، وبلغت في الأمور ما أحمد.
فصار رسمي أن أقلد أعمالها، فمرة المعونة، ومرة الخراج، ومرة يجمعان لي جميعاً.
فزالت تلك العلل والأمراض التي كانت قد حالفتني، ولا أعرف لذلك سبباً غير الفرج.
فقال الحسين بن موسى، لأحمد بن مسروق: على ذكر وجود الحجر في قانصة البطة: أخبرك أني لما سرت في سفرتي هذه، إلى الموضع المعروف باصطربند، رأيت بستاناً حسناً، فيه باقلى وخضرة، بعقب مطرة، فاستحسنته، فعدلت إليه.
فقال: عساه البستان الذي فيه الصخرة التي كأنها نابتة.
قلت: هو.
قال: هيه.
قلت: فتغدينا فيه، وشربنا أقداحاً، وكنت مستنداً إلى الصخرة، فلما نهضنا، رأيت في وسط الصخرة نقرة، قد اجتمع فيها ماء المطر، فهو في غاية الصفاء.
فوضعت فمي لأشرب منه، فتحرك فيه شيء، فنحيت فمي عنه، وتأملته، فبدت لي خرقة، فجذبتها، فإذا صرة.
فقال أحمد بن مسروق: صرتي، والله، كان فيها ثلثمائة دينار.
قلت: نعم، فمن أين صارت لك ؟.
قال: مررت بهذا الموضع، آخر خرجة خرجتها إلى الأهواز، فملت إلى الموضع، كما ملت، وكانت هذه الصرة في يدي، فوضعتها في الحجر، وأنسيتها وركبت، ثم طلبتها، فلم أجدها، ولا علمت أين وضعتها، إلا الساعة، فذكرتها بحديثك.
قلت: فالدنانير مع غلامي.
قال: خذها، بارك الله لك فيها، وأبرأت ذمتك منها.
أصلح بين متخاصمين بدرهم فوهب الله له درة بمائة وعشرين ألفاً

قال: وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، بإسناد، قال: حدث حمد بن إبراهيم بن عمر البرقي، قال: حدثنا العباس بن محمد البرقي، ل: حدثنا أبو زيد، عن الفضيل بن عياض، قال: حدثني رجل: أن رجلاً خرج بغزل، فباعه بدرهم ليشتري به دقيقاً، فمر على رجلين، كل واحد منهما آخذ برأس صاحبه.
فقال: ما هذا ؟ فقيل: يقتتلان في درهم، فأعطاهما ذلك الدرهم، وليس له شيء غيره.
فأتى إلى امرأته، فأخبرها بما جرى له، فجمعت له أشياء من البيت، فذهب ليبيعها، فكسدت عليه، فمر على رجل ومعه سمكة قد أروحت.
فقال له: إن معك شيئاً قد كسد، ومعي شيء قد كسد، فهل لك أن تبيعني هذا بهذا ؟ فباعه.
وجاء الرجل بالسمكة إلى البيت، وقال لزوجته: قومي فأصلحي أمر هذه السمكة، فقد هلكنا من الجوع.
فقامت المرأة تصلحها، فشقت جوف السمكة، فإذا هي بلؤلؤة، قد خرجت من جوفها.
فقالت المرأة: يا سيدي، قد خرج من جوف السمكة شيء أصغر من بيض الدجاج، وهو يقارب بيض الحمام.
فقال: أريني، فنظر إلى شيء ما رأى في عمره مثله، فطار عقله، وحارلبه.
فقال لزوجته: هذه أظنها لؤلؤة.
فقالت: أتعرف قدر اللؤلؤة.
قال: لا، ولكني أعرف من يعرف ذلك، ثم أخذها، وانطلق بها إلى أصحاب اللؤلؤ، إلى صديق له جوهري، فسلم عليه، فرد عليه السلام، وجلس إلى جانبه يتحدث، وأخرج تلك البيضة.
وقال: أنظر كم قيمة هذه ؟ قال: فنظر زماناً طويلاً، ثم قال: لك بها علي أربعون ألفاً، فإن شئت أقبضتك المال الساعة، وإن طلبت الزيادة، فاذهب بها إلى فلان، فإنه أثمن بها لك مني.
فذهب بها إليه، فنظر إليها واستحسنها، وقال: لك بها علي ثمانون ألفاً، وإن شئت الزيادة، فاذهب بها إلى فلان، فإني أراه أثمن بها لك مني.
فذهب بها إليه، فقال: لك بها علي مائة وعشرون ألفاً، ولا أرى أحداً يزيدك فوق ذلك شيئاً.
فقال: نعم، فوزن له المال، فحمل الرجل في ذلك اليوم أثنتي عشرة بدرة، في كل بدرة عشرة آلاف درهم، فذهب بها إلى منزله، ليضعها فيه، فإذا فقير واقف بالباب، يسأل.
فقال: هذه قصتي التي كنت عليها، أدخل، فدخل الرجل.
فقال: خذ نصف هذا المال، فأخذ الرجل الفقير، ست بدر، فحملها، ثم تباعد غير بعيد، ورجع إليه.
وقال: ما أنا بمسكين، ولا فقير، وإنما أرسلني إليك ربك عز وجل، الذي أعطاك بالدرهم عشرين قيراطاً، فهذا الذي أعطاك، قيراط منه، وذخر لك تسعة عشر قيراطاً.

يحيى البرمكي يتحدث عن عارفة في عنقه ليعقوب بن داود

وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، قال: روي أن خالد بن برمك، قال لابنه يحيى، في إضاقة نالته: قد ترى ما نحن فيه، فلو لقيت يعقوب بن داود، وشكوت إليه ما نحن فيه.
فأتى يعقوب بن داود، فذكر له ذلك، فسكت عنه، فانصرف يحيى، وهو مكروب، آيس من خيره، فأخبره أباه.
فقال: افتضحنا، فياليت أنا لم نكن كشفنا له خبرنا.
قال: فركب يحيى بن خالد من غد، فلقيه بعض إخوانه، فقال: ما زال يعقوب بن داود يطلبك طلباً شديداً، فمضى إليه.
فقال له يعقوب: أين كنت ؟ والله، إنك أوردت على قلبي ما شغله بالفكر في إصلاحه، وقد عن لي أمر رجوت به صلاح حالك، إمض بنا إلى الديوان، فسار معه إليه.
فقال يعقوب: علي بتجار السواد، فأحضروا.
فقال: أشركوا أبا علي معكم بالثلث فيما تبتاعونه من غلة السلطان، ففعلوا.
فقال: لعل ذلك يشق عليكم ؟ فقالوا: أجل.
فقال: أخرجوه، بربح تجعلونه له.
فأخرجوه بربح ستين ألف دينار، فصلحت حاله، وحال أبيه، ومضى إليه بالمال.
من يفعل الخير لا يعدم جوازيهوذكر محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، هذا الخبر بخلاف هذا، فقال: حكى يحيى بن خاقان، قال: كنت يوماً عند يحيى بن خالد، وبحضرته ابنه الفضل، إذ دخل عليه أحمد بن يزيد، المعروف بابن أبي خالد، فسلم وخرج.
فقال يحيى للفضل: في أمر هذا الرجل، خبر، فإذا فرغنا من شغلنا فأذكرني به، حتى أعرفك، فلما فرغ من عمله، أذكره.
فقال: نعم، كانت العطلة، قد بلغت مني، ومن أبي، وتوالت المحن علينا، حتى لم نهتد إلى ما ننفقه.
فلبست ثيابي يوماً، لأركب، فقال لي أهلي: إن هؤلاء الصبيان باتوا البارحة بأسوء حال، وأنا ما زلت أعللهم بما لا علالة فيه، وأصبحت، وما لهم شيء، وما لدابتك علف.

فقرعت قلبي، وقطعتني عن الحركة، ورميت بفكري، فلم يقع إلا على منديل طبري، كان بعض البزازين أهداه إلي.
فقلت: ما فعل المنديل الطبري ؟ فقالت: ها هو.
فأخرجته إلى الغلام وقلت له: اخرج إلى الشارع، فبع هذا المنديل، فمضى، وعاد من ساعته، فقال: خرجت إلى البقال الذي يعاملنا، وعنده رجل، فأعطاني بالمنديل إثني عشر درهماً صحاحاً، وقد بعته بشرط، فإن أمضيت البيع، وإلا أخرجت المنديل إلى سوق قنطرة البردان، واستقصيت فيه، كما تحب.
فأمرته بإمضاء البيع للحال التي خبرتني بها المرأة، وأن يشتري ما يحتاج إليه الصبيان، وعلفاً للدابة، وركبت، لا أدري إلى أين أقصد.
فأنا في الشارع، وإذا أنا بأبي خالد، والد هذا، ومعه موكب عظيم ضخم، وهو يومئذ يكتب لأبي عبيد الله، كاتب المهدي، فملت إليه، ورميت نفسي عليه.
وقلت له: قد تناهت العطلة بأخيك، وبي، إلى ما لا نهاية وراءه، وعلي، وعلي، إن لم تكن قصتي في يومي هذا، كيت وكيت، وقصصت عليه الخبر، وهو مستمع لذلك، ماض في سيره، فلما بلغ مقصده، انصرفت عنه، ولم يقل لي حرفاً.
فانصرفت منكسف البال، منكراً على نفسي إسرافي في الشكوى، وإطلاعي إياه على ما أطلعته عليه.
وقلت: ما زدت على أن فضحت نفسي، وقللتها في عينه من غير نفع.
ووافيت منزلي على حال أنكرتها أهلي، فسألتني.
فقلت: جنيت اليوم على نفسي جناية كنت عنها غنياً، وقصصت عليها قصتي مع يزيد.
فأقبلت توبخني، وقالت: ما حملك على أن أظهرت للرجل حالك ؟ فإن أقل ما في ذلك، أن لا يأتمنك على أمر، فإن من تناهت به الحال إلى ما ذكرت، كان غير مؤتمن، فنالني من توبيخها، أضعاف ما نالني أولاً.
وأصبحنا في اليوم الثاني، فوجهت بأحد ثوبي، فبيع، وتبلغنا بثمنه وأصبحنا في اليوم الثالث، ونحن في غاية الضيقة، فطوينا يومنا وليلتنا.
فلما كان اليوم الرابع، ضاقت نفسي، وقل صبري، وضعفت قوتي، واخترت الموت على الحالة التي أنا فيها.
فقالت لي أهلي: أنا خائفة عليك من الوسواس، فيكون ما نحتاج لعلاجك، أضعاف ما نحتاج لمؤونتنا، فسهل الأمر عليك، ولا تضجر، ولا تقنط من رحمة الله، فإن الله عز وجل، الصانع، المدبر، الحكيم.
قال: فركبت، لا أدري أين أقصد، فلما صرت إلى قنطرة البردان، لقيني رسول أبي خالد يطلبني، فدخلت داره.
فقال لي حاجبه: اجلس، فأقمت، وخرج مع الزوال، فدنوت منه.
فقال: يا ابن أخي، شكوت إلي بالأمس، شكوى، لم يكن في جوابها إلا الفعل، وأمر بإحضار حميد، وداهر، تاجرين كانا يبيعان الطعام.
فقال لهما: قد علمتما أني إنما بعتكما البارحة، ثلاثين ألف كر، على أن ابن أخي هذا شريككما فيها بالسعر.
ثم قال: لك في هذه عشرة آلاف كر بالسعر، فإن دفعا إليك ثلاثين ألف دينار ربحك، وآثرت أن تخرج إليهما من حصتك، فعلت، وإن آثرت أن تقيم على ابتياعك، فعلت.
قال: فتنحينا ناحية، وقالا: إنك رجل شريف، وابن شريف، وليست التجارة من شأنك، ومتى أقمت على ألابتياع، احتجت إلى كفاة وأعوان، ولكن خذ منا ثلاثين ألف دينار، وخلنا والطعام.
فقلت: قد فعلت، وقمت إلى أبي خالد، فقلت: قد أجبتهما إلى أخذ المال، وتركهما والطعام.
فقال: هذا أروح لك، فخذ المال، وتبلغ به، والزمنا، فإنا لا نقصر في أمرك بكل ما يمكننا.
فأخذت من الرجلين ثلاثين ألف دينار، وما كان بين ذلك، وبين بيع المنديل والثوب، إلا أربعة أيام.
فسرت إلى أبي، وخبرته الخبر، وقلت له: جعلت فداك تأمر في المال بأمرك ؟ فقال: نعم، أحكم عليك فيه، بمثل ما حكم أبو خالد به على التاجرين، أي أن الثلث لي.
فحملت إليه عشرة آلاف دينار، واشتريت بعشرة آلاف دينار ضيعة، ولم أزل أنفق الباقي، إلى أن أداني ذلك إلى هذه الحال، وإنما حدثتك بهذا، لتعرف - يا بني - للرجل حقه.
فقلت ليحيى بن خاقان: فما الذي كان من يحيى بن خالد إلى أحمد بن أبي خالد ؟ قال: ما زال هو وولده، على نهاية البر به، حتى نال ما نال من الوزارة، بذلك الأساس الذي أسساه.
وقرئ على أبي بكر الصولي، بالبصرة، سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، بإسناد، وأنا حاضر، في كتابه كتاب الوزراء حدثكم عون بن محمد الكندي، عن إبراهيم بن الحسن بن سهل، قال: سمعت أهلي يتحدثون:

أن يحيى بن خالد البرمكي، قال: نالتني خلة في أيام المهدي، فجئت إلى يزيد الأحول، أبي خالد، وكان يكتب لأبي عبيد الله، فأبثثته حالي، فما أجابني، ولا أقبل علي، فتأخرت نادماً، ثم جاءني رسوله من الغد، فصرت إليه.
فقال لي: إنك شكوت إلي شكوى لم يكن جوابها الكلام والتوجع، وقد بعت جماعة من التجار، ثلاثين ألف كر، من غلات السواد، واشترطت لك ربع الربح، فخذ كتابي هذا إليهم، فإن أحببت أن تصبر إلى أن تباع الغلة، توفر ربحك، وإن ناظرت التجار، وخرجت من حصتك بربح عاجل، فأقبل ما يبذلونه لك ثلاثون ألف دينار، فدعوت له.
ولقيت القوم، فقالوا: أنت رجل سلطان، ولا يتهيأ لك ما نفعل نحن من الصبر على الغلة، وانتظار الأسعار، فهل لك أن تخرج منها بربح ثلاثين ألف دينار معجلة ؟ فقلت: نعم، فقبضتها في يوم واحد، وانصرفت.
وذكر أبو الحسين في كتابه، قال: حدث محمد بن أحمد بن الخصيب، قال: حدثني من سمع أحمد بن أبي خالد الأحول، يحدث، قال: كان السلطان قد جفا خالد بن برمك، واطرحه، حتى نالته إضاقة شديدة، وكاد أن ينكشف.
فحدثت أن يحيى بن خالد أصبح يوماً، فخرجت إليه امرأته، أم الفضل ابنه، فقالت له: ما أصبح اليوم في منزلك دقيق، ولا علف للدابة، ولا نفقة لشيء.
فقال لها: بيعوا شيئاً من البيت.
قالت: ما بقي في البيت ما له قدر، ولا ما يمكن بيعه.
فقال: قد كان فلان، أهدى إلينا منديلاً فيه ثياب، فبعنا الثياب، فما فعل المنديل ؟ قالت: باق.
قال: فبيعوه.
فبعثت به إلى سوق قنطرة البردان، فبيع بنيف وعشرين درهماً، فأنفقوها أياماً.
ثم خرجت إليه، فقالت: ما قعودك ؟ ما عندنا نفقة، ولا دقيق، ولا علف للدابة.
فركب يحيى، فكان أول من لقيه أبو خالد الأحول، فشكا إليه ما هو فيه، فأمسك، ثم أجابه بجواب ضعيف.
وانصرف يحيى إلى منزله، وقد كاد يتلف غماً وندماً، ولام زوجته، وأقام أياماً لا يركب، وزوجته تحتال فيما تنفق.
ثم حركته على الركوب، وشكت إليه انقطاع الحيلة، وتعذر القوت، فركب، فلما صار في بعض الطريق، لقيه أبو خالد.
فقال له: صرت إلي، وسألتني أمراً، حتى إذا أحكمته لك، تركت تنجزه.
فقال: كرهت التثقيل عليك.
فقال: إنك شكوت إلي أمرك، فغمني، وذكرته لأبي عبيد الله، فتقدم إلي فيه بأمر، ثم لم تصر إلي، فتعال معي الآن إلى الديوان.
قال يحيى: فمضيت معه إلى الديوان، فأحضر التجار المبتاعين لغلات الأهواز، فقال لهم: هذا الرجل الذي جعل له الوزير سهماً معكم فيما ابتعتموه فحاسبوه على ما بينكم وبينه.
قال يحيى: فأخذ التجار بيدي إلى ناحية، فواقفوني، على ربح خمسين ألف دينار، وأن أدعهم والغلة، فما برحت، حتى راج لي المال، وحملته إلى منزلي.
وعرفت أبي الحال، فأخذ من المال عشرين ألفاً، وقال: هذه تكفيني لنفقتي، إلى أن يفرج الله تعالى عني، والباقي لك، فإن عيالك كثير.
قال أحمد بن أبي خالد: فرعى لي القوم ذلك، يعني البرامكة، فلما صار الأمر إليهم، أشركوني في نعمتهم، وكان آخر ما وليت لهم جند الأردن.
وانصرفت إلى مدينة السلام، وقد سخط الرشيد على يحيى، ومعي من المال ستة آلاف دينار، فتوصلت إلى أن دخلت إليه في الحبس، فتوجعت له، وعرضت عليه المال.
فقال: لست أجحف بك، احمل إلينا منه ثلاثة آلاف دينار، وكتب رقعة، بخط لا أعرفه، ثم أتربها، ثم قطعها نصفين، فجعل أحدهما تحت مصلاه، ودفع إلي الآخر.
وقال: أمرنا قد ولى، ودولتنا قد انقضت، وهذا الخليفة سيموت، وستقع فتنة يطول فيها الأمر بين خليفتين، يكون الظاهر منهما صاحب المشرق، وسيكون لغلام، يقال له الفضل بن سهل، معه حال، فإذا بلغك ذلك، فادفع إليه هذا النصف من الرقعة، فإنك ستبلغ بها ما تحب عنده.
قال أحمد بن أبي خالد: فخرجت من عنده، وأنا أندم الناس على إخراجي من يدي ثلاثة آلاف دينار، إلى رجل قد نعى نفسه إلي، فاحتفظت بنصف الرقعة.
ومضت الأيام، وولي محمد المخلوع، ووقعت الفتن، ولزمتني عطلة، ودامت، حتى رقت حالي، واشتد إختلالي.
ودخل طاهر مدينة السلام، فإني ذات يوم متفكر في أمري، متحير فيما أعمله، سمعت قرع الباب علي.
فقلت لزوجتي: أخرجي إلى الدهليز، وأعرفي الخبر، ولا تتكلمي، ولا تفتحي، فمضت، وجاءت مذعورة.
وقالت: ما أدري، على الباب جماعة من الشرط والمسودة ونفاطات.

فخرجت، ووقفت خلف الباب، وقلت: من هذا ؟ فقالوا: هذا منزل أحمد بن أبي خالد الأحول ؟ فقلت: نعم.
فقالوا: نحن رسل الأمير طاهر بن الحسين إليه.
فقلت: لعلكم غلطتم، ما يريد الأمير من مثله ؟ فقال بعضهم: يا هذا، إنا جئنا في أمر يسره، فأعلمه إياه، وأنه لا بأس عليه.
قال: وظنني غلاماً في الدار، فسكنت إلى هذا القول، ورجعت إلى مجلسي من الدار، وأنفذت جارية سوداء كانت لي، حتى تفتح الباب.
فدخل قائد جليل، وبرك بين يدي، وقال: أنت - أعزك الله تعالى أحمد بن أبي خالد ؟ قلت: نعم.
قال: الأمير يسألك أن تصير إليه الساعة.
قال: فأردت أن أسبر الأمر الذي دعيت إليه، أخير هو أم شر.
فقلت: أدخل، وألبس ثيابي.
قال: افعل.
قال: فدخلت، وأوصيت زوجتي فيما أحتاج إليه، وعلمت أنه لا بأس علي، ولبست مبطنتي، وطيلساني، وشاشيتي، وخفي، ثم خرجت.
فقلت: ليس لي مركوب.
قال: فاركب من جنائبي، فركبت دابة قدمها إلي، وصرت إلى طاهر، فسلمت عليه، فساعة رآني، قال: أنت أحمد بن أبي خالد الأحول ؟ قلت: نعم.
فألقى إلي كتاباً في نصف قرطاس، بخط الفضل بن سهل، وكان أول كتاب رأيته، لأبي فلان، من فلان، فإذا عنوانه: لأبي الطيب أعزه الله تعالى، من ذي الرياستين، الفضل بن سهل، وصدره: أعزك الله، وأطال بقاءك، أمر أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، بأن تتقدم ساعة وصول كتابي هذا، بطلب أحمد بن أبي خالد الأحول الكاتب، حيثما كان من أقطار الأرض، فتحضره مجلسك، وتصله بخمسين ألف درهم، وتحمله على عشرين دابة من دواب البريد، إلى باب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، مصوناً، ولا ترخص له في التأخر، فرأيك - أعزك الله - في العمل بذلك، موفقاً، إن شاء الله تعالى، وكتب في يوم كذا من شهر كذا.
قال: فلما قرأت الكتاب، اشتد سروري، وقلت: آخذ فيما أحتاج إليه، وأنهض.
فقال: ما إلى تأخرك سبيل، هذا المال، وهذه الدواب، وتخرج الساعة.
فقلت: أكتب إلى منزلي بما أحتاج إليه، وأخذت المال، وحملت أكثره إليهم، وكاتبتهم بما أحتاج إليه.
وذكرت الرقعة التي من يحيى بن خالد، فأمرتهم بإنفاذها إلي، وطلبت قماشاً قليلاً مما لا بد منه.
فعاد الجواب بوصول المال، وأنفذوا النصف من الرقعة، وما طلبت من القماش، وشخصت من دار طاهر، سحر تلك الليلة.
فما مررت بمدينة إلا خدمت فيها أتم خدمة، إلى أن وافيت الري، فلقيني رجل ذكر لي أن ذا الرياستين أنفذه لتلقي، والقيام بمصالحي إلى أن أوافي حضرته، فلم يزل قائماً بما أحتاج إليه، ويحض كل من أجتاز به على تفقدي وخدمتي إلى أن وافيت باب الفضل بمرو، ومعي صاحبه، وصاحب طاهر.
فوقفت بباب الفضل طويلاً إلى أن تفرغ، ودعاني، فدخلت، وهو في قبة أدم، وعليه سواد، وحوله السلاح كله، وبين يديه جحفة فيها كتب.
فلما مثلت بين يديه، قال لي: أنت أحمد بن أبي خالد الكاتب ؟ فقلت: نعم.
قال: انصرف إلى منزلك، وارجع إلينا بعد ثلاثة أيام في سواد، لأدخلك على أمير المؤمنين.
فوليت من بين يديه، وأنا لا أدري إلى أين أمضي، وإذا خادم قد لحقني، وأخذ بيدي، وخرج معي، حتى سار إلى دار قد أعدت لي، وفيها كل ما أحتاج إليه من فرش، وآلة، وكسوة، وغلمان، ودواب، وقماش، وغير ذلك من الأطعمة والأشربة، فجعل يعرفني ما تحت يد كل غلام، ثم قال: هذا كله لك، وانصرف، فأقمت في كل نعمة وسرور، ثلاثة أيام.
ثم غدوت في اليوم الرابع في سواد، فألفيت ذا الرياستين خارجاً من داره، فترجلت، ودنوت، فأعطاني طرف كمه فقبلته، ثم أمرني بالركوب، فركبت، وسرت في موكبه، حتى وافى دار المأمون، فثنى رجله، ونزل في محفة معدة له، فجلس فيها، وحمله القواد على أعناقهم، حتى أجلسوه مع المأمون على السرير، فمكثت غير بعيد.
فجاء خادم فدعاني، فدخلت، والفضل والمأمون على السرير، وكل واحد منهما مقبل على صاحبه.
فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، هذا أحمد بن أبي خالد، كانت كتبه ترد علينا من مدينة السلام بأخبار المخلوع، في وقت كذا، وفي وقت كذا، وقد وفد على أمير المؤمنين وهو من اليسار، وحسن الحال، على أمر يقصر عنه الوصف، وهو يعرض نفسه، وماله، على أمير المؤمنين، يريد أنه متى خلا بي، فسألني عن شيء، كنت قد عرفته.
قال أحمد: فشيعت كلامه بما حضرني.

فقال المأمون: بل، قد وفر الله تعالى عليه ماله، ونضيف إليه أمثاله.
فقال: يا أمير المؤمنين، ويشرك بينه وبين خدم أمير المؤمنين، في تقلد الأعمال.
قال: نعم.
قال: ويولى ديوان التوقيع، وديوان الفض والخاتم.
قال: افعل.
قال: ويخلع عليه خلعة هذه الأعمال.
قال: نعم.
قال: وصلة يعرف بها موقعه من أمير المؤمنين.
قال: نعم.
قال أحمد: فما برحت، حتى أنجز لي كل ذلك، وانصرفت.
فلما كان بعد عشرين يوماً بعث إلي في الليل، فعلمت أنه لم يحضرني في هذا الوقت، إلا ليسألني عن الرقعة، فجعلتها في خفي، وصرت إليه، وإذا هو جالس، والحسن أخوه إلى جانبه.
فقال لي: يا أبا العباس، كانت بينك وبين شيخنا أبي علي رضي الله عنه حرمة ؟ قلت: نعم، وأي حرمة.
فقال: ما هي ؟ فقصصت عليه كيف كانت قصة أبي معه، ثم وصلت ذلك بخبري، إلى أن أنتهيت إلى حديث الدنانير ونصف الرقعة.
فقال: أين هي ؟ فأخرجتها من خفي، فدفعتها إليه، فرفع مصلاه، فإذا النصف الذي كان يحيى بن خالد رحمه الله، جعله تحت مصلاه، فقرن بينهما، والتفت إلى أخيه وقد دمعت عيناه.
فقال: هذا خط أبي علي رضي الله عنه، ثم قال: أقرأت ما فيها ؟ قلت: لا.
قال: فيها أمتعني الله بك - يا بني - طويلاً، وأحسن الخلافة عليك، قد وجب علي من حق أبي العباس أحمد بن أبي خالد الأحول الكاتب، في الحال التي أنا عليها، ما قد أثقلني، وأعجزني عن مكافأته، إلى غير ذلك مما أعتد به لسلفه، ونجمنا قد أفل، وأمرنا قد انقضى، ودولتك قد حضرت، وجدك قد علا، فأحب أن تقضي عني حق هذا الفتى، إن شاء الله تعالى.
قال أحمد بن أبي خالد: فلم أزل مع الفضل، تترقى حالي، واختص بخدمة المأمون، إلى أن دارت الأيام، واستكتبني المأمون، وزادت النعمة، ونمت، والحمد لله على ذلك.
وذكر محمد بن عبدوس في كتابه كتاب الوزراء في أخبار أحمد بن أبي خالد، قال: كان سبب اتصاله بالمأمون، أن الرشيد لما سخط على البرامكة، واتصل خبرهم، وما هم فيه من الضيق، بأحمد بن أبي خالد، شخص نحو الرقة، فوافاها وقد أمر الرشيد بمنع حاشيتهم من الدخول إليهم.
فلم يزل يحتال حتى وصل إلى يحيى، فانتسب له، وعرفه أنه قصده لخدمته.
فرحب به يحيى وأعلمه أنه كان يحب أن يقصده في وقت إمكان الأمور، ليبلغ من مكافأته وتحقيق ظنه حسب رغبته.
فشكره أحمد، وسأله قبول شيء حمله معه، وإن كان يسيراً، وضرع إليه.
فدفعه يحيى عنه، وقال: نحن في كفاية.
فألح أحمد عليه، وأعلمه أنه لا يثق بقبول انقطاعه إليه إلا بإجابته إلى ما سأل.
فسأله يحيى عن مقدار ذلك، فقال: عشرة آلاف درهم.
فقال: أدفعها إلى السجان.
وقال لأحمد: إن حالنا حال لا نرجو معها بلوغ مكافأتك، ولكني سأكتب لك كتاباً إلى رجل سيقوم بأمر الخليفة الذي يملك خراسان، فأوصل إليه كتابي، فسيقوم بقضاء حقك.
ثم كتب له في قريطيس كتاباً، وطواه، ووضع عليه خاتمه، فانصرف أحمد إلى منزله.
فلما قلد الفضل بن سهل أمر المأمون، قصده أحمد بن أبي خالد، فوصل إليه في دار المأمون.
فلما فرغ من أعماله، أوصل إليه الكتاب، فأنكر وجهه، وسأله عن صاحب الكتاب، فقال: يقرأه الأمير - أطال الله بقاءه - فإنه سيعرفه.
فلما فضه، ونظر إلى الخط استبشر، ثم استدنى أحمد بن أبي خالد، وأعلمه إنه من أعظم خلق الله منةً عليه، وأوجبهم حقاً، وأمره بالمصير إلى منزله.
فصار أحمد بن أبي خالد إلى دار الفضل، فلما وصل إليه فيها، عانقه، وقبله، وقال: أوجبت - والله - علي حقاً.
وسأله عن خبر الكتاب، فذكره له، فوعده ببلوغ المحبة، وأمر بإنزاله منزلاً يتخذ له، ويفرش بما يحتاج إليه، ووجه بحاجبه، وبعض خدمه، ومعهم تخوت ثياب، وخمسون ألف درهم، واعتذر إليه، وأمره بالاستعداد للوصول إلى المأمون، ثم أوصله إليه، ووصفه له، وقرظه.
ولم يزل يقوم بحاله عنده، حتى أمر المأمون بتصريف أحمد بن أبي خالد، وأجرى له الأرزاق والأنزال، وأجراه في الوصول إليه مجرى الخاصة، وقلده من أعمال خراسان، وما وراء النهر، أعمالاً جليلة، وتمكنت حاله عنده.

قال محمد بن عبدوس: وحدثني علي بن أبي عون، قال: حدثني أبو العباس بن الفرات، قال: حدثني علي بن الحسن، قال: حدثني محمد بن عمر الجرجاني الكاتب: وذكر من خبر أحمد بن أبي خالد ويحيى بن خالد مثل الذي ذكره يحيى بن خاقان، وزاد فيه: إن أحمد بن أبي خالد لم يحظ من أيام يحيى بن خالد بشيء، وإنه لزمه عند حبسه، فلما حضرته الوفاة زوده كتاباً إلى الفضل بن سهل يعتذر إليه فيه من ولاية ما أولاه، ويسأله مكافأته عنه، وأنه احتفظ بالكتاب مدة أيام الرشيد، وصدراً من أيام محمد، وساءت حال أحمد بن أبي خالد، وعظم فقره جداً، واشتدت عليه العطلة والخلة، فلما أنفذ محمد الأمين علي بن عيسى بن ماهان، لمحاربة طاهر، عمل أحمد على اتباع عسكره.
قال محمد بن عمر الجرجاني: فجاءني يذكر ما عزم عليه، ويصف إفراط خلته، وقصور حيلته، وسألني أن أسأل سلاماً الأبرش، لمودة كانت بينه وبين أبيه، أن يعينه بمركوب وبألفي درهم.
فقصدت سلاماً، وسألته في ذلك، فقال: والله، لو كان لي بعدد الذباب دواب، ما أعطيته شعرة من ذنب واحد منها، ولو كان عندي بقدر رمل عالج عين وورق، ما أعطيته منها حبة.
فانصرفت إليه - وقد كان أقام في منزلي، ينتظر ما يجري - فأخبرته بما قال، وحلفت له أني ما أملك إلا دابة، وبغلة، وأربعمائة درهم، فليأخذ منها ما شاء.
فقال: أنت إلى الدابة في الحضر أحوج، وأنا إلى البغلة في السفر أحوج، فأعطنيها، وأنت مقيم، وأنا مسافر، وتقدر - أنت - أن تحتال لنفسك نفقة، وأنا لا أقدر، فأعطني أربعمائة الدرهم كلها.
فدفعتها إليه مع البغلة، وصحب عسكر علي بن عيسى.
فلما حدث على علي ما حدث، صار إلى الفضل، فأوصل إليه الكتاب، فقرأه، وسر نهاية السرور، وأكرمه غاية الإكرام، وأنكر عليه تأخره إلى ذلك الوقت.
وقال: ما أعرف شيئاً أقضي به حقك، إلا أن أشركك في أمري، وأقلدك العرض على أمير المؤمنين خلافة لي.
فقلده ذلك، وكبر أمره.
ولم يزل أحمد بن أبي خالد، يضرب على سلام الأبرش، ويغري به المأمون، إلى أن قال له: قد وهبت لك دمه، وجميع ما يملكه.
فقبض عليه، وقبض منه ما قيمته أربعة آلاف ألف درهم، ودعا بالسيف والنطع، وأمر بضرب عنقه، بعد أن قرعه بما كان منه عند مسألة محمد بن عمر الجرجاني في أمره.
ثم أعرض عن قتله، وأمر بحبسه، وقال للمأمون: إني كرهت أن أتجاوز مذهب أمير المؤمنين في العفو، فاستصوب رأيه.
وترقت أحوال أحمد بن أبي خالد، إلى أن تقلد وزارة المأمون.
قال محمد بن عمر الجرجاني: وحدثت الفتن بعد ذلك ببغداد، وتشرد أهلها عنها، فهربت إلى إخوان كانوا لي بالكوفة، فأقمت عندهم، واستطبت البلد، فسكنته، وأبتعت بجميع ما أملكه ضيعة هناك، وولينا عامل أحسن إلينا، فشكرناه، وانعقدت بيننا وبينه مودة وكيدة.
ثم صرف بعامل آخر، فحقد علينا المودة التي كانت بيننا وبين المصروف، فأساء معاشرتنا، واضطرنا إلى قصد أحمد بن أبي خالد للتظلم، فدخلت بغداد، فلما رآني أكرمني، واستبطأني، وذكر تطلعه إلى لقائي، وطلبه إياي، وغموض خبري عليه، وسألني عن أموري، فشرحتها له، فكتب بخطه بصرف العامل، وتقليد المصروف الذي كان صديقي.
وأعلمني بما جرى عليه أمر سلام الأبرش، وقال: قد كنت جعلت لك فيما قبضت منه الربع، وهو معزول لك، فتسلمه، وكان قيمته ألف ألف درهم.

قصة أبي عبيد الله وزير المهدي وكيف ارتقت به الحال حتى نال الوزارة

وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، قال: حدثني محمد بن أحمد بن الخصيب، قال: حدثني من سمع أحمد بن أبي خالد الأحول، يقول: كان أبي صديقاً لأبي عبيد الله وزير المهدي، وهو إذ ذاك معلم، وأبي متخلي، فكانا يتعاشران، ويألفهما أحمد بن أيوب.
قال أبو خالد: وكنا نتبين في أبي عبيد الله شمائل الرئاسة، ونصدره إذا اجتمعنا، ونرجع إلى رأيه فيما يعرض لنا.
فقلت له ليلة، ونحن نشرب: نحسبك سترأس، وتبلغ مبلغاً عظيماً، فإن كان ذلك، فما أنت صانع بنا ؟ فقال: أما أنت يا أبا خالد، فأصيرك خليفتي على أمري، وأما أنت يا ابن أيوب، فقل ما أردت.
فقال: أريد أن توليني أعمال مصر سبع سنين متوالية، ولا تسألني بعد الصرف عن حساب.
قال: ذلك لك.

قال أبو خالد: فلم يمض لهذا الأمر إلا مديدة، حتى أمسكت السماء، وخرج الناس يستسقون، وكان عليهم - إذ ذاك - ثعلبة بن قيس، عاملاً من قبل صالح بن علي، فما انصرف الناس، حتى أتت السماء بمطر غزير.
فقال ثعلبة لكاتبه: اكتب إلى الأمير بما كان من القحط، وما حدث بعده من الاستسقاء، وما تفضل الله به من الغيث.
فكتب كتاباً، لم يرضه ثعلبة، فقال لمن حوله: ألا يصاب لي رجل، يخاطب السلطان عني، بخطاب حسن.
فقال له بعضهم: ها هنا رجل مؤدب، معه بلاغة، وأدب كثير، وفيه - مع ذلك - عقل.
فقال: أحضره.
فأحضر أبا عبيد الله، وأمره بأن يكتب عنه إلى صالح بن علي، في ذلك المعنى، فكتب كتاباً استحسنه ثعلبة، وأنفذه إلى صالح بن علي.
فلما قرأه أعجبه، وكتب إلى ثعلبة: أن أحمل إلي كاتبك على البريد، فحمله إليه، فلما وافاه، امتحنه، فوجده كافياً في كل ما أراده، فاستكتبه.
فلما تتابعت كتبه عن صالح بن لعي، إلى المنصور، قال المنصور: كنت أرى كتب صالح بن علي ترد ملحونةً، وأراها الآن ترد بغير ذلك الخط، وهي محكمة، سديدة، حسنة.
فخبر بخبر أبي عبيد الله، فأحضره، فلما فاتشه، وجده كما أراد، فاستكتبه لابنه المهدي.
قال أبو خالد: وطعن الربيع على أبي عبيد الله، عند المنصور، مراراً.
فقال: ويلك، أتلومني في اصطناع معاوية، وقد كنت أجتهد بأبي عبد الله - يعني المهدي - أن ينزع عنه لباس العجم، فلا يفعل، فلما صحبه معاوية، لبس لباس الفقهاء.
قال أبو خالد: ثم أشخصني أبو عبيد الله إليه، لما كتب للمهدي، فقلدني خلافته على الديوان، فلما مات المنصور، وولي المهدي الخلافة، أنفذت الكتب إلى أحمد بن أيوب بولاية مصر، فلم يزل بمصر، والياً عليها، إلى أن توفي بها.

القاضي التنوخي يتحدث عن قصته مع أبي علي أحمد بن محمد الصولي

قال مؤلف هذا الكتاب: كنت بالبصرة في المكتب سنة خمس وثلاثين، وأنا مترعرع، أفهم، وأحفظ ما أسمع، وأضبط ما يجري.
وكان أبو بكر محمد بن يحيى الصولي، قد مات بها في شهر رمضان من هذه السنة، وأوصى إلى أبي في تركته، وذكر في وصيته أنه لا وارث له.
فحضر إلى أبي ثلاثة إخوة شباب، فقراء، بأسوء حال، يقال لأكبرهم: أبو علي أحمد، والأوسط: أبو الحسن محمد، والأصغر أبو القاسم، بنو محمد التمار.
وذكروا لأبي، أن أمهم تقرب إلى أبي بكر الصولي، وأنهم يرثونه برحمها منه، وذكروا الرحم واتصالها.
فسامهم أبي، أن يبينوا ذلك عنده بشهادة شاهدين من العدول، ليعطيهم ما يفضل - بعد الدين من التركة - عن الثلث، فاضطربوا في ذلك، وكانوا يتعكسون في إقامة الشهادة شهوراً، ويلازمون باب أبي.
وكان مكتبي في بيت قد أخرجه من داره إلى سكة الإثنين التي ينزلها، وجعل بينه، وبين باب داره، دكاناً ممتداً.
فكنت، ومعلمي، والصبيان، نجلس طرفي النهار على الدكان، وفي انتصافه في البيت.
فكان هؤلاء الإخوة يجلسون عندي في المكتب كثيراً، ويؤانسون معلمي، ويلاعبوني، ويتقربون إلي، ويسألوني أن أعرض لهم على أبي، الرقعة، بعد الرقعة، يعطوني إياها.
فقال لي يوماً، الأكبر منهم، وهو أبو علي أحمد بن محمد: إن أعطاك الله تعالى، الحياة، حتى تتقلد القضاء، وتصير مثل القاضي أبيك في الجلالة والنعمة، وجئتك، أي شيء تعطيني ؟ فقلت له، بالصبا، وكما جرى عليه لساني: خمسمائة دينار.
قال: فأعطني خطك بها، فاستحييت، وسكت.
فقال لمعلمي: قل له يكتب لي.
فقال لي: اكتب له، وأملى علي المعلم، وأبو علي، رقعة في هذا المعنى، وأخذها أبو علي.
فما مضت إلا أياماً حتى استدت لهم الشهادة عند أبي، على صحة ما ادعوه من الرحم، واستحقاق الميراث بها.
وكان أبي قد باع التركة، وقضى الدين، وفرق قدر الثلث، وترك الباقي مالاً عنده، فأمر بتسليمه إليهم، وأشهد بقبضه عليهم، وانصرفوا.
فما وقعت لي عين على أحد منهم، إلا في سنة ست وخمسين وثلثمائة، فإني كنت أتقلد القضاء والوقوف بسوق الأهواز، ونهر تيرى، والأنهار، والأسافل، وسوق رامهرمز، سهلها وجبلها، وأعمال ذلك، وأنا في داري بالأهواز، وأمري في ضيعتي مستقيم.
فدخل إلي بوابي، فقال: بالباب رجل يقول: أنا من قرابة الصولي، قدمت من بغداد بكتب إليك، وذكره لي، فلم أذكره.
وقلت: أدخله.

فدخل رجل شيخ لم أعرفه، فسلم، وجلس، وقال: أنا خادم القاضي منذ كان في المكتب، أنا قرابة الصولي، فعرفته، ولم أذكر الخط، ولا القضية.
فأخرج إلي كتباً من جماعة رؤساء ببغداد، يذكرون أنه قد كان مقيماً منذ سنين، ببغداد، وراقاً بقصر وضاح بالشرقية، بحالة حسنة، فلحقته محن أفقرته، ويسألوني تصريفه، ومنفعته، فوعدته جميلاً.
فقال: إنما جعلت هذه الكتب، طريقاً يعرفني القاضي بها، وما أعول الآن عليها، إذ قد أحياني الله عز وجل، إلى أن رأيته قاضياً في بعض عمل أبيه رضي الله عنه، وجاهه ونعمته، كجاهه ونعمته، أو قريب من ذلك، وقد حل لي بذلك دين عليه، واجب في ذمته، وما أقنع إلا به.
فقلت: ما معنى هذا الكلام.
فقال: أينسى القاضي ديني ؟ ثم أخرج رقعتي التي كان أخذها مني في المكتب.
فحين رأيتها، ذكرت الحديث، وحمدت الله كثيراً، وقلت: دين واجب حال، وحق مرعي وكيد، ولكن تعرف صعوبة الزمان، والله، ما يحضرني اليوم مائة دينار منها، ولو حضرت، ما صلح أن أشتهر بصلتك بها، فيصير لي حديث يعود بضرر علي، ولكن ارض مني، بأخذ دينك متفرقاً.
فقال: قد رضيت، وما جئت إلا لأقيم في فنائك، إلى أن أموت.
وجاء لينهض، فقلت: إلى أين ؟ اجلس، فجلس، فوقعت له في الحال، إلى بزاز كان يعاملني، أن يعطيه ثياباً بثلثمائة درهم، وإلى جهبذ الوقوف، أن يعطيه من أبواب البر، عشرة دنانير، واستدعيت كيس نفقتي، وأعطيته منه مائتي درهم.
وقلت له: قم، فاستأجر داراً، وتأثث بما قد حضر الآن، وأكتس، وعد إلي، لأصرفك فيما أرجو أن أوصله إليك، منه، ومن مالي، الجملة التي في الرقعة.
فقبل يدي، ورجلي، وبكى، وقال: الحمد لله الذي أراني هذا الفضل منك، وحقق فراستي فيك، وقام.
وجاءني بعد يومين، في ثياب جدد، فأمرت بوابي ألا يحجبه علي، وخلطته بنفسي، وأجريت عليه من أبواب البر بالوقوف، بالضعف والمسكنة، دينارين في الشهر، وقلدته الإشراف على المنفقين في ديوان الوقوف، وأجريت عليه لهذا ثلاثة دنانير أخرى في الشهر، ووليته جباية عقار الأيتام، ووليته عليهم، وأذنت له في أخذ أعشار الارتفاع، وجعلته مشرفاً على أوصياء في وصايا في أيديهم، إلى أن يخرجوها في وجوهها، وجعلت له على ذلك أجراً،.
وركبت إلى عامل البلد، فسألته له، فأجرى عليه في كل سنة، من مال أثمان فرائض الصدقات، ستين ديناراً، وكان رسم أهل ديوان الصدقات بكور الأهواز، في ذلك الحين، أن يسبب لهم بنصف أرزاقهم، ويرتفق العمال من ذلك النصف بقطعة منه، ويصل إليهم الباقي تحققاً، أو يسبب أخذه مستأنفاً، لضيق المال، وقلته عن أصول أرزاق المرتزقة، فكنت أتقدم إلى من يقوم له في المطالبة، أن يلازم العمال، حتى يصل إليه كاملاً.
وكنت أعطيه، في كل شهر أو شهرين، شيئاً من مالي، وشيئاً من كسوتي، وثياباً صحيحة من بزازي، فوالله الذي لا إله إلا هو، ما صرفت عن عملي - وكانت صحبته لي نحو ثلاثين شهراً - إلا وقد وصل إليه من هذا الوجه، ومن غيره، أكثر من خمسمائة دينار، حتى أنه تزوج فيها بوساطتي، وبجاه خدمتي، إلى امرأة موسرة، من أهل الأهواز، وصار الرجل من المتوسطين بالأهواز، وصار ينسب إلى الصولي، وشهر نفسه بأبي علي الصولي.
ثم صرفت عن تلك الولاية في سنة تسع وخمسين وثلثمائة، لما ولي الوزارة محمد بن العباس، فقصدني، وصرفني، وقبض ضيعتي، وأشخصني إلى بغداد، بعد حقوق كانت لي عليه، وآمال لي فيه.
فتجرد أبو علي هذا، المعروف بالصولي، لسبي في المجالس، وشتمي في المحافل، والطعن علي بالعظائم، والسعاية علي في مكارهي.
فكشف الله تعالى تلك المحن عني، وأجراني على تفضله، بغير كثير سعي مني، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وعدت بعد ثلاث سنين وشهور، إلى الأهواز، والياً بها، وللأعمال التي كنت عليها معها، وأضيف إلي واسط وأعمالها، وقد استخلفت عليها، ورجعت إلى داري، فجاءني هذا الرجل معتذراً.
فقلت له: أتحب أن أقبل عذرك ؟ قال: نعم.
قلت: أخبرني ما السبب الذي أحوجك إلى ما عملت بي من القبيح، بعدما عملته معك من الجميل ؟ فجمجم في القول.
فقلت له: ما إلى الرضا سبيل.

فقال: أنا أصدقك، دخلت عليك يوماً، وعلى رأسك قلنسوة باذان جديدة من خرقة حسنة، فاستملحتها، فسألتك هبتها لي، فرددتني، فلما كان بعد أيام، رأيتها على رأس ابن نظيف المتكلم، المعروف بشهدانه.
فسألته: من أين لك هذه ؟ فقال: وهبها لي القاضي.
فوقر ذلك في نفسي منك، وتزايد، فلما حدثت تلك النكبة، كان مني بعض ما بلغك، وأكثره كذب، وأنت ولي العفو، وجعل يقبل يدي ورجلي، ويبكي.
فعجبت من لؤم طبعه، ومن كثرة شره، وقبح كفره للنعم، واختلاف أحكام الأزمنة وأهلها، وجعلت أكثر من قول: الحمد لله على تفضله، ولم أكافه بقبيح البتة.
واقتصرت به على الحال التي كنت وليته إياه، لأن القاضي الذي ولي القضاء بعدي، أقره على ما كنت وليته، فكان قد استمر له أخذ الدنانير من الصدقات، والجاري من الوقوف، وأبواب البر، وقبضت يدي عن نفعه بما فوق ذلك.
فر هارباً من الضائقة فوافاه الفرج في النهروان
وذكر أبو الحسين القاضي في كتابه، قال: حدثني أبو علي أحمد بن جعفر بن عبد ربه البرقي، قال: حدثني أبو سعيد الحسين بن سعيد القطربلي.
قال مؤلف هذا الكتاب: وحدثني صاحب لي من ولد إبراهيم بن إسحاق، أخي موسى بن إسحاق القاضي الأنصاري الخطمي، وهو علي بن محمد بن إسحاق، أخي موسى بن إسحاق، قال: سمعت أبا الحسين بن أبي عمر القاضي، يحدث أبا القاسم علي بن يعقوب كاتب بجكم، وكاتب الترجمان بهذا الحديث، ويقول: إنني ألفت كتاباً وسميته كتاب الفرج بعد الشدة، وذكرت فيه هذا الخبر، وعدة أخبار تجري مجراه، قال: وأخذ يقرظ كتابه، ويشوق علي بن يعقوب إليه، قال: حدثني أبو سعيد الحسين القطربلي، قال: كان في جيراني رجل من أهل البيوتات، وكانت له نعمة، فزالت عنه، وساءت حاله جداً، وكانت له زوجة وأربع بنات، فحبلت زوجته، وأخذها المخاض في الليل.
قال: ولم تكن لي حيلة في الدنيا، فخرجت ليلاً، هارباً على وجهي، أمشي، حتى أتيت جسر النهروان، وأملت أن ألقى عاملها، وكان يعرفني، وأسأله تصريفي في شيء، وتعجيل رزق شهر، لأنفذه إلى زوجتي.
فوصلت إلى الموضع، وقد ارتفع النهار، فقعدت أستريح بالقرب من بقال.
فإذا فيج - وهو الساعي - قد جاء، فوضع مخلاته وعصاه، ثم قال للبقال: أعطني كذا وكذا، من خبز، وتمر، وإدام، فأعطاه، فأكل، ووزن له الثمن.
ثم فتح مخلاته، فميز ما فيها من الكتب، فرأيت فيها كتاباً إلي، وعليه اسم منزلي، واسمي، وكنيتي، ولا أعرف كاتبه.
فقلت للفيج: هذا الكتاب إلي.
فقال: أتدري ما تقول ؟.
فقلت له: قد قلت الصحيح، فإن مضيت إلى بغداد، لم تجد صاحب الكتاب.
فقال: أهاهنا إنسان يعرفك ؟ قلت: نعم، العامل.
قال: قم بنا إليه.
فجئت، فلما دخلت على العامل، قال: ما أقدمك علينا يا فلان ؟ فقلت له: قبل كل شيء - أعزك الله - من أنا ؟ وأين منزلي ببغداد ؟ فقال: أنت فلان بن فلان، ومنزلك بمدينة السلام، في مدينة المنصور منها، في سكة كذا وكذا.
فقلت للفيج: عرفت صدقي ؟ قال: نعم.
قال: فحدثت العامل بحديثي، وأخذت الكتاب من الفيج، فإذا هو من بعض المستورين بالدينور، يذكر أن ابن عم كان لي قد توفي، بعد أن أوصى إليه أني وارثه، وسماني له، ووصف منزلي ببغداد.
قال: وقد كتب الرجل يذكر أن ابن عمي أوصى بالثلث من ماله في وجوه من أبواب القرب، وأن يسلم باقي ثلثيه إلي، وأنه باع من أثاثه ومنقوله، ما خاف فساده من تركته، وصرف الثلث منه في بعض ما كان أوصى به، وأنفذ إلي سفتجة بالثلثين من ذلك، مبلغها سبعمائة ديناراً وكذا وكذا ديناراً، تحل بعد أربعين يوماً، على تاجر في دار القطن بالكرخ.
وقال: الوجه أن تبادر إلى الدينور، وتبيع العقار والضياع، أو أبيع الثلث منها ليصرف في وجوهه، وتتمسك بالثلثين إذا شئت.
قال: فورد علي من السرور ما لا عهد لي بمثله، وحمدت الله عز وجل.
فقلت للفيج: قد وجب حقك، وسأحسن إليك، وشرحت له قصتي، وأنه لا حبة معي فضة فما فوقها.
فجاء إلى البقال، فقال: زن لأستاذي بكذا وكذا خبزاً، وبكذا وكذا إداماً، وما يريد غيرهما.
فتغديت، ووزن الفيج ثمن ذلك من عنده، واستأجر حمارين، أركبني أحدهما، وركب هو الآخر، ووزن الأجرة من عنده.

وجئنا في بقية يومنا إلى بغداد، وقصدنا دار القطن، وفي النهار بقية صالحة، فأوصلت السفتجة إلى التاجر، فنظرها، وقال: صحيحة، إذا حل الأجل، فاحضر للقبض.
فقلت له: خذ حديثي، وافعل بعد ذلك ما يوفقك الله تعالى له، وقصصت عليه قصتي.
فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو، إنك صادق ؟، فحلفت.
فأخرج كيساً كان بقربه، فوزن لي منه مال السفتجة.
وصرت من وقتي إلى السوق، فاشتريت سويقاً، وسكراً، وعسلاً، وشيرجاً، وخبزاً عظيماً، وخروفاً مشوياً، وحلوى، مما يصلح للنساء في النفاس، ومهداً، وفرشاً حسناً، وعطراً صالحاً، وشيئاً من ثياب.
وصرت إلى منزلي، وقد قرب العشاء الآخرة، فوجدت كل من فيه من النساء يلعنني، ويدعو علي.
فقدمت الحمالين، ودخلت وراءهم، فانقلبت الدار بالدعاء لي، وصار الغم سروراً، ووجدت زوجتي قد ولدت غلاماً.
فعرفت الصبيان خبر السفتجة، والميراث، والفيج، وأعطيت الزوجة، والقابلة، من الدنانير شيئاً.
وأقمت الفيج عندي أياماً، حتى أصلحت من أمري، وأمر عيالي، ما وجب صلاحه، وخلفت لهم نفقة، وأخذت من الدنانير نفقة، وأعطيت الفيج منها، فأجزلت له، واكتريت حمارين، لي وله، واستصحبته إلى الدينور.
فوجدت فيها ما تحصل لي مما خلفه ابن عمي نحو عشرة آلاف دينار، فبعت ذلك كله، وأخذت بحصتي سفاتج إلى بغداد.
وعدت وقد فرج الله عني، وقد صلح حالي، وأنا أعيش في بقية تلك الحال إلى الآن.
خرج مملقاً وعاد قائداً
وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: أملق بعض الكتاب، وتعطل، وافتقر، حتى لم يبق له شيء، وكاد يسأل، وخرج على وجهه في الحالة التي كان عليها.
ثم إنه ورد بعد قليل من سفرته، فدخلت عليه، وقلت: ما خبرك يا فلان ؟ فقال: متمثلاً بهذين البيتين:
فإبنا سالمين كما ترانا ... وما خابت غنيمة سالمينا
وما تدرين أيّ الأمر خير ... أما تهوين أم ما تكرهينا
فطيبت نفسه، وجعلت أسليه.
فأقام أياماً، وتأتت له نفقة، فخرج إلى خراسان، فما سمعنا له خبراً سنين، فإذا هو قد جاءنا بزي قائد عظيم، لكثرة الدواب، والبغال، والجمال، والغلمان، والمال العظيم، والقماش.
فدخلت إليه، وهنأته، فقال: تضايقي تنفرجي، وما تراني بعد هذا أطلب تصرفاً.
فباع تلك الأشياء، وترك منها ما يصلح لذي المروءة، واشترى من المال ضيعة بعشرين ألف دينار، ولزم منزله وضيعته.
عودة المرء سالماً غنيمة حسنة
قال مؤلف هذا الكتاب: أرجف لبعض رؤساء دولة شاهدناها، بالوزارة، واحتد أمره، وبرد، وأرجف لعدو له بالوزارة.
فلقيت بعض أصدقاء الأول، فسألته عن حقيقة الحال، فقال لي: أمس لقيته، فسألته عن سبب وقوف أمره، واحتداد أمر عدوه، فرد علي جواب آيس من الأمر.
ثم قال لي: وقد جعلت في نفسي، أن انصراف هذا الأمر خير لي، فإن فيما ألي من أمور المملكة كفاية، ثم أنشدني كالمستريح إلى ذلك، يقول:
إذا نحن إبنا سالمين بأنفس ... كرامٍ رجت أمراً فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنيمة إنّها ... تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها
فلما كان بعد بضعة عشر يوماً، أمر، وولي الوزارة، وبطل أمر عدوه.
وكان هذا الخبر، أجدر بأن يجعل في باب من بشر بفرج من نطق أو فأل، ولكنني جئت به هاهنا، لاشتباك معنى الشعر في الخبرين المتجاورين.
قضى الله للهبيري رزقاً على يد الوزير ابن الزيات فاستوفاه على رغم أنفه
وذكر أبو الحسين القاضي، بإسناد، قال: حدثني أبو الحسن علي بن أحمد الكاتب، عن أحمد بن إسرائيل، قال: كنت كاتباً لمحمد بن عبد الملك الزيات، فقدم عليه رجل من ولد عمر بن هبيرة، يقال له: إبراهيم بن عبد الله الهبيري، فلازمه يطلب تصرفاً.
وكان ابن الزيات قليل الخير، لا يرعى ذماماً، ولا يوجب حرمة، ولا يحب أن يصطنع أحداً، فأضجره الهبيري من طول تردده عليه.
فدعاني ابن الزيات يوماً، وهو راكب، وقال: قد تبرمت بملازمة هذا الرجل، فقل له: إني لست أوليه شيئاً، ولا له عندي تصرف، ومره بالانصراف عني.
قال: فقلت: أنا والله أستحي أن ألقى مؤملاً لك، عنك، بمثل هذا.
قال: لا بد أن تفعل.
قلت: نعم.

فلما صرت إلى منزلي، وجهت إلى الهبيري، فجاءني، فقلت له: ما كنت تؤمل أن تنال بصحبة أبي جعفر محمد بن عبد الملك الزيات، خذه من مالي، ولا تقربه، وهذه ثلاثة آلاف درهم.
فقال متعجباً: من مالك ؟.
قلت: نعم.
قال: أنا أؤمل أن أكسب معه أكثر من ذلك.
فقلت: إنه قد حملني إليك رسالة، استحيت من أدائها، فعدلت عنها إلى هذا.
قال: فهات ما حملك.
قال: فأعدت عليه ما قال ابن الزيات.
فقال: قد سمعت منك، فهل أنت مؤد عني ما أقول ؟ قلت: نعم.
قال: قل له، قد كنت آتيك في صبيحة كل يوم مرة، ووالله لآتينك منذ الآن في كل غدوة وعشية، فإن قضى الله عز وجل على يدك رزقاً، أخذته على رغمك.
فرجعت إلى ابن الزيات، فأعلمته قوله.
فقال: دعه، فوالله، لا يرى مني خيراً أبداً.
قال: ولازمه الرجل، غدوة وعشية، فكان إذا رآه، التفت إلي، وقال: قد جاء البغيض، فمكث كذلك مدة.
وركب ابن الزيات يوماً إلى الواثق، وهو بالهاروني، بسر من رأى، وكنت معه.
فدخل إلى الخليفة، وجلست في بعض الدور، أنتظر خروجه، فخرج، وهو يكثر التعجب.
فسألته، فقال: أنت تعرف مذهبي، قال: وكان يرى رأي المعتزلة، ويقول: إن الأرزاق، تأتي بالاكتساب.
فقلت له: وماذا تهيأ عليك ؟ فقال: دخلت إلى الخليفة، فقال: على الباب أحد نصطنعه ؟ فلم يخطر ببالي غير الهبيري، فأمسكت.
فقال: ويلك أكلمك فلا تجيبني، وأعجلني عن الفكر.
فقلت: على باب أمير المؤمنين، رجل من أعداء دولته، وأعداء سلفه، ومن صنائع بني أمية، من ولد عمر بن هبيرة.
قال: فنصطنعه فيشكرنا، كما اصطنع أباه بنو أمية فشكرهم.
قلت: إنه معدم.
قال: نغنيه، فراودته.
فقال: كم تدفعني عنه ؟ أعطه الساعة ثلاثين ألف درهم.
ثم قال: من أهل الدراريع هو، أم من أهل الأقبية ؟.
قلت: صاحب قباء.
قال: قلدوه الساعة عملاً يصلح له، وأثبت له من ولده، وغلمانه، وأهله، مائة رجل.
فلما فرغ من كلامه، قال: قل للهبيري ما عرفتك، وادفع إليه ما أمر له الخليفة به، وسله ألا يشكرني، فقد جهدت في دفع الواثق عنه، فما اندفع، قال أحمد بن إسرائيل: فلما خرجت إلى الشاعر، إذا بالهبيري ينتظر خروج ابن الزيات، فعرفته ما جرى، فقال: لا بد من شكره على كل حال، وجاء ابن الزيات فترجل له الهبيري، فشكره.
فقال له: ألم أقل لأحمد يقول لك: لا تشكرني.
فقال: لا بد من ذلك، لأن الله تعالى قد أجرى رزقي على يديك.
قال: أحمد بن إسرائيل: فوالله، ما مضى اليوم، حتى قبض المال، وولي بعض كور فارس.
وذكر هذا الخبر محمد بن عبدوس الجهشياري، في كتابه كتاب الوزراء عمن حدثه به، عن أحمد بن إسرائيل، فذكر أن الرجل، يقال له: أحمد بن عبد الله الهبيري، وذكر قريباً من هذا، وذكر أن الذي خوطب في أمره من الخلفاء، كان المتوكل، وأن الذي أمر له به، كان خمسة آلاف درهم، وأن يضم إليه ثلثمائة رجل، وأن حاله بعد ذلك علت عند المتوكل، ولم يقل أنه قلده بعض كور فارس.
وحدثني أبي رحمه الله تعالى، هذا الحديث، وذكر أن تردد الهبيري - ولم يسمه - إلى ابن أبي خالد الأحول، وأن الذي حمل الرسالة إلى الهبيري، قصده إلى منزله، وحمل معه ثلاثة آلاف درهم، وقال: إن الوزير يقول لك، ليس لك عندي تصرف، فخذ هذه النفقة، وانصرف عني إلى حيث شئت.
فغضب الهبيري، وقال: جعلني شحاذاً، والله لا أخذتها.
قال الرسول: فغاظني ذلك، فقلت له: والله، ما المال إلا من عندي، لأني استحيت أن أعيد عليك رسالته، فآثرت أن أغرم مالاً في الوسط، أجمل به صاحبي، وأؤجر فيك، وأرفع نفسي عن قبيح التوسط الذي ارتكبته.
فقال: أما أنت، فأحسن الله جزاءك، وأما مالك، فأنا لا أقبله، ولو مصصت الثماد، ولكن تؤدى إلي الرسالة بعينها، فأديتها.
فقال: تتفضل، وتحمل عني حرفين.
فقلت: هات.
قال: تقول له: والله، ما لزومي لك في نفسك، ولو تعطلت، ما مررت بك، ولكن الله تعالى، يقول: وأتوا البيوت من أبوابها، وأنت باب رزق مثلي، لأني لا أحسن إلا هذه الصناعة، ولا بد من أن آتيك طالباً رزقي من بابه، وليس يمنعني ذلك استقبالك إياي بالرد، فإن قسم الله تعالى لي على يديك شيئاً، أخذته منك، وإلا، فلا أقل من أن أؤذيك برؤيتي، كما تؤذيني بتعطيلي.
وقال فيه عن ابن أبي خالد: فصرت في الوقت إلى المأمون، فقال: هاتم شخصاً أوله مصراً.

قال: فأراد أن يذكر له رجلاً يعتني به، يعرف بالزبيري، لتولي ذلك العمل، فلغيظه من الهبيري، وقرب عهده به وبحديثه، غلط، فقال: الهبيري.
فقال الخليفة: أو يعيش ؟ وعرفه، وذكر له خدمة قديمة.
وأراد ابن أبي خالد أن يزهده فيه، قال: فطعنت عليه بكل شيء، وهو يقول: لا أريد غيره، أنا أعرفه بالجلادة.
إلى أن قلت له: أنا غلطت، وإنما أردت أن أقول فلان الزبيري.
قال: وإن غلطت، فالهبيري، أقوم بهذا من الزبيري، وأنا أعرفهما، فلما رآني قد أقمت على الدفع عنه، قال: له معك قصة، فاصدقني عنها، فصدقته.
فقال: قد والله، أجرى رزقه على يديك، وأنت راغم، أخرج فوله مصر.
فقلت: إنه ضعيف، ولا حالة له، ولا مروءة، فكيف يخرج في مثل هذه الحال إلى عمله ؟ قال: وهذا من رزقه الذي يجرى على يديك وأنت راغم، أطلق له مائة ألف درهم فأخرجه.
فخرجت، وامتثلت أمره راغماً.

تضايقي تنفرجي

وذكر القاضي أبو الحسين رحمه الله تعالى، عن رجل، قال: حدثتني أم أبي، قالت: كان زوجي قد نهض إلى مصر، وتصرف بها، وعمل، ونكب، وتعطل، فأقام هناك.
وأضقنا إضاقة شديدة، وعرضنا بيع ضيعة لنا، فلم نجد لها ثمناً، وتأخر كتابه عنا، وانقطع خبره، حتى توهمنا أن حادثاً قد حدث عليه.
وكان أولادي أصاغر، فجعلت أحتال وأنفق عليهم، حتى لم يبق في المنزل شيء.
وحضر وقت عمارة الضيعة، واحتجنا إلى بذار ونفقة، فتعذر ذلك علينا، حتى كادت تتعطل، ويفوت وقت الزراعة.
فأصبحت يوماً، وبي من الغم لاجتماع هذه الأحوال أمر عظيم، فوجهت إلى بعض من كنت أثق به، وأتوهم أنني لو سألته إسعافنا بالكثير من ماله لا يخالفنا، لأقترض منه شيئاً لذلك، فرد رسولي، واعتذر.
وعرفني الرسول الذي بعثت به إليه، أنه قال: إذا بعثت إليهم ما طلبوا، والضيعة لم تعمر، ولم تحصل لهم غلة، وزوجها لم يعرف له خبر، فمن أين يردون علي ؟ فلما رجع الرسول بذلك، كدت أموت غماً، وامتنعت من الطعام يومي وليلتي.
وأصبحت، فما انتصف النهار، حتى ورد كتاب زوجي بسلامته، وذكر السبب في تأخير كتابه، وأرسل إلي في كتابه سفتجة بمائة دينار، وتخوت ثياب قد أنفذها مع تاجر من أهل مصر، قيمتها خمسون ديناراً، فقبضت ذلك، وعمرنا الضيعة، ورزعت تلك السنة، وصلحت حالنا.
من مكارم سعيد بن العاص أمير الكوفةوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه: حكي أن سعيد بن العاص، قدم الكوفة عاملاً لعثمان بن عفان، رضي الله عنه، وكان ممن يتعشى عنده، رجل من الفقراء، قد ساءت حاله.
فقالت امرأته: ويحك، أنه قد بلغنا عن أميرنا كرم، فاذكر له حالك، وحاجتك، لعله أن ينيلنا شيئاً، فلم يبق للصبر فينا بقية.
فقال: ويحك لا تخلقي وجهي.
قالت: فاذكر له ما نحن فيه على كل حال.
فلما كان بالعشي، أكل عنده، فلما انصرف الناس، ثبت الرجل.
فقال سعيد: حاجتك ؟، فسكت.
فقال سعيد لغلمانه: تنحوا، ثم قال: إنما نحن أنا وأنت، فاذكر حاجتك، فتعقد، وتعصر، فنفخ سعيد المصباح فأطفأه.
ثم قال له: يرحمك الله، لست ترى وجهي، فاذكر حاجتك.
فقال: أصلح الله الأمير، أصابتنا حاجة، فأحببت أن أذكرها لك.
فقال: إذا أصبحت فالق فلاناً وكيلي.
فلما أصبح الرجل، لقي الوكيل، فقال: إن الأمير قد أمر لك بشيء، فهات من يحمله معك، قال: ما عندي من يحمل، فانصرف إلى امرأته، فجعل يلومها، ويقول: قال لي وكيله هات من يحمل معك، وما أظنه أمر لي إلا بقوصرة تمر، أو قفيز بر، وذهب ماء وجهي، ولو كانت دراهم أو دنانير لأعطانيها في يدي.
فلما كان بعد أيام، قالت له امرأته: يا هذا، قد بلغ بنا الأمر إلى ما ترى، ومهما أعطاك الأمير، يقوتنا أياماً، فالق وكيله، فلقيه.
فقال: أين تكون ؟ إني قد أخبرت الأمير أنه ليس لك من يحمل ما أمر به لك معك، فأمرني أن أوجه من يحمل معك ما أمر به لك.
ثم أخرج إليه ثلاثة من السودان، على راس كل واحد منهم بدرة دراهم، ثم قال: امضوا معه.
فلما بلغ الرجل باب منزله، فتح بدرة، فأخرج منها دراهم، فدفعها إلى السودان، وقال: امضوا.
فقالوا: أين نمضي، نحن عبيدك، ما حمل مملوك للأمير هدية قط، فرجع إلى ملكه.
قال: فصلحت حاله، واستظهر على دنياه.
ألجأته الحاجة إلى بيع مقنعة أمه ثم ملك مصر

وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، بإسناد ذكره، قال: حدثني عمي أبو الطيب محمد بن يوسف بن يعقوب، قال: حدثني بعض إخواني، قال: كنت أحضر طعام عبيد الله بن السري، بمصر، فكان إذا وضع الخوان، وضع رغيفاً، وعزل بيده من كل شيء، فإذا فرغ تصدق به.
فقدمت إليه ذات يوم عناق سمينة، في أول الطعام، فضرب بإصبعه في جنبها، فشخبت حتى ملأت الخوان دسماً فأمسك يده، وقال: الحمد لله، ذكرت بهذا شيئاً أحدثكم به.
كنت ببغداد، نازلاً بسوق الهيثم، فأصابتني حاجة شديدة، وبقيت بلا حبة فضة فما فوقها، ولا في منزلي ما أبيعه.
فإني لكذلك، وما عندي طعام، ولا ما أشتري به قوت يومي، إلا أن عندي نبيذ قد أدرك، وأنا جالس على باب داري ضيق الصدر، أفكر فيما أعمله.
إذ أجتاز بي صديق لي، فجلس إلي، فتحدثنا، فعرضت عليه المقام عندي، عرض معذر، كما جرى على لساني، فأجابني، وقعد.
فانقطع بي، وتمنيت أني خرست، فلم أجد بداً من إدخاله منزلي، فأدخلته.
وقمت إلى أمي فعرفتها الخبر، فأعطتني مقنعتها، وقالت: بعها، وقم بأمرك اليوم، فبعتها بثلاثة دراهم، واشتريت بها خبزاً وسمكاً وبقلاً، وريحاناً، وجئت به.
فبينا نحن كذلك، إذ مرت بي سنور لبعض الجيران، فمددت يدي إليها، فإذا هي ذلول، فقبضت عليها، وذبحتها، وسلختها، ودفعتها إلى أمي، فقلت: اشويها، ففعلت، وقدمتها إلى صديقي، مع ما اشتريته، فأكلنا.
فذكرت لما وقعت يدي على هذه العناق، حالي تلك، وحالنا اليوم من السعة والنعمة، ونفاذ الأمر، فالحمد لله على ما أنعم.
ودعا بمال عظيم، وأمر أن يتصدق بنصفه بمصر، وبعث نصفه إلى مكة والمدينة، يتصدق به هناك.
وأمر بالخوان وما عليه أن يطعم للمساكين، ودعا بخوان آخر.
أبى أن يعطيه ديناراً ثم أعطاه ألفي دينار
حدثني أبو بكر محمد بن عبيد الله بن محمد الرازي، المعروف بابن حمدون، عن الحسن بن محمد الأنباري الكاتب، قال: كان لي أيام مقامي بأرجان جار تاجر، يعرف بجعفر بن محمد، وكنت آنس به، فحدثني، قال: كنت أحد دائماً، وأنزل على رجل علوي، حسيني فقير، مستور، فألطفه، وأتفقده.
فتأخرت عن الحج سنة، ثم عاودت، فوجدته مثرياً، فسررت، وسألته عن سبب ذلك.
فقال: كان قد اجتمع معي دريهمات على وجه الدهر، ففكرت، عام أول، في أن أتزوج، فإني كنت عزباً، كما قد علمت.
ثم علمت أن فرض الحج قد تعين علي، فرأيت أن أقدم أداء الفرض، وأتوكل على الله عز وجل، في أن يسهل لي - بعد ذلك - ما أتزوج به.
فلما حججت، طفت طواف الدخول، وأودعت رحلي، وما كان معي، في بيت من خان، وأقفلت بابه، وخرجت إلى منى.
فلما عدت، وجدت البيت مفتوحاً، فارغاً، فتحيرت، ونزلت بي شدة ما مر بي قط مثلها.
فقلت: هذا أعظم للثواب، فما وجه الغم، فاستسلمت لأمر الله عز وجل.
فجلست في البيت، لا حيلة لي، ولا تسمح نفسي بالمسألة، فاتصل مقامي ثلاثة أيام، ما طعمت فيها شيئاً.
فلما كان في اليوم الرابع، بدأ في الضعف سحراً، وخفت على نفسي، وذكرت قول جدي رسول الله صلى الله عليه وآله: ماء زمزم لما شرب له، فخرجت أريدها حتى شربت منها، ورجعت أريد باب إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام لأستريح فيه.
فبينا أنا أسير، إذ عثرت في الطريق بشيء أوجع إصبعي، فأكببت عليه لأمسكه، فوقعت يدي على هميان أدم أحمر كبير، فأخذته.
فلما حصل في يدي، ندمت، وعلمت أن اللقطة - ما لم تعرف - حرام.
وقلت: إن تركته الآن، كنت أنا المضيع له، وقد لزمني أن أعرفه، ولعل صاحبه، إذا رجع إليه، أن يهب لي شيئاً أقتاته حلالاً.
فجئت إلى بيتي، وفتحت الهميان، فإذا فيه دنانير صفر، تزيد على ألفي دينار.
فسددته، ورجعت إلى المسجد، فجلست عند الحجر، وناديت: من ضاع له شيء، فيأتيني بعلامته، ويأخذه.
فانقضى يومي، وأنا أنادي، وما جاءني أحد، وأنا على حالي من الجوع.
وبت في بيتي، ليلتي كذلك، وعدت إلى الصفا والمروة، فعرفته عندهما يومي، حتى كاد ينقضي، فلم يأتني أحد.
فضعفت ضعفاً شديداً، وخشيت على نفسي، فرجعت متحاملاً، ثقيلاً، حتى جلست على باب إبراهيم الخليل، على نبينا وعليه السلام، وقلت قبل انصرافي: إني قد ضعفت عن الصياح وأنا ماض أجلس على باب إبراهيم، فمن رأيتموه يطلب شيئاً ضاع منه، فأرشدوه إلي.

فلما قرب المغرب، وأنا في الموضع، إذا أنا بخراساني ينشد ضالة، فصحت به، وقلت له: صف لي ما ضاع منك، فأعطاني صفة الهميان بعينه، وذكر وزن الدنانير وعددها.
فقلت: إن أرشدتك إلى من يرده عليك، تعطيني منه مائة دينار ؟.
قال: لا.
قلت: فخمسين ديناراً ؟ قال: لا.
قلت: فعشرة دنانير ؟ قال: لا.
فلم أزل أنزل معه، حتى بلغت إلى دينار واحد.
فقال: لا، إن رأى من هو عنده، أن يرده إيمانا واحتساباً، وإلا فهو أبصر، وولى لينصرف.
فورد علي أعظم وارد، وهممت بالسكوت، ثم خفت الله سبحانه وتعالى، وأشفقت أن يفوتني الخراساني.
فصحت به، إرجع، إرجع، وأخرجت الهميان، فدفعته إليه، فأخذه، ومضى، وجلست، ليس لي قوة على المشي إلى بيتي.
فما غاب عني إلا قليلاً، حتى عاد، فقال لي: من أي البلاد أنت، ومن أي الناس ؟.
قال: فاغتظت منه غيظاً شديداً، وقلت: ما عليك، هل بقي لك عندي شيء ؟ قال: لا، ولكني أسألك بالله العظيم، من أي الناس والبلاد أنت ؟ فعرفني، ولا تضجر.
فقلت: رجل من العرب، من أهل الكوفة.
فقال: من أيهم أنت، واختصر ؟ فقلت: رجل من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم.
فقال: ما حالك ومالك ؟ قلت: لا أملك في هذه الدنيا كلها إلا ما تراه، وقصصت عليه حال محنتي وما كنت طمعت فيه أن يعطينيه من الهميان، وما قد انتهيت إليه من الضعف من الجوع.
فقال: أريد من يعرفني صحة نسبك وحالك، حتى أقوم بجميع أمرك كله.
فقلت: ما أقدر على المشي للضعف، ولكن إئت الطواف، وصح بالكوفيين، وقل: رجل من بلدكم، علوي، بباب إبراهيم، يريد أن يجيئه منكم من ينشط لحال هو فيها، فمن جاء معك فهاته.
فغاب غير بعيد، ثم جاء ومعه من الكوفيين جماعة اتفق أنهم كلهم كانوا يعرفون باطن حالي.
فقالوا: ما تريد أيها الشريف ؟ فقلت: هذا رجل يريد أن يعرف حالي، ونسبي، لشيء بيني وبينه، فعرفوه ما تعرفون من ذلك.
قال: فعرفوه صحة نسبي، ووصفوا له طريقتي، وعدمي.
فمضى، وجاء فأخرج الهميان بعينه، كما سلمته إليه، فقال: خذ هذا بأسره، بارك الله لك فيه.
فقلت: يا هذا، ما كفاك ما عاملتني به، حتى تهزأ بي، وأنا في حال الموت.
قال: معاذ الله، هو لك، والله.
فقلت: فلم بخلت علي بدينار منه، ثم وهبت لي الجميع ؟ فقال: ليس الهميان لي، وما كان يجوز لي أن أعطيك منه شيئاً، قل أو كثر، وإنما أعطانيه رجل من بلدي، وسألني أن أطلب في العراق، أو في الحجاز، رجلاً علوياً، حسينياً، فقيراً، مستوراً، فإذا علمت هذا من حاله، أغنيته، بأن أسلم إليه هذا المال كله، ليصير أصلاً لنعمة تنعقد له، فلم تجتمع لي هذه الصفات قبلك في أحد، فلما اجتمعت فيك، بما شاهدته من أمانتك، وفقرك، وعفتك، وصبرك، وصح عندي نسبك، أعطيتكه.
فقلت له: يرحمك الله، إن كنت تحب استكمال الأجر، فخذ منه ديناراً، وابتع لي به دراهم، واشتر بها ما آكله، وصربه إلي الساعة ها هنا.
فقال: لي إليك حاجة.
قلت: قل.
قال: أنا رجل موسر، والذي أعطيتك ليس لي فيه شيء، كما عرفتك، وأنا أسألك أن تقوم معي إلى رحلي، فتكون في ضيافتي إلى الكوفة، وتتوفر عليك دنانيرك.
فقلت: ما في حركة، فأحتمل في حملي، كيف شئت.
فغاب عني ساعة، وجاء بمركوب، وأركبنيه إلى رحله، وأطعمني في الحال ما كان عنده، وقطع لي من الغد ثياباً وكان يخدمني بنفسه، وعادلني في عماريته إلى الكوفة، فلما بلغتها، أعطاني من عنده دنانير أخر، وقال لي: تزود بها بضاعة، وفارقته، وأنا أدعو له، وأشكره، ولم أمس الهميان.
وأخذت أنفق من الدنانير التي أعطانيها الرجل، باقتصاد، إلى أن اتفقت لي ضيعة رخيصة، فابتعتها بالهميان، فأغلت، وأثمرت، وأنا، من الله عز وجل، في نعمة جزيلة، وخير كثير، والحمد لله على ذلك.

سافر إلى الموصل ثم إلى نصيبين في طلب التصرف حتى إذا أيس جاءه الفرج

وذكر القاضي أبو الحسين، في كتابه، قال: قال بعضهم: لحقتني نكبة في بعض الأوقات، وتطاولت علي الأيام في العطلة، وركبني دين فادح، وبعت آخر ما كان في ملكي.
فصار إلي صديق لي، حاله مثل حالي في العطلة، فقال: هل لك أن نخرج إلى الموصل، فإن عاملها فلان، ولي به حرمة، فنتطلب منه تصرفاً.
فقلت: أفعل.

فاحتلت نفقة، وخرجنا، حتى دخلنا الموصل، فوجدنا العامل يريد الرحيل إلى ديار ربيعة.
قال: فلقيه الرجل، ولم يتهيأ لي لقاءه، وخرجنا إلى ناحية، فلقيته أنا هناك، فوعد جميلاً، وسرت إلى نصيبين، وقد نفدت نفقتي.
وكشف لنا العامل هناك، أنه قد قلد مصر، مضافاً إلى أعماله، وأنه يريد الخروج إليها.
فقلت لصديقي: إنه لم تبق معي نفقة، ولا في فضل للخروج إلى مصر، فأعطاني من نفقته.
وقد كان صديقي تقلد من قبل العامل عملاً جليلاً، وخرج إليه، وأقمت أنا بنصيبين، وأقام العامل بها، ليصلح أمره ويخرج إلى مصر، وعملت أنا على أن أتحمل بما أعطانيه صديقي، وأرجع إلى بغداد.
فغلب علي ضيق الصدر، والهم، واستدعيت المزين ليصلح شعري، فهو بين يدي، إذ دخل علي غلام العامل، فقال: صاحبي يطلبك، وقد قلبنا عليك الدنيا منذ أمس، فلم نعرف منزلك إلا الساعة.
ففرغت من شغلي مع المزين، وتوضأت، وركبت، وكان يوم الجمعة، فلما صرت في دار العامل، لقيني غلامه، وكان حاجبه، فقال: نحن في طلبك منذ أمس، فلم توجد، وقد قام الآن عن مجلسه، وأخذ في التشاغل بأمر الصلاة، ولكن بكر في غد.
قال: فضعف في نفسي، وقلت: إنه ما أرادني لخير، وعملت على أن أنحدر تلك العشية إلى بغداد.
فلم يدعني غلامي، وقال: أقل ما في الأمر، أن يكون الرجل قد تذمم من أتباعك إياه إلى هاهنا، فيطلق لك نفقة، ونحن مضيقون.
فعلمت أن الصواب في لقائه، فأقمت، وبكرت من غد، فدخلت غليه، فعاتبني على انقطاعي عنه.
وقال: أنا مفكر في أمرك، وقد غمني طول تعطلك، مع قصدك إياي من بغداد، ومسيرك معي إلى ها هنا، ثم التفت إلى كاتب بين يديه، فقال: أكتب له كتاب التقليد، للإشراف على الضياع بديار مضر، وأحل النفقة على الثغور الجزرية، واستقبل برزقه، وهو مائة وخمسون ديناراً، في كل شهر، الوقت الذي جاءنا فيه إلى الموصل.
قال: فشكرته، واضطربت من قلة الرزق.
فقال: إقبل هذا، ولا تخالفني، إلى أن يسهل الله - جلت عظمته - غيره، فقمت مفكراً، من أين أصلح أمري، وأتحمل إلى العمل، وأنفق إلى أن أصل إليه.
قال: فما خرجت من الدار حتى ردني، فقال: بالباب قوم يحتاج إلى إثباتهم، فاجلس، وأثبتهم، واعمل لهم جرائد بأسمائهم، وحلاهم، وأرزاقهم، واستقبالاتهم، وجئني بها.
فتشاغلت بذلك يومين، وثلاثة، وجئت بالجرائد، فلما وقف عليها أعجبته، وقال: أرى عملك، عمل فهم بالجيش.
فقلت: ما عملته قط إلا مرة واحدة.
فقال: لم أقل هذا لأنك تقصر في نفسي عن غيره، ولكن ينبغي للكاتب، والعامل، أن يحسنا كل شيء يقع عليه اسم كتابة وعمالة.
ثم قال: خذ هذا الصك، وأقبض ما فيه من الجهبذ، واجلس في المسجد المحاذي لداري، وأنفق في الصنف الفلاني من أهل هذه الجريدة.
قال: فأخذت الصك وكان بألوف دنانير، فأخذت ماله، وأنفقت في القوم، وتفرقوا وهم شاكرون، وفضل مال من ذلك، وكتبت إليه بخبره، واستأمرته فيما أعمل به.
فقال: خذه من رزقك.
وأعطاني مالاً ثانياً، وقال: أنفقه في الصنف الآخر، إلى أن انفقت في جميع أهل الجريدة، فحصل لي من ذلك، زيادة على ألف دينار، فجعلتها في طريقي لنفقتي.
وشخصت قبله إلى ديار مضر، فنظرت في العمل، وسار هو مجتازاً إلى مصر.
واستأذنته في المسير إليها معه، فقال: لا أحب أن أعجل لك الصرف، ونحن نمضي إلى أعمال فيها قوم، ولعلي أقف من حالهم على ما لا يجوز معه صرفهم، فتحصل أنت على الصرف المعجل، ولكن أقم بمكانك وعملك، وأسير أنا، فإن احتجت إلى متصرفين، كنت أول من استدعيته.
فشكرته، وأقمت في عملي سنتين، أثريت فيهما، وعظمت حالي، ولم يتفق استدعاؤه إياي إلى مصر، إلى أن صرفت، وانسللت من الرقة، ودخلت بغداد، موفراً، ومعي مال جليل، فابتعت به ضيعة، ولزمتها، وتركت التصرف.

للذين أحسنوا الحسنى وزيادة

وذكر أبو الحسين القاضي، قال: حدثني أبي، عن بعض إخوانه، أحسبه أبا يوسف يعقوب بن بيان، أنه قال: أملق بعض الكتاب في أيام الرشيد حتى أفضى إلى بيع أنقاض داره، ونقض ما فيها، فلم يبق فيها إلا بيتاً واحداً، كان يأوي إليه وولده، وانقطع عن الناس، وانقطعوا عنه دهراً.
وكان الرشيد يولي على أذربيجان في كل سنتين أو ثلاثة، رجلاً من بني هاشم.

فولاها سنة من السنين، رجلاً منهم كان متعطلاً، فطلب كاتباً فارهاً يصطنعه، وشاور فيه صديقاً له من الكتاب، فوصف له هذا الرجل المتعطل، ووعده بإحضاره، وصار إليه، وطرق الباب عليه، ودخل، فوجده من الفقر على حال لا يتهيأ له معها لقاء أحد.
فبعث إليه من منزله بخلعة من ثيابه، ودابة، وغلاماً، وبخوراً، ودراهم، فركب معه إلى الهاشمي، فلقيه.
وامتحنه الهاشمي، فوجده بارعاً في صناعته، فاستكتبه، وقرر جاريه، وأمر له بمال معجل معونة له على سفره، وأمره بأن يتقدمه إلى أذربيجان.
فعاد الرجل إلى منزله، وأصلح من حاله، وخلف نفقة لعياله، وشخص.
فلما بلغ المصروف الخبر، رحل عن البلد، وأخذ غير الطريق الذي بلغه أن الكاتب قد سلكها، وخلف كاتبه لرفع الحساب.
فلما شارف كاتب الوالي الناحية، خرج إليه كاتب المعزول ولقيه، فسأله عن صاحبه، فأعلمه شخوصه إلى مدينة السلام، فأنكر ذلك.
فقال له كاتب المعزول: مل بنا إلى موضع نجلس فيه، ونتحدث، وترى رأيك، فمالا، ونزلا، وطرح لهما ما جلسا عليه.
فقال: أعزك الله لا تنكر انصراف صاحبي، فإنه رجل كبير المقدار، وفي مقامه إلى أن تصيروا إلى العمل، مهانة تلحقه، وقد خلف قبلي، خمسين ومائة ألف درهم لصاحبك، ودواباً ورقيقاً بقيمة ثلاثة آلاف درهم، فاقبض ذلك، وأكتب لنا كتاباً بإزاحة علتك، وانفصال ما بيننا وبينك، ونحن ننصب لك من يرفع الحساب، رفع من لا يستقصى عليه، ولا يعنت.
فقبل كاتب الوالي ذلك، وركبا، وقد زال الخلاف فيما بينهما، وخرج الكاتب لاحقاً بصاحبه، وخلف من يسلم الحساب.
واتصل ظاهر الخبر بالهاشمي الوالي، وكتب إليه كاتبه: إني قد بلغت من الأمر مبلغاً مرضياً، إذا وقفت عليه.
فلما ساروا إلى الناحية، عرف ما جرى، فحسن موقعه، وتبرك بالكاتب، وغلب على قلبه، فكسب مالاً عظيماً.
فلما مضت ثلاث سنين، صرف الهاشمي بالرجل الذي كان والياً قبله، وبلغ الهاشمي الخبر.
فقال لكاتبه: ما الرأي ؟ قال: نفعل به مثلما فعل بنا، وترحل أنت، وأقيم أنا، ومعي مثل ما أعطانا، فأعطيه إياه، وآخذ كتابه بانفصال ما بيننا وبينه، وألحق بك، ففعل.
ووافى كاتب الصارف، الذي كان معروفاً، فتلقاه الكاتب في الموضع الذي لقيه فيه، لما كان معزولاً مصروفاً، فسلم عليه، وعدلا فنزلا، وعرض عليه ما خلفه صاحبه، له، ولصاحبه، وسأله قبول ذلك، والكتاب بمثل ما كان كتب إلى الرشيد، فامتنع من قبول ذلك، وكتب له بانفصال ما بينهما، إلى الرشيد، كتاباً وكيداً.
وقال له: أراك فاضلاً، فطناً، وأرى صاحبك عاقلاً، وقبول ذلك، لا يكون منكما مكافأة، بل كأنه بيع وشراء، وقد فكرت في أمر، هو أنفع - لنا ولكم - من هذا.
قال: ما هو ؟ فقال: أعقد بين صاحبك وصاحبي صهراً، وبيني وبينك صهراً، ونكون إخوة وأصدقاء.
فقال: فعل الله بك وصنع، ما في الدنيا أكرم ولاية، ولا صرفاً منك.
فعقدا بينهما الصهرين، وسارا إلى مقصدهما، ودخل الكاتب بغداد، وقد حصل الهاشمي صاحبه، فأخبره الخبر، فأحمد رأيه، وأمضى عقده في المصاهرة.
فصار الكاتب من أرباب الأحوال، وعاد إلى أفضل ما كان عليه.

هاك يا هذا الذي لا أعرفه

وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: روي عن شيخ من أهل الكوفة، قال: أملقت وبلغت بي الحال أن نقضت منزلي، فلما اشتد علي الأمر، وتجرد عيالي من الكسوة، جاءتني الخادمة، فقالت: ما لنا دقيق، ولا معنا ثمنه، فما نعمل ؟.
فقلت: أسرجي حماري، وقد كان بقي لي حمار.
فقالت: ما أكل شعيراً منذ ثلاث، فكيف تركبه ؟ فقلت: أسرجيه على كل حال، فأسرجته، فركبته، أدب عليه، هارباً مما أنا فيه، حتى انتهيت إلى البصرة.
فلما شارفتها إذا أنا بموكب مقبل، فلما انتهوا إلي، دخلت في جملتهم، فرجعت الخيل تريد البصرة، فسرت معهم حتى دخلتها، وانتهى صاحب الموكب إلى منزله، فنزل، ونزل الناس معه، ونزلت معهم.
ودخلنا، فإذا الدهليز مفروش، والناس جلوس مع الرجل، فدعا بغداء، فجاءوا بأحسن غداء، فتغديت مع الناس، ثم وضأنا، ودعا بالغالية، فغلفنا بها.
ثم قال: يا غلمان، هاتوا سفطاً، فجاءوا بسفط أبيض مشدود، ففتح فإذا فيه أكياس، في كل كيس ألف درهم، فبدأ يعطي من على يمينه، فأمرها عليهم، ثم انتهى إلي وأعطاني كيساً، ثم ثنى وأعطاني آخر، ثم ثلث وأعطاني آخر، وأخذت الجماعة.

وبقي في السفط كيس واحد، فأخذه بيده، وقال: هاك يا هذا الذي لا أعرفه.
فأخذت أربعة أكياس، وخرجت، فقلت لانسان: من هذا ؟ قال: عبيد الله بن أبي بكرة.

أول دخول الأصمعي إلى الرشيد

وذكر أبو الحسين في كتابه أيضاً، أن الأصمعي قال: لزمت باب الرشيد، فكنت أقيم عليه طول نهاري، وأبيت بالليل مع الحراس أسامرهم، وأتوقع طالع سعد، حتى كدت أموت ضراً وهزالاً، وأن أصير إلى ملالة، ثم أتذكر ما في عاقبة الصبر من الفرج، فأؤمل صلاح حالي باتفاق محمود، فأصبر.
فبينا أنا ذات ليلة، وقد قاسيت فيها السهاد والأرق، إذ خرج بعض الحجاب، فقال: هل بالباب أحد يحسن الشعر ؟ فقلت: الله أكبر، رب مضيق فكه التيسير، أنا ذلك الرجل.
فأخذ بيدي، وقال: ادخل، فإن ختم لك بالسعادة، فلعلها أن تكون ليلة تقر عينك فيها بالغنى.
فقلت: بشرك الله بخير، ودخلت، فواجهت الرشيد في البهو جالساً، والخدم قيام على رأسه، وجعفر بن يحيى البرمكي، جالس إلى جنبه.
فوقف بي الحاجب حيث يسمع تسليمي، فسلمت، ثم قال: تنح قليلاً حتى تسكن، إن كنت وجدت روعة.
فقلت في نفسي: فرصة تفوتني آخر الدهر، إن شغلت بعارض، فلا أعتاض منها إلا كمداً، حتى يصفق علي الضريح، فقلت: إضاءة كرم أمير المؤمنين، وبهاء جده، يجردان من نظر إليه من أذية النفس، يسألني - أيده الله - فأجيب، أو أبتدئ فأصيب ؟ فتبسم إلي جعفر، وقال: ما أحسن ما استدعى الإحسان، وحري به أن يكون محسناً.
ثم قال لي: أشاعر أنت، أم راوية للشعر ؟ قلت: راوية.
قال: لمن ؟ قلت: لكل ذي جد وهزل، بعد أن يكون محسناً.
فقال: أنصف القارة من راماها.
ثم قال: ما معنى هذه الكلمة ؟ قلت: لها وجهان، زعمت التبابعة، أنه كان لها رماة لا تقع سهامها في غير الحدق، فكانت تكون في الموكب الذي يكون فيه الملك، فخرج فارس معلم بعذبات سمور في قلنسوته، فنادى: أين رماة الحدق ؟ فقالت العرب: أنصف القارة من راماها.
والوجه الآخر: الموضع المرتفع من الأرض، والجبل الشاهق، فمن ضاهاه بفعاله فقد راماه، وما أحسب هذا هو المعنى، لأن المراماة، كالمعاطاة، وكما أن المعاطاة للنديم، هي أن يأخذ كاساً، ويعطي كأساً، كذلك المراماة، أن يرميها وترميه.
فقال: أصبت، فهل رويت للعجاج بن رؤبة شيئاً ؟ قلت: الأكثر.
قال: أنشدني قوله:
أرّقني طارق همٍّ طرقا
فمضيت فيها مضي الجواد، تهدر أشداقي، فلما بلغت مدحه لبني أمية، ثنيت عنان اللسان، لامتداحه المنصور.
فقال: أعن عمد، أو غير عمد ؟ فقلت: عن عمد، تركت كذبه إلى صدقه، بما وصف فيه المنصور من مجده.
فقال جعفر: بارك الله عليك، مثلك يؤهل لمثل هذا الموقف.
ثم التفت إلي الرشيد، فقال: أرويت لعدي بن الرقاع، شيئاً ؟ قلت: الأكثر، قال: أنشدني قوله:
بانت سعاد وأخلفت ميعادها
فابتدأت تهدر أشداقي، فقال جعفر: يا هذا أنشد على مهل، فلن تنصرف إلا غانماً.
فقال الرشيد: أما إذ قطعت علي، فأقسم، لتشركني في الجائزة.
قال: فطابت نفسي، فقلت: أفلا ألبس أردية التيه على العرب، وأنا أرى الخليفة والوزير يتشاطران لي المواهب، فتبسم، ومضيت فيها.
ثم قال: أرويت لذي الرمة شيئاً ؟ قلت: الأكثر، قال أنشدني قوله:
أمن حذر الهجران قلبك يطمح
فقلت: عروس شعره.
قال: فأيه الختن ؟ قلت: قوله، يا أمير المؤمنين:
ما بال عينيك منها الماء ينسكب
فقال: امض فيها، فمضيت فيها، حتى انتهيت إلى وصفه جمله.
فقال جعفر: ضيق علينا ما اتسع من مسامرة السهر، بجمل أجرب.
فقال الرشيد: أسكت، فهي التي سلبتك تاج ملكك، وأزعجتك عن قرارك، ثم جعلت جلودها سياطاً، تضرب بها أنت وقومك عند الغضب.
فقال جعفر: الحمد لله، عوقبت من غير ذنب.
فقال الرشيد: أخطأت في كلامك، لو قلت: أستعين بالله، قلت صواباً، إنما يحمد الله تعالى على النعم، ويستعان على الشدائد.
ثم قال لي: إني لأجد مللاً، وهذا جعفر، ضيف عندنا، فسامره باقي ليلتك، فإذا أصبحت، فإن وضاء الخادم، يلقاك بثلاثين ألف درهم.
قال: ثم قربت إليه النعل، فجعل الخادم يصلح عقب النعل في رجله، فقال: ارفق ويحك، أحسبك قد عقرتني.
فقال جعفر: قاتل الله العجم، لو كانت سندية، ما احتاج أمير المؤمنين إلى هذه الكلفة.

فقال: هذه نعلي ونعل آبائي، ما تدع نفسك والتعرض لما تكره.
ثم قال لي جعفر: لولا أن المجلس مجلس أمير المؤمنين، ولا يجوز لي فيه أن آمر بمثل ما أمر به، لأمرت لك بثلاثين ألف درهم، ولكني آمر لك بتسعة وعشرين ألف درهم، فإذا أصبحت فاقبضها والزم الباب.
قال: فما صليت من غد الصبح، إلا وفي منزلي ما أمر لي به، فأيسرت ولزمتهما، وزال ما كنت فيه من الضر، وأتى الإقبال، والنعمة والسلامة، وأفلحت، ولله الحمد.

قصة حائك الكلام

وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، قال: بلغني عن عمرو بن مسعدة، أنه قال: كنت مع المأمون عند قدومه من بلاد الروم، حتى إذا نزل الرقة، قال لي: يا عمرو، أما ترى الرخجي، قد احتوى على الأهواز، وهي سلة الخبز، وجميع الأموال قبله، وقد طمع فيها، وكتبي متصلة في حملها، وهو يتعلل، ويتربص بنا الدوائر.
فقلت: أنا أكفي أمير المؤمنين هذا، وأنفذ من يضطره إلى حمل ما عليه.
فقال: ما يقنعني هذا.
قلت: فيأمر أمير المؤمنين بأمره.
قال: تخرج إليه بنفسك، حتى تصفده بالحديد، وتحمله إلي، بعد أن تقبض جميع ما في يده من أموالنا، وتنظر في ذلك، وترتب فيه عمالاً.
فقلت: السمع والطاعة، فلما كان من غد، دخلت إليه.
فقال: ما فعلت فيما أمرتك به ؟ قلت: أنا على ذاك.
قال: أريد أن تجيئني في غد مودعاً.
قلت: السمع والطاعة، فلما كان من غد، جئت مودعاً.
فقال: أريد أن تحلف لي، أنك لا تقيم ببغداد إلا يوماً واحداً، فاضطربت من ذلك، إلى أن حظر علي واستحلفني أن لا أقيم فيها أكثر من ثلاثة أيام، فخرجت، وأنا مضطرب مغموم.
وقلت في نفسي: أنا في موضع الوزارة، وقد جعلني مستحثاً إلى عامل، ومستخرجاً، ولكن أمر الخليفة لا بد من سماعه، وأمتثال مرسومه.
وسرت حتى قدمت بغداد، ولم أقم بها إلا ثلاثة أيام، وانحدرت منها في زلال، أريد البصرة، وجعل لي فيه خيش، واستكثرت من الثلج لشدة الحر.
فلما صرت بين جرجرايا، وجبل، سمعت صائحاً من الشاطئ، يصيح: يا ملاح، فرفعت سجف الزلال، فإذا بشيخ كبير السن حاسر الرأس، حافي القدمين، خلق القميص.
فقلت للغلام: أجبه، فأجابه.
فقال: أنا شيخ كبير السن، على هذه الصورة التي ترى، وقد أحرقتني الشمس، وكادت تتلفني، وأنا أريد جبل، فاحملوني معكم، فإن الله عز وجل يحسن أجر صاحبكم.
قال: فشتمه الملاح، وانتهره.
فأدركتني عليه رقة، وقلت للغلام: خذه معنا، فقدم إلى الشط، وصحنا به، وحملناه.
فلما صار معنا في الزلال، وانحدرنا، تقدمت، فدفع إليه قميص، ومنديل، وغسل وجهه، واستراح، فكأنه كان ميتاً عاد إلى الدنيا.
وحضر وقت الغداء، فتذممت وقلت للغلام: هاته يأكل معنا.
فجاء وقعد على الطعام، فأكل أكل أديب، نظيف، غير أن الجوع قد أثر فيه.
فلما رفعت المائدة، أردت أن قوم ويغسل يده ناحية، كما يفعل العامة، في مجالس الخاصة، فلم يفعل، فغسلت يدي.
وتذممت أن آمر بقيامه، فقلت: قدموا له الطست، فغسل يده، وأردت بعدها أن يقوم لأنام، فلم يفعل.
فقلت: يا شيخ، أيش صناعتك ؟ قال: حائك، أصلحك الله.
فقلت في نفسي: هذه الحياكة علمته سوء الأدب، فتناومت عليه، ومددت رجلي.
فقال: قد سألتني عن صناعتي، فأجبتك، فأنت - أعزك الله - ما صناعتك ؟ فأكبرت ذلك، وقلت: أنا جنيت على نفسي هذه الجناية، ولا بد من احتماله، أتراه - الأحمق - لا يرى زلالي، وغلماني، ونعمتي، وأن مثلي لا يقال له مثل هذا ؟ ثم قلت: أنا كاتب.
فقال: كاتب كامل، أم كاتب ناقص ؟ فإن الكتاب خمسة، فمن أيهم أنت ؟ فورد علي من قول الحائك، مورد عظيم، وسمعت كلاماً أكبرته، وكنت متكئاً، فجلست.
ثم قلت له: فصل الخمسة.
قال: نعم، كاتب خراج، يقتضي أن يكون عالماً بالشروط، والطسوق، والحساب، والمساحة، والبثوق، والفتوق، والرتوق.
وكاتب أحكام، يحتاج أن يكون عالماً بالحلال، والحرام، والاختلاف، والاحتجاج، والإجماع، والأصول، والفروع.
وكاتب معونة، يحتاج أن يكون عالماً بالقصاص، والحدود، والجراحات، والمراتبات، والسياسات.
وكاتب جيش، يحتاج أن يكون عالماً بحلى الرجال، وشيات الدواب، ومداراة الأولياء، وشيء من العلم بالنسب والحساب.
وكاتب رسائل، يحتاج إلى أن يكون عالماً بالصدور، والفصول، والإطالة، والإيجاز، وحسن البلاغة، والخط.

قال: فقلت: أنا كاتب رسائل.
قال: فأسألك عن بعضها ؟ قلت: سل.
قال: أصلحك الله، لو أن رجلاً من إخوانك تزوجت أمه، فأردت أن تكاتبه مهنئاً، فماذا كنت تكتب إليه ؟ ففكرت في الحال، فلم يخطر ببالي شيء، فقلت: اعفني.
قال: قد فعلت، ولكنك، لست بكاتب رسائل.
قلت: أنا كاتب خراج.
قال: لا بأس، لو أن أمير المؤمنين ولاك ناحية وأمرك فيها بالعدل والإنصاف، وتقصي حق السلطان، فتظلم إليك بعضهم من مساحك، وأحضرتهم للنظر بينهم وبين رعيتك، فحلف المساح بالله العظيم، لقد أنصفوا، وما ظلموا، وحلف الرعية بالله العظيم، أنهم قد جاروا وظلموا، وقالوا لك: قف معنا على ما مسحوه، وأنظر من الصادق من الكاذب، فخرجت لتقف عليه، فوقفوا على قراح شكله: قاتل قثا، كيف كنت تمسحه ؟ فقلت: كنت آخذ طوله على انعواجه، وآخذ عرضه، ثم أضربه في مثله.
قال: إن شكل قاتل قثا، يكون رأساه محددان، وفي تحديده تقويس.
قلت: فآخذ الوسط فأضربه بالعمود.
قال: إذاً ينثني عليك العمود، فأسكتني.
فقلت: أنا لست كاتب خراج.
قال: فإذاً ماذا ؟ قلت: أنا كاتب قاض.
قال: لا تبال، أفرأيت لو أن رجلاً توفي، وخلف امرأتين حاملتين، إحداهما حرة، والأخرى سرية، وولدت السرية غلاماً، والحرة جارية، فعمدت الحرة إلى ولد السرية فأخذته، وتركت بدله الجارية، فاختصمتا في ذلك، كيف الحكم بينهما ؟ قلت: لا أدري.
قال: فلست كاتب قاض.
قلت: أنا كاتب جيش.
قال: لا بأس، أرأيت، لو أن رجلين جاءا إليك لتحليهما، وكل واحد منهما، اسمه، واسم أبيه، كأسم الآخر، واسم أبيه، إلا أن أحدهما مشقوق الشفة العليا، والآخر مشقوق الشفة السفلى، كيف كنت تحليهما ؟ قلت: أقول فلان الأعلم، وفلان الأعلم.
قال: إن رزقيهما مختلفان، وكل واحد منهما يجيء في دعوة الآخر.
قلت: لا أدري.
قال: فلست بكاتب جيش.
قلت: أنا كاتب معونة.
قال: لا تبال، لو أن رجلين رفعا إليك شج أحدهما شجة موضحة، وشج الآخر صاحبه شجة مأمومة، كيف تفصل بينهما ؟ قلت: لا أدري.
قال: إذن، لست كاتب معونة، فاطلب لنفسك - أيها الرجل - شغلاً غير هذا.
قال: فقصرت إلى نفسي، وغاظني، فقلت: قد سألت عن هذه الأمور، ويجوز أن لا يكون عندك جوابها، كما لم يكن عندي، فإن كنت عالماً بالجواب، فقل.
فقال: نعم، أما الذي تزوجت أمه، فتكتب إليه: أما بعد، فإن الأمور، تجري من عند الله، بغير محبة عباده، ولا اختيارهم، بل هو تعالى، يختار لهم ما أحب، وقد بلغني تزويج الوالدة، خار الله لك في قبضها، فإن القبر أكرم الأزواج، وأستر للعيوب، والسلام.
وأما قراح قاتل قثا، فيمسح العمود، حتى إذا صار عدداً في يدك ضربته في مثله، ومثل ثلثه، فما خرج فهو مساحته.
وأما الجارية والغلام، فيوزن اللبنان، فأيهما أخف، فالجارية له.
وأما المرتزقان المتوافقان في الاسمين فإن كان الشق في الشفة العليا، كتبت فلان الأعلم، وإذا كان في الشفة السفلى، كتبت فلان الأفلح.
وأما أصحاب الشجتين، فلصاحب الموضحة ثلث الدية، ولصاحب المأمومة نصف الدية.
قال: فلما أجاب في هذه المسائل، تعجبت منه، وامتحنته في أشياء غيرها كثيرة، فوجدته ماهراً في جميعها، حاذقاً، بليغاً.
فقلت: ألست زعمت أنك حائك ؟ فقال: أنا - أصلحك الله - حائك كلام، ولست بحائك نساجة، ثم أنشأ يقول:
ما مرّ بؤس ولا نعيم ... إلاّ ولي فيهما نصيب
نوائب الدهر أدّبتني ... وإنّما يوعظ الأديب
قد ذقت حلواً وذقت مرّاً ... كذاك عيش الفتى ضروب
قلت: فما سبب الذي بك من سوء الحال ؟ قال: أنا راجل كاتب، دامت عطلتي، وكثرت عيلتي وتواصلت محنتي، وقلت حيلتي، فخرجت أطلب تصرفاً، فقطع علي الطريق، فتركت كما ترى، فمشيت على وجهي، فلما لاح لي الزلال، استغثت بك.
قلت: فإني قد خرجت إلى تصرف جليل، أحتاج فيه إلى جماعة مثلك، وقد أمرت لك بخلعة حسنة، تصلح لمثلك، وخمسة آلاف درهم، تصلح بها أمرك، وتنفذ منها إلى عيالك، وتتقوى نفسك بباقيها، وتصير معي إلى عملي، فأوليك أجله، إن شاء الله تعالى.
فقال: أحسن الله جزاءك، إذن تجدني بحيث يسرك، ولا أقوم مقام معذر إن شاء الله.

فأمرت بتقبيضه ما رسمت له، فقبضه، وانحدر إلى الأهواز معي، فجعلته المناظر للرخجي، والمحاسب له بحضرتي، والمستخرج لما عليه، فقام بذلك أحسن قيام وأوفاه.
وعظمت حاله معي، وعادت نعمته إلى أحسن ما كانت عليه.
أنا أبوك
قال مؤلف هذا الكتاب: وقد بلغني حديث لعمرو بن مسعدة في زلاله، بخلاف هذا، حدثني به عبيد الله بن محمد بن الحسن بن الحفا العبقسي، وهو يذكر أن أهله أقرباء لبني مارية الذين كانوا تناء الصراة، وأهل النعم بها، قال: حدثني أبي، قال: سمعت شيوخنا بالصراة، وأهلنا، يتحدثون: أن عمرو بن مسعدة، كان مصعداً من واسط إلى بغداد، في حر شديد، وهو جالس في زلال، فناداه رجل: يا صاحب الزلال بنعمة الله عليك إلا نظرت إلي.
قال: فكشف سجف الزلال، فإذا بشيخ ضعيف حاسر الرأس.
فقال له: قد ترى ما أنا عليه، ولست أجد من يحملني، فابتغ الأجر في، وتقدم إلى ملاحيك يطرحوني بين مجاديفهم، إلى أن أصل بلداً يطرحوني فيه.
قال عمرو بن مسعدة: فرحمته، وقلت خذوه، فأخذوه، فغشي عليه، وكاد يموت لما لحقه من المشي في الشمس.
فلما أفاق، قلت له: يا شيخ، ما حالك، وما قصتك ؟ فقال: قصة طويلة.
فسكنته وطرحت عليه قميصاً ومنديلاً، وأمرت له بدراهم وشمشك، فشكرني.
فقلت: لا بد أن تحدثني بحديثك.
فقال: أنا رجل كانت لله عز وجل علي نعمة جليلة، وكنت صيرفياً، فابتعت جارية بخمسمائة دينار، فعشقتها عشقاً عظيماً، وكنت لا أقدر أن أفارقها ساعة واحدة، فإذا خرجت إلى الدكان، أخذني كالجنون والهيمان، حتى أعود فأجلس معها يومي كله.
فدام ذلك حتى تعطل دكاني، وتعطل كسبي، وأقبلت أنفق من رأس المال، حتى لم يبق منه قليل ولا كثير، وأنا مع ذلك لا أطيق أن أفارقها.
فحبلت الجارية، وأقبلت أنقض داري، وأبيع نقضها، حتى فرغت من ذلك، فلم تبق لي حيلة.
فضربها الطلق، فقالت: يا هذا، هوذا أموت، فاحتل فيما تبتاع به عسلاً، ودقيقاً، وشيرجاً، ولحماً، وإلا مت.
فبكيت، وحزنت، وخرجت على وجهي، وجئت لأغرق نفسي في دجلة، فذكرت حلاوة النفس، وخوف العقاب في الآخرة، فامتنعت.
ثم خرجت هائماً على وجهي إلى النهروان، وما زلت أمشي من قرية إلى قرية، حتى بلغت خراسان، فصادفت بها من عرفني، وتصرفت في ضياعه، ورزقني الله عز وجل مالاً عظيماً، فأثريت، واتسعت حالي، ومكثت سنين، لا أعرف خبر منزلي، فلم أشك أن الجارية قد ماتت.
وتراخت السنون حتى حصل لي ما قيمته عشرون ألف دينار.
فقلت: قد صارت لي نعمة، فلو رجعت إلى وطني.
فابتعت بالمال كله، متاعاً من خراسان، وأقبلت أريد العراق، من طريق فارس والأهواز.
فلما حصلت بينهما، خرج على القافلة لصوص، فأخذوا جميع ما فيها، ونجوت بثيابي، وعدت فقيراً.
ودخلت الأهواز، فبقيت بها متحيراً، حتى كشفت خبري لبعض أهلها ممن أعرفه، فأعطاني ما تحملت به إلى واسط.
ونفدت نفقتي، فمشيت إلى هذا الموضع، قود كدت أتلف، فاستغثت بك، ولي منذ فارقت بغداد، ثمان وعشرون سنة.
فعجبت من ذلك، وقلت له: اذهب، فاعرف خبر أهلك، وصر إلي، فإني أتقدم بتصريفك فيما يصلح لمثلك، فشكر، ودعا، ودخلنا بغداد.
ومضت على ذلك مدة طويلة، أنسيته فيها، فبينا أنا يوماً، قد ركبت، أريد دار المأمون، وإذا بالشيخ على بابي، راكباً بغلاً فارهاً، بمركب محلى ثقيل، وغلام أسود بين يديه، وثياب حسنة، فلما رأيته رحبت به، وقلت: ما الخبر ؟ فقال: طويل، وها أنا آتي إليك في غد، وأحدثك بالخبر.
فلما كان من الغد، جاءني، فقلت له: عرفني خبرك، فقد سررت بسلامتك، وبظاهر حالك.
فقال: إني صعدت من زلالك، فقصدت داري، فوجدت حائطها الذي يلي الطريق كما خلفته، غير أن باب الدار كان مجلواً، نظيفاً، وعليه دكاكين، وبواب، وبغال مع شاكرية.
فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماتت جاريتي، وملك الدار بعض الجيران، فباعها من رجل من أصحاب السلطان.
ثم تقدمت إلى بقال كنت أعرفه في المحلة، فوجدت في دكانه غلاماً حدثاً.
فقلت له: من تكون من فلان البقال ؟ فقال: أنا أبنه.
فقلت: ومتى مات ؟ قال: منذ عشرين سنة.
قلت: لمن هذه الدار ؟ قال: لابن داية أمير المؤمنين، وهو الآن صاحب بيت ماله.
قلت: بمن يعرف ؟ قال: بابن فلان الصيرفي، فأسماني.
قلت: فهذه الدار من باعها إليه.

قال: هذه دار أبيه.
قلت: وأبوه يعيش ؟ قال: لا.
قلت: أتعرف من حديثهم شيئاً ؟ قال: نعم، حدثني أبي، أن والد هذا الرجل كان صيرفياً جليلاً، فافتقر، وأن أم هذا الرجل ضربها الطلق، فخرج أبوه يطلب لها شيئاً، ففقد، وهلك.
وقال أبي: جاءني رسول أم هذا، يطلب لها شيئاً، وهي تستغيث بي، فقمت لها بحوائج الولادة، ودفعت لها عشرة دراهم، فما أنفقتها، حتى قيل: قد ولد لأمير المؤمنين الرشيد، مولود ذكر، وقد عرض عليه جميع الدايات، فلم يقبل ثديهن، وقد طلب له الحرائر، فجاءوه بغير واحدة، فما أخذ ثدي واحدة منهن، وهم في طلب مرضع.
فأرشدت الذي طلب الداية إلى أم هذا، فحملت إلى دار الرشيد، فحين وضع فم الصبي على ثديها، قبله، فأرضعته، وكان الصبي المأمون، وصارت عندهم في حال جليلة، ووصل إليها منهم خير كثير.
ثم خرج المأمون إلى خراسان، وخرجت هذه المرأة وابنها هذا معها، ولم نعرف أخبارهم إلا منذ قريب، لما عاد المأمون، وعادت حاشيته، رأينا هذا قد صار رجلاً، ولم أكن رأيته قبل قط، وقد كان أبي مات.
فقالوا: هذا ابن فلان الصيرفي، وابن داية الخليفة المأمون، فبنى هذه الدار وسواها.
فقلت: فعندك علم من أمه أهي حية أم ميتة ؟ قال: هي حية، تمضي إلى دار الخليفة أياماً، وتكون عند ابنها أياماً هنا.
فحمدت الله تعالى على هذه الحال، وجئت، حتى دخلت الدار مع الناس، فرأيت الصحن في نهاية العمارة والحسن، وفيه مجلس كبير مفروش بفرش فاخرة، وفي صدره رجل شاب بين يديه كتاب وجهابذة، وحساب يستوفيه عليهم، وفي صفاف الدار وبعض مجالسها، جهابذة بين أيديهم الأموال والتخوت والشواهين، يقبضون ويقبضون، وبصرت بالفتى، فرأيت شبهي فيه، فعلمت أنه ابني، فجلست في غمار الناس، إلى أن لم يبق في المجلس غيري، فأقبل علي.
فقال: يا شيخ، هل من حاجة تقولها ؟ فقلت: نعم، ولكنه أمر لا يجوز أن يسمعه غيرك.
فأومأ إلى غلمان كانوا قياماً حوله، فانصرفوا، وقال: قل، أعزك الله.
قلت: أنا أبوك.
فلما سمع ذلك تغير وجهه، ثم وثب مسرعاً، وتركني مكاني.
فلم أشعر إلا بخادم جاءني، فقال: قم يا سيدي، فقمت أسير معه، حتى بلغت ستارة منصوبة، في دار لطيفة، وكرسي بين يديها، والفتى جالس على كرسي آخر.
فقال: اجلس أيها الشيخ.
فجلست على الكرسي، ودخل الخادم، فإذا بحركة خلف الستارة.
فقلت: أظنك تريد أن تختبر صدق ما قلت لك من جهة فلانة، وذكرت اسم جاريتي، أمه.
قال: فإذا بالستارة قد كشفت، والجارية قد خرجت إلي، فوقعت علي تقبلني وتبكي، وتقول: مولاي والله.
قال: فرأيت الفتى، قد تشوش، وبهت، وتحي.
فقلت للجارية: ويحك ما خبرك ؟ فقالت: دع خبري، ففي مشاهدتك، مما تفضل الله عز وجل بذلك، كفاية، إلى أن أخبرك، فقل ما كان من خبرك أنت ؟ فقصصت عليها خبري، منذ يوم خروجي من عندها، إلى يومي ذاك، وقصت هي، علي قصتها، مثل ما قال ابن البقال، وأعجب، وأشرح، وكل ذلك بمرأى من الفتى ومسمع، فلما استوفى الحديث، خرج وتركني في مكاني.
قال: وإذا أنا بخادم، قال: يا مولاي، يسألك ولدك أن تخرج إليه.
قال: فخرجت إليه، فلما رآني من بعيد، قام قائماً على رجليه، وقال: معذرة إلى الله، وإليك يا أبة، من تقصيري في حقك، فإنه فجأني من أمرك، ما لم أظن أنه يكون، والآن، فهذه النعمة لك، وأنا ولدك، وأمير المؤمنين مجتهد بي منذ دهر، أن أدع هذه الجهبذة، وأتوفر على خدمته في الدار، فلا أفعل، طلباً للتمسك بصنعتي، والآن، فأنا أسأله أن يرد إليك عملي، وأخدمه أنا في غيرها، فقم عاجلاً، وأصلح أمرك.
فأخذت إلى الحمام ونظفت، وجاءوني بخلعة، فألبستها، وخرجت إلى حجرة والدته، فجلست فيها.
ثم أدخلني على أمير المؤمنين، وحدثته بحديثي، وخلع علي، ورد إلي العمل الذي كان إلى ولدي، وأجرى علي من الرزق، في كل شهر كذا، وقلد ابني أعمالاً هي من أجل عمله، وأضعف له أرزاقه، وأمره بلزم حضرته في أشياء استعمله فيها من خاص أمره.
فجئت لأشكرك على ما عاملتني به من الجميل، وأعرفك بتجدد النعمة.
قال عمرو بن مسعدة: فلما أسمى الفتى، علمت أنه ابن داية المأمون، كما قال.

سقط عليه حائط ونهض سالما

ً

حدثني عمر بن عبد الملك بن الحسن بن يوسف السقطي، وكان خليفتي على القضاء بحران ونواح من ديار مضر، ثم خلفني على قطعة من سقي الفرات، قال: حدثني أبو الخطاب محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري، الشاهد بالبصرة، قال: غلست يوماً أريد مسجد الزياديين، بشارع المربد، لوعد كان علي فيه، وكانت الريح قوية، وإذا بين يدي بأذرع رجل يمشي.
فلما بلغنا دار رياح، قلعت الريح سترة آجر وجص على رأس حائط، فرمت بها على ذلك الرجل، فلم أشك في هلاكه، وارتفعت غبرة عظيمة أفزعتني، فرجعت.
فلما سكنت، عدت أسلك الطريق، حتى إذا دست بعض السترة، لم أجد الرجل، فعجبت.
وتممت طريقي، حتى دخلت مسجد الزياديين، فرأيت أهل المسجد مجتمعين، فحدثتهم بما رأيت في طريقي، متوجعاً للرجل، وشاكراً لله عز وجل على سلامتي.
فقال رجل منهم: يا أبا الخطاب، أنا الذي وقعت عليه السترة، وذلك أني قصدت هذا المسجد لمثل ما وعدت له، فلما سقطت السترة لم أحس بضرر لحقني، ووجدت نفسي قائماً سالماً، فحمدت الله تعالى، وتحيرت، ووقفت حتى انجلت الغبرة، فتأملت الصورة، فاذا في السترة موضع باب كبير، وقد سقط باقي السترة حوالي، وسائر جسدي في موضع ذلك الباب، فخرجت منه إلى ها هنا.

نفاه الواثق وأعاده المتوكل

ووجدت بخط جحظة: حدثني عبيد الله بن عمر البازيار، نديم المتوكل، قال: لما نفاني الواثق، من سر من رأى، إلى البحر، من أجل خدمتي لجعفر، لحقتني إضاقة شديدة، وغموم متصلة، واستبعدت الفرج.
فكنت أبكر في كل يوم، بباشق على يدي، إلى الصحراء، فأرجع بالدراجة والدراجتين، فيكون ذلك قوتي، لإضاقتي.
فدخلت يوم جمعة، إلى الجامع، لأصلي قريباً من المنبر، وليس معي خب، فإذا الخطيب، يخطب: اللهم أصلح عبدك وخليفتك عبد الله جعفر، الإمام المتوكل على الله، أمير المؤمنين.
فداخل قلبي من السرور، حال، لم أدر معه، في أي مكان أنا.
قال: وسقطت مغشياً علي، فظن الناس أني قد صرعت، فأخرجوني، فمشيت إلى الموضع الذي أسكنه، فإذا البرد على بابي، يطلبونني.
فركبت معهم إلى المتوكل، فكان من أمري معه ما كان، وزادني على الغنى درجات عظيمة، وعدت إلى حالي من اليسار.
البحتري يهنئ الفتح بنجاته من الغرقوحدثت: أن الفتح بن خاقان، اجتاز على بعض القناطر، وهو يتصيد، وقد انقطع من عسكره، فانخسفت القنطرة من تحته، فغرق.
فرآه أكار، وهو لا يعرفه، فطرح نفسه وراءه، وخلصه، وقد كاد أن يتلف، ولحقه أصحابه، فأمر للأكار بمال عظيم، وصدق بمثله.
فدخل إليه البحتري، فأنشده قصيدته التي أولها:
متى لاح برق أو بدا طلل قفر ... جرى مستهلّ لا بكيّ ولا نزر
وفيها يقول:
لقد كان يوم النهر يوم عظيمة ... أطلّت ونعماء جرى بهما النهر
أجزت عليه عابراً فتشاعبت ... أواذيه لما أن طما فوقه البحر
وزالت أواخي الجسر وانهدمت به ... قواعده العظمى وما ظلم الجسر
تحمّل حلماً مثل قدسٍ وهمّة ... كرضوى وقدراً ليس يعدله قدر
فما كان ذاك الهول إلاّ غيابة ... بدا طالعاً من تحت ظلمتها البدر
فإن ننس نعمى اللّه فيك فحظّنا ... أضعنا وإن نشكر فقد وجب الشكر
فقال له الفتح: الناس يهنئونا بنثر، وأنت بنظم، وبراحة، وأنت بتعب، وأجزل صلته
الباب الثامن

فيمن أشقى على أن يقتل

فكان الخلاص من القتل إليه أعجل

بدأ الهادي خلافته بتنحية الربيع عن الوزارة واستيزار إبراهيم الحراني

ذكر محمد بن عبدوس في كتاب الوزراء: أن إبراهيم بن ذكوان الحراني الأعور الكاتب، صاحب طاق الحراني ببغداد، كان خاصاً بالمهدي.
قال: وان المهدي أنفذ موسى ابنه إلى جرجان، وأنفذ معه إبراهيم الحراني، فخص إبراهيم بموسى ولطف موضعه منه.
فاتصل بالمهدي عنه أشياء تزيد فيها عليه أعداؤه وكثروا، فكتب المهدي إلى موسى في حمله إليه، فضن به، ودافع عنه.
فكتب إليه المهدي: إن لم تحمله، خلعتك من العهد، وأسقطت منزلتك.

فلم يجد موسى من حمله بداً، وحمله مع بعض خدمه، مرفهاً، مكرماً، وقال للخادم: إذا دنوت من محل المهدي، فقيد إبراهيم، واحمله في محمل، بغير وطاء ولا غطاء، وألبسه جبة صوف، وأدخله إليه بهذه الصورة، فامتثل الخادم ما أمر به في ذلك.
واتفق أنه ورد إلى العسكر، والمهدي يريد الركوب إلى الصيد، وهو - إذ ذاك - بالروذبار، فبصر بالموكب، فسأل عنه فقيل خادم لموسى ومعه إبراهيم الحراني.
فقال: وما حاجتي إلى الصيد، وهل صيد أطيب من صيد إبراهيم الحراني ؟ قال: فأدنيت منه، وهو علي ظهر فرسه.
فقال: إبراهيم ؟ قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
فقال: لا لبيك، والله لأقتلنك، ثم والله لأقتلنك، ثم والله لأقتلنك، إمض يا خادم به إلى المضرب.
فحملت، وقد يئست من الفرج، ومن نفسي، ففزعت إلى الله تعالى بالدعاء والإبتهال.
وانصرف المهدي، فأكل اللوزينج المسموم المشهور خبره، فمات من وقته، وتخلصت.
وذكر محمد بن عبدوس - بعد هذا - أن الهادي لما بلغه موت المهدي، نجا من جرجان إلى بغداد، على دواب البريد، وما سمع بخليفة ركب دواب البريد غيره، فدخل بغداد والربيع مولى المنصور على الوزارة، كما كان يتقلدها للمهدي، فصرفه وقلد إبراهيم بن ذكوان الحراني.

لما اعتقل إبراهيم بن المهدي حبسه المأمون عند أحمد بن أبي خالد الأحول

قال محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء: لما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي، حبسه عند أحمد بن أبي خالد، ولم يزل في أزجه.
فحكى يوسف بن إبراهيم، مولى إبراهيم بن المهدي، قال: لما وجه المأمون، إبراهيم بن المهدي، إلى أحمد بن أبي خالد ليحبسه عنده، دخل إبراهيم إلى أحمد.
فقال له إبراهيم: الحمد لله الذي من علي بمصيري إليك وحصولي في دارك، وتحت يدك، ولم يبتلني بغيرك.
قال إبراهيم: فقطب أحمد، وبسر في وجهي، وقال: يا إبراهيم، لقد حسن ظنك بي، إذ تتوهم أن أمير المؤمنين لو أمرني بضرب عنقك، أني أتعدى ذلك إلى غير ما أمرني به فيك.
قال: فأدرت عيني في مجلسه، فتبينت فيمن حضر من أهل خراسان، إنكاراً لقوله.
فقلت: صدقت يا ابن أبي خالد، إن قتلتني بأمر أمير المؤمنين، كنت غير ملوم، وكذلك لو أمرني بالشق عن قلبك وكبدك، فعلت ذلك، وكنت غير ملوم.
ولم أحمد ربي - وإن كان حمده واجباً في كل حال - لحسن ظني بك، ولكنني علمت، أن لأمير المؤمنين خزنة سيوف، وخزنة أقلام، وأنه متى أراد قتل إنسان، دفعه إلى خزنة السيوف، ومتى أراد مناظرته، دفعه إلى خزنة الأقلام.
فحمدت الله تعالى، على ما من به علي، من إحلاله إياي، محل من يساءل، لا محل من يعاجل.
قال: فرأيت وجوه كل من حوله قد أشرقت، وأسفرت، وأعجبوا بما كان مني.
فقال أحمد بن أبي خالد: الناس يتكلمون على قدر أنفسهم وآبائهم، وكلامك على قدر المهدي، وقدر نفسك، وكلامي على قدر خلقي، وقدر يزيد الأحول، وأنا أستقيلك مما سبق مني، فأقلني، أقال الله عثرتك، وسهل أمرك، وعجل خلاصك.
فقلت: قد أقال الله عثرتك.
قال: وما مضت لي في داره، خمسون ليلة، حتى سار إلي في نصف الليل، فأخرجني، وألقى علي درعاً، وظاهر بدراعة، وحملني على دابة، وهو يركض إلى الجانب الغربي، فوقفني بين الجسر والخلد.
فوقع في نفسي أن إلقاءه علي الدرع، إنما هو لإيراده إياي على سكران، فأراد أن يقيني بادرته، وعلمت أنه أراد أنه إذا ورد علي أمر، أن أتماوت.
فخلفني مع أصحابه، ومضى يركض، ثم عاد إلي.
ثم قال: يقول لك أمير المؤمنين: يا فاسق، ألم يكن لك في السابق القديم من فعلك، كفاية تحولك عما كان منك في هذه الليلة التي وثب فيها علي ابن عائشة وابن الأفريقي، ومن يتابعهما، وأضرابهم، حتى اضطروني إلى أن ركبت إلى المطبق لمحاربتهم، حتى أظفرني الله جل وعز بهم، فقتلتهم، وأنا ملحقك بهم، فاحتج لنفسك، إن كانت لك حجة، وإلا فإنك لاحق بهم.
فعلمت أن الرسالة ممن غلب عليه النبيذ، وأني أحتاج إلى إغضابه، حتى يغلب غضبه السكر.
فقلت: يا أبا العباس، دمي في عنقك، فاتق الله، ولا تقتلني.
فقال لي: يا هذا، ما الذي يتهيأ لي أن أعمل، وهل يمكنني دفع شيء يأمرني به ؟

فقلت: لا، وإني أريد أن أحقن دمي، بأن تؤدي عني ما تسمعه مني، وإنما تقتلني، إذا أجبته بجواب، فأديت عني غيره، تقديراً منك، أنه أصلح وأدعى إلى سلامتي، فلا يتلقى قولك بالقبول، فأد قولي كما أقول.
فقال أحمد بن أبي خالد: علي عهد الله، أن أؤدي ما تقول.
قال: فقلت، تقول له: يا أمير المؤمنين إن كنت تعقل، فأنت تعلم أني أعقل، فما أشك أنه سيستعيد منك هذا القول، فأعده.
وتقول له: يقول لك: يا أمير المؤمنين استترت منك، وأنت خارج عن البلد، وأنا نافذ الأمر فيه، ومعي عالم من الناس، وأثب بك في مدينتك، ومدينة آبائك، وأنا أسير في سرب ابن أبي خالد، مع نفر محبسين، مثقلين بالحديد ؟ هذا ما لا يقبله عاقل.
فأدى أحمد رسالته إلى المأمون، فقال: صدق، فأردده إلى موضعه.
فركض أحمد إلي، وهو ينادي: سلامة سلامة، والحمد لله رب العالمين، وانصرف إلى منزله.
قال ابن عبدوس: فأقام فيه، إلى أن انصرف المأمون، لنكاح بوران، فأشخصه معه إلى فم الصلح، وسألته بوران بنت الحسن بن سهل، فرضي عنه.

جيء بإبراهيم بن المهدي وهو مذنب وخرج وهو مثاب

وحدثني أبو العلاء الدلال البصري، بها، قال: حدثني أبو نصر بن أبي داؤد، قال: حدثني أبي، عن أبيه، قال: كنت يوماً عند المأمون، وقد جاءوه بإبراهيم بن المهدي، وفي عنقه ساجور، وفي رجله قيدان، فوقف بين يدي المأمون.
فقال له: هيه، يا إبراهيم، إني استشرت في أمرك، فأُشير علي بقتلك، فرأيت ذنبك يقصر عن واجب حق عمومتك.
فقال: يا أمير المؤمنين، أبيت أن تأخذ حقك إلا من حيث عودك الله تعالى، وهو العفو عن قدرة.
فقال المأمون: مات - والله - الحقد، عند هذا العذر، يا غلام، لا يتخلف أحد من أهل المملكة عن الركوب بين يديه، ويحمل بين يديه عشر بدر، وعشرة تخوت ثياب.
قال: ما رأيت إنساناً جيء به وهو مذنب، فخرج وهو مثاب، وأهل المملكة بين يديه، إلا هو.
قبض على إبراهيم بن المهدي وهو بزي امرأةوجدت في كتاب أبي الفرج المخزومي الحنطي: أن إبراهيم بن المهدي، لما طال استتاره من المأمون، ضاق صدره، فخرج ليلة من موضع كان فيه مستخفياً، يريد موضعاً آخر، في زي امرأة، وكان عطراً.
فعرض له حارس، فلما شم منه رائحة الطيب، ارتاب به، فكلمه، فلم يجب، فعلم أنه رجل، فضبطه.
فقال له: خذ خاتمي، فثمنه ثلاثون ألف درهم وخلني، فأبى، وعلق به، وحمله إلى صاحب الشرطة، فأتى به المأمون.
فلما أدخله داره، وعرف خبره، أمر بأن يدخل إليه، إذا دعي، على الحال التي أخذ عليها.
ثم جلس مجلساً عاماً، وقام خطيب بحضرة المأمون، يخطب بفضله، وما رزقه الله، جلت عظمته، من الظفر بإبراهيم.
وأدخل إبراهيم بزيه، فسلم على المأمون، وقال: يا أمير المؤمنين، إن ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناولته يد الاغترار، بما مد له من أسباب الرجاء، لم يأمن عادية الدهر، ولست أخلو عندك من أن أكون عاقلاً أو جاهلاً، فإن كنت جاهلاً فقد سقط عني اللوم من الله تعالى، وإن كنت عاقلاً، فيجب أن تعلم أن الله عز وجل، قد جعلت فوق كل ذي عفو، كما جعل كل ذي ذنب دوني، فإن تؤاخذ، فبحقك، وإن تعف، فبفضلك، ثم قال:
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقّك أو لا ... فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه
وقال:
أذنبت ذنباً عظيماً ... وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمنٌّ ... وإن جزيت فعدل
قال: فرق له المأمون، وأقبل على أخيه أبي إسحاق وابنه العباس والقواد، وقال: ما ترون في أمره ؟ فقال بعضهم: يضرب عنقه.
وقال البعض: تقطع أطرافه، ويترك إلى أن يموت، وكل أشار بقتله، وإن اختلفوا في القتلة.
فقال المأمون، لأحمد بن أبي خالد: ما تقول أنت يا أحمد ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن قتلته، وجدت مثلك قد قتل مثله، وإن عفوت عنه، لم تجد مثلك قد عفا عن مثله، فأي أحب إليك، أن تفعل فعلاً تجد لك فيه شريكاً، أو أن تنفرد بالفضل ؟ فأطرق المأمون طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال: أعد علي ما قلت يا أحمد، فأعاد.
فقال المأمون: بل ننفرد بالفضل، ولا رأي لنا في الشركة.

فكشف إبراهيم المقنعة عن رأسه، وكبر تكبيرة عالية، وقال: عفا - والله - أمير المؤمنين عني، بصوت كاد الإيوان أن يتزعزع منه، وكان طويلاً، آدم، جعد الشعر، جهوري الصوت.
فقال له المأمون: لا بأس عليك يا عم، وأمر بحبسه في دار أحمد بن أبي خالد.
فلما كان بعد شهر، أحضره المأمون، وقال له: اعتذر عن ذنبك.
فقال: يا أمير المؤمنين، ذنبي أجل من أن أتفوه معه بعذر، وعفو أمير المؤمنين، أعظم من أن أنطق معه بشكر، ولكني أقول:
تفديك نفسي أن تضيق بصالح ... والعفو منك بفضل جود واسع
إنّ الذي خلق المكارم حازها ... في صلب آدم للإمام السابع
ملئت قلوب الناس منك مهابة ... وتظلّ تكلؤهم بقلبٍ خاشع
فعفوت عمّن لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
ورحمت أطفالاً كأفراخ القطا ... وحنين والدة بقلب جازع
ردّ الحياة إليّ بعد ذهابها ... كرم المليك العادل المتواضع
فقال له المأمون: لا تثريب عليك يا عم، قد عفوت عنك، فاستأنف الطاعة متحرزاً من الظنة، يصف عيشك، وأمر بإطلاقه، ورد عليه ماله وضياعه، فقال إبراهيم يشكره في ذلك:
رددت مالي ولم تبخل عليّ به ... وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي
فأبت عنك وقد خوّلتني نعماً ... هما الحياتان من موت ومن عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال، حتى أسلّ النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عاريّة رجعت ... إليك لو لم تعرها كنت لم تلم
وقام علمك بي فاحتجّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متّهم
فإن جحدتك ما أوليت من نعم ... إنّي لباللؤم أولى منك بالكرم
فقال المأمون: إن من الكلام، كلاماً كالدر، وهذا منه، وأمر لإبراهيم بخلع ومال، قيل أنه ألف ألف درهم.
وقال له: يا إبراهيم، إن أبا إسحاق، وأبا عيسى، أشارا علي بقتلك.
فقال إبراهيم: ما الذي قتل لهما يا أمير المؤمنين ؟ قال: قلت لهما: إن قرابته قريبة، ورحمه ماسة، وقد بدأنا بأمر، وينبغي أن نستتمه، فإن نكث فالله مغير ما به.
قال إبراهيم: قد نصحا لك، ولكنك أبيت إلا ما أنت أهله يا أمير المؤمنين، ودفعت ما خفت، بما رجوت.
فقال المأمون: قد مات حقدي بحياة عذرك، وقد عفوت عنك، وأعظم من عفوي عنك أنني لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين.
إن من أعظم المحنة أن تسبق أمية هاشماً إلى مكرمة
وحدثني أبو الفرج الأصبهاني، قال: حدثني علي بن سليمان الأخفش، ومحمد بن خلف بن المرزبان قالا: حدثنا محمد بن يزيد النحوي، يعنيان أبا العباس المبرد، قال: حدثنا الفضل بن مروان، قال: لما دخل إبراهيم بن المهدي على المأمون وقد ظفر به، كلمه بكلام كان سعيد بن العاص كلم به معاوية بن أبي سفيان في سخطة سخطها عليه، واستعطفه به، وكان المأمون يحفظ الكلام.
فقال له المأمون: هيهات يا إبراهيم، هذا كلام قد سبقك به فحل بني العاص، وقارحهم، سعيد بن العاص، خاطب به معاوية.
فقال له إبراهيم: وأنت إن عفوت عني، فقد سبقك فحل بني حرب، وقارحهم، إلى العفو، ولم تكن حالي في ذلك، أبعد من حال سعيد عند معاوية، فإنك أشرف منه، وأنا أشرف من سعيد، وأنا أقرب إليك من سعيد إلى معاوية، وإن من أعظم المحنة أن تسبق أمية هاشماً إلى مكرمة.
فقال له: صدقت يا عم، وقد عفوت عنك.

لما قدم للقتل تماسك فلما عفي عنه بكى

وجدت في بعض الكتب: أنه لما حصل إبراهيم بن المهدي في قبضة المأمون، لم يشك هو وغيره في أنه مقتول، فأطال حبسه في مطمورة، بأسوأ حال وأقبحها.
قال إبراهيم: فأيست من نفسين ووطنتها على القتل، وتعزيت عن الحياة، حتى صرت أتمني القتل، للراحة من العذاب، وما اؤمله في الآخرة، من حصول الثواب.
فبينا أنا كذلك، إذ دخل علي أحمد بن أبي خالد مبادراً، فقال: أعهد، فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك.
فقلت: أعطني دواة وقرطاساً، فكتبت وصية ذكرت فيها كلما احتجت إليه، وأسندتها إلى المأمون، وشكلة والدتي، وتوضأت، فتطوعت ركعات، ومضى أحمد ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المقحمات{المخالفات التي يرتكبها النبي أو المؤمن اجتهادا باندفاع دون تريث وتفكر او دون روية } المغفورة إذا اجتنبت الكبائر

  المقحمات{المخالفات التي يرتكبها النبي أو المؤمن اجتهادا باندفاع دون تريث وتفكر او دون روية } المغفورة إذا اجتنبت الكبائر آيات ورد في...